BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

زيارة إلى وادي الغيلان_الفصل الثاني (محمد بهاء الدين)






 


خارت قدماي وسقطتُ جاثياً بجوار جسد مسعود و الدموع تفر من عيني لتختلط بالدماء ثم تسقط أرضاً؛ فقد

قتلت صديقي الميت الآن.....

 

لم تعد قدماي قادرة على حملي؛ فقد احترقت أعصابي و تبخرت دمائي و صار بي من الهون ما بكهلٍ

أصابه الشلل.....

 

الطرقات العنيفة على الباب لا تنقطع، والصيحات لازالت صاخبة لكنني لم أسمع أي منها فقد قتلت شخصاً

ما للتو، أعلم أنه ميت بالفعل لكني قتلته.....

 

لكن لحظة كيف لشخص ميت بالفعل أن يموت مرة أخرى؟

 

أجابني مسعود على هذا السؤال سريعاً؛ فقد هم بالنهوض بتثاقل و البلطة لا تزال مغمده في رأسه، فأدركت

الجواب على الفور، ببساطة لا يموتون بل يُضفي عليهم الموت شيئاً من الخلود.....

 

دوت رنات الأجراس مرة أخرى لكنها كانت خاطفة؛ فما إن التفت خلفي حتى وجدت باب الغرفة ينهار ووالد

مسعد يطل منه و على وجهه قسمات الغضب و السخط....

 

هنا صمتت الأجراس و أفسحت المجال للغناء الجنائزي وسط انقضاض أهل القرية عليّ بلا رحمة أو شفقة و قد زأرت أمعائهم جوعًا....

 

يقضمون اللحم ويلعقون الدماء ويبترون الأطراف ويتسلون بالأصابع و يتنازعون على لحم الرأس فهو الأشهى على قائمتهم.....

 

لكن لحسن الحظ لم يكن جسدي هو ما يُفتك به، بل كانوا مثل القروش التي لا تستطيع مقاومة الدماء حتى

لو كانت لقرشٍ آخر؛ فهاهم يلتهمون مسعود إلتهاماً و يسدون جوعهم غير مبالين بوجودي إطلاقاً....

 

لكن رغم ذلك لم يستطع جسدي النهوض؛ فقد كان في الأمر من البشاعة ما شل جسدي بالكامل.

 

لكن وسط صوت الغناء الجنائزي دقت أجراس النهاية لتُقظني؛ فلا شيء جيد يأتي من هذه الأجراس.....

 

هممت واقفاً بهدوء وانسحبت بخفة حتى لا أقطع عليهم وجبتهم، بل صُدمت حينما و جدت بقية أهل القرية

يتفادوني ليلحقوا بالوليمة في الأعلى....

 

خرجت من المنزل و رحت أركض و أركض إلى اللاشيء؛ فلا مكان أهرع إليه ولا ملجأ يأويني، فقط الهرولة

و مناجاة الله بأن ينجيني من هذا الجحيم.....

 

لكن دفعة الطاقة القادمة من الخوف تنفذ بمرور الوقت فقد كنت أركض لنصف الساعة من الزمن دون أن

أجد شيئاً، فالمجهول يدحر الصبر و يمحقه و يُسكن مكانه ظُلمات الخوف و الوجل....

 

توقفت على مقربة من جدول المياة ألتقط أنفاسي وقد صارت قدماي تحملانني بصعوبة بالغة في تهديدٍ

صريح منها بأن تخر في أي لحظة....

 

لكن ما هذه الحركة الخافتة القادمة من بين فداديين القمح، وما هذه الفحيح الزاحف القادم من بين حقول

البرسيم، سُحقاً الأمر أشبه بأسد يتربص بفريسته لينقض عليها....

 

إذاً لقد وصلوا وأنا غير قادر على الاستمرار بالركض، إنها النهاية اللعينة التي تلوح في الأفق....

 

ربما لن أنجو الليلة لكني على الأقل أجهزتُ على طُعْمِهِمْ الذي يستدرجون به ضحاياهم.

 

فمسعود كان الجثة البشرية الوحيدة التي يستخدمونها لإستدراج الأشخاص من الخارج إلى هنا ليتفردوا بهم في

أحراش هذه القرية، وبأكلهم له سيموتون جوعاً في القريب العاجل.

 

لكن لحظة لما لا يستطيعون الخروج من هذه القري إلى أي مكانٍ آخر ليصطادوا فرائسهم؟

 

لما لا يقفون بمحطة القطار مثلاً لإصطياد العشرات من المسافرين، ما السبب الذي يمنعهم ياتُرى؟

 

أيَّا يكن السبب فلا وقت لإكتشافه الأن؛ فصوت الفحيح يقترب والحشود المختبئة بين الحشائش تتقدم نحوي

بغزارة....

 

أدركت أنها قد تكون النهاية فلن أركض مبتعداً على أي حال؛ فجلست أرضاً أتأمل المشهد الريفي الجميل،

فالخُضرة لها مساحات شاسعة هنا، و هذا يُكسبها جمالاً و ملاحة رغم ما يتربص بي في ثناياها.....

 

وبينما صرصور الحقل يغرد أتت سيارة صغيرة من بعيد مشهرة أضوئها لتميط الظلام و يحل محله ضوئها المزعج.

 

فسمعت من خلجات الحشائش صرخات وتأوهات و تحشرجات، ونهض أهل القرية العراة من بين الحشائش و قد سُلخت جلودهم سلخاً في مشهد أصابني بالجمود و التقزز، فصمتُّ في شدوه.....

 

فروا من الضوء فراراً كالطير حينماً يُطلق الصياد رصاصه.....

 

راقبتهم وهم يهرولون هاربين دون أن يتبقى منهم أحد، لكن عوضاً عن الصراخ كان السباب والوعيد، لا أعلم

ألي هذا السباب أم لراكب السيارة لكن أياً يكن من ينقذني ليس بالشخص السيئ....

 

(يالا سذاجتي)

 

نهضت و دنوت من السيارة لأجد رجلاً أربعيني بدين، له وجه مريح كالذي يتميز به أغلب البدناء، وابتسامة

بشوشة جعلتني أشكر الله و أحمده على نعمه الغزيرة....

 

هتف بي الرجل بهدوء:

-أنا ذاهب إلى محطة القطار، أتحتاج إلى المساعدة؟

 

أومأت برأسي و قفزت إلى داخل السيارة، أرحت جسدي على المقعد بلا شكر أو إستئذان؛ فقد نجوت، أخيراً

سينتهي هذا الكابوس....

 

لم يعترض الرجل الطيب بل إكتفى بالابتسام وشرع في إستكمال طريقه.....

 

كدت أسلم رقبتي و أنام لولا أن عقلي الحقير هذا تساءل بفضول كعادته؛ ألم يشاهد هذا الرجل أهل القرية

العراة و هم يفرون من ضوئه، أهو معتاد على هذا الأمر؟

 

تذكرت حينها مسعود الله يرحمه حينما نهض وأشار لي إلى المصباح والمنبه.

 

الآن أدركت ماذا يعني بالمصباح؛ فهؤلاء القوم يحترقون بالضوء الشديد.

 

تبقى لي معرفة ما كان يعنيه بإشارته للمنبه، على أي حال سأنام قليلاً فمن يحرق هذه الأشياء اللعينة

يستحيل أن يكون منهم....

 

(يالا سذاجتي حقاً)

 

لا أدري متى غبت عن الوعي أو كم مضى من الوقت لكن دقات الأجراس مرة أخرى تطرق من بعيد، وكما

تعلمون فهذه الدقات لا يأتي من خلفها خير....

 

فتحت عيني في هلع لأجد السيارة وقد توقفت، فالتفت إلى هذا الرجل الطيب لأسأله عن السبب في توقفنا المفاجئ.

 

لكنني خرستُ تماماً حينما وجدت حجمه يتضخم أكثر من ذي قبل، وعروقه تبرز بشده، وفاه ينفغر على

آخره و اللعاب يسير منه....

 

سُحقاً انه منهم، بالطبع هو منهم، لقد أحرقهم بالأضواء و أخذني لمكانٍ ناءٍ ليستأثر بالوجبة الدسمة

لنفسه.....

 

لم يمهلني دقيقة للتفكير أو للصراخ بل إنقض علي بغتة، وهم لقضم حنجرتي لولا أنني قاومته بيدي....

 

لقد كان شرساً مسعوراً جائعاً، يسيل لعابه المقزز ليلامس و جهي، لكن هذا أفضل من الإلتهام....

 

لكمني بقوه في أنفي، فتهشمت تقريباً وسال منها الدماء و مع هذه الدماء الشهية إزدادت ضراوته كالمجنون

وهو يصرخ و يترجاني لأتركه يلتهمني بهدوء.....

 

كان جسدي واهناً في الأساس و مع لكمته أفلتَّه من بين يدي فقبض على معصميَّ بقوه ليتهشما بين

أصابعه، وكبلهما حتى لا أستطيع مقاومته وهو يضحك بسعادة غامرة.....

 

جاءت اللحظة الحاسمة أخيراً و دنى من وجهي حتى شممت أنفاسه النتنة المختلطة برائحة دمائي، إنه يريد

البدأ بدمائي أولاً ياله من ذوق رفيع حقاً......

 

أخرج لسانه ليلعق الدماء و كشر أنيابه ليقضم الأصابع.

 

على حين غرة جحظت عيناه بقوة حتى كادت مقلتاه تسقط من محجريهما وتقيأ عليّ ليفرغ كل ما بمعدته من

مياه و سقط جثة هامدة......

 

في هذه اللحظة دقت الثالثة بعد منتصف الليل ليسكن كل شيء.....

 

دفعت جسدي من أسفل كومة اللحم والشحم المستلقية فوقي، وهبطتُ من السيارة زحفاً لألتقط أنفاسي فرايته

يقترب من بعيد....

 

مسعود!!

 

أو ما تبقي من مسعود، يسير بتمايل كمن به عله، وقد فقد الكثير من جسده و أطرافه و قد بدت آثار العض

و القضم بادية على جسده....

 

هنا أُعتصر قلبي و شعرت بيأسٍ رهيب؛ فلمَ يُلقي لي القدر طوق النجاة ثم يلقيني في أعماق المحيط ثانية؟

 

يبدو أن أكلي لحوم البشر ليسوا وحدهم من يستمتعون برؤيتي أتعذب.....

 

دوى صدى دقات الأجراس صاخباً هذه المرة، فإنتفض جسدي و شرعت أزحف مبتعداً عن مسعود....

 

لكن كيف؟!!

لقد لحق بي بسهولة وهاهو يقف أمامي الآن بنصف رأس ولازالت البلطة ساكنة في جمجمته....

 

((ألم تفهم الأمر بعد؟))

 

سمعت هذه الجملة بصوت مسعود صديق الجامعة النقي الذي ينبهر بأقل شيء.

 

فشعرت بقهر الخيانة و بغضها، فصحت به بغضب متجرداً من الخوف:

-بل فهمت كل شيء أيها الوغد، لقد إستدرجتني إلى هنا حتى يأكلني أهل قريتك المجانين، لقد إستغللت

حماقتي و صداقتي لتأتي بي إلى هذا الجحيم.

 

لمعت عينه اليسرى المتبقية وهو يتخذ القرفصاء ليقترب مني قائلاً بصوتٍ ودود:

-لقد إستدرجتك إلى هنا صحيح فأنا من الغيلان على أي حال، لكنني كنت بشرياً يوماً ما ولازالت مشاعر

البشر تؤرق قلبي، لقد أحببتك بصدق و لم أستطع أن أتركهم يأكلونك، فساعدتك لتنجو و ها أنت هنا الآن

سليم معافى.

 

إبتسمت بتهكم قائلاً:

-أجل لم ينقص مني فخذ أو إصبع، الوجبة بأكملها لك، يالك من وغدٍ محظوظ حقًا.

 

إبتسم كما كان يفعل عادة من سخريتي المريرة في المواقف الصعبة، ثم قال:

-لقد أنذرتك عديد المرات لتهرب، البداية حينما كنا مع أبي وأخواي، والثانية قبل أن ننام مباشرة، والرابعة

حينما أخبرتُك أن تشعل الضوء، لكن كالأحمق كنت ستشعله و أنا بالغرفة لتحرقني فتجهمت في وجهك

لأمنعك، و أشرت لك بالمنبه لتعلم أن الأمر مقيد بوقت، فنهوضنا نحن الغيلان يكون لساعة واحدة في العام

 وهي من الثانية بعد منتصف الليل إلى الثالثة في الليلة القمرية الأولى من شهر مايو.

 

إستدرت لأتكئ على ظهري وأرى نجوم السماء والقمر المكتمل البديع يزينها، وأنا أسأله:

-والأجراس ما قصتها؟

 

هنا مط حاجباه قائلاً بدهشة:

-ظننتك تعرف أنها ترافقك.

 

تساءلت بلا فهم:

-من هي؟

 

أجابني وهو يمد يده اليسرى مبتورة الأصابع ليعينني على النهوض:

-أميرة من الجن.

 

في هذه اللحظة شعرت بسخونة الجحيم و برودة القطبين في الوقت ذاته، واشتدت الرياح لألتفت رغماً عني

إلى هذه القطة السوداء ذات الشعر المتفحم التي ترمقني من بعيد....

 

لن أخبرك عن سر هذه القطة بالطبع بل سأتركك تتعذب بالفضول و الانتظار لتتجرع من هذا الكأس اللعين

الذي أستقيتُ منه لأقص لك هذه الأسطر الشيقة.

***

 

((العدد القادم، الهاربة))






(((لقراءة الفصول والأعداد التالية اضغط هنا)))

 

#زيارة_إلى_وادي_الغيلان

#الباحث

#محمد_بهاء_الدين


تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شاركنا رأيك في هذه التجربة