BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الرابع والعشرون (محمد بهاء الدين)

 




(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



في هذه الأثناء كان ثائر يُدخن لفافة التبغ وهو يُطالع تقارير العمل التي أثقلت رأسه ويقارنها بخُطته التي رسمها.

 

سرعان ما تبسم ساخرًا وهو يقول:

-هربت من هذه الأشياء اللعينة في ثمرة الجنة وها هي تعود لي ثانية.

 

ثم ترك الأوراق تنساب من بين أصابعه وهو يُتمتم:

-لقد عاد صديقك ليحب مرة أخرى وتركك وحيدًا حسودًا يا ثائر، سُحقًا كم أشعر بالوحدة.

 

ثم نهض عن مقعده يرمق شوارع نابولي عبر النافذة وهو يهمس لنفسه:

-أهذا ما أردته حقًا يا ثائر، من يترك القصور ويعود لأجل هذه الخردة البالية، أخوفي من العودة للزقاق والتشرد مرة اخرى هو ما أعادني لتغير ملامح هذه المدينة؟

 

تنفس التبغ ونفث أدخنته المختلطة بحُرقة الندم، ثم لعن ماضيه حينما كان حفيد الدون كوستيلو زعيم عائلة نوسترا.

 

هذا الرجل العنصري البغيض الذي ظلم وهمّش طفلًا لم يتجاوز الثامنة من عمره بعد، بل من قبل ذلك لكن ثائر لا يتذكر طفولته البعيدة.

 

نفث ألسنة التبغ مرة أخرى وهو يرى أتباع جده ينهرونه أرضًا ثم يكيلون له الضربات بالهراوات حتى هشموا عظامه.

 

ثم تركوه خرقة بالية لا يستطيع الحراك، لم يجهزوا عليه لأن أعداء الدون كوستيلو كانوا قادمين للنيل منه، فترك حفيده ليشفوا غيظهم به ويتخلص منه في آنٍ واحد.

 

لكن رغبة النجاة اللعينة في هذا الطفل الأشقر أجبرته على الحركة بجسدٍ مهشم.

 

كان يرود الهروب من باب القصر لكن أعداء عائلة نوسترا قد وصلوا بالفعل.

 

فلم يجد ملاذًا سوى إلقاء نفسه من النافذة لتزداد عظامه المهشمة حطامًا.

 

نجى هذا اليوم إلى الشوارع والذقاق التي فتحت له ذراعيها؛ فلا مكان آخر يذهب إليه؛ أمه أخذها والدها _الدون كوستيلو_ قسرًا، والأب لم يكن له وجود من قبل.

 

كان فتًا مرفهًا معتاد على معيشة القصر في صباه، فذاق الويلات في الشواع التي لا ترحم.

 

فالمطاعم والمخابز ترفض إطعام المتسولين وتضع بقايا الطعام للقطط والكلاب الشاردة من باب الرفق بالحيوان، ماذا عن البشر إذًا، من يرفق بهم؟

 

كان مجرد طفل لم يعلمه أحد أمور دينه، لكنه وثق أن هناك من يُدير كل شيء من مكانٍ ما، هناك من يراه الآن وأسقطه في حاوية القمامة لأجل شيء ما.

 

توسل ودعى وتضرع بدمع طفلٍ صغير حتى يُنجده الله من هذا الجحيم ويُعيده إلى أمه فقط.

 

لكن الصلوات لم تُستجب وظل هائمًا في الطُرقات يلعق الثرى، لم يتحمل مثل هذه حياه وهو الذي لم يذق مشقة من قبل.

 

فنال منه التلوث والحمى لطعامٍ تناوله من القمامة، فغزت عقله الهلاوس والأوهام؛ فهاهو يرى أمه الآن.

 

تبتسم له وتُريح رأسه على قدميها بينما تضع على جبهته خرقة مبلتة بالمياة.

 

نطق بصوتٍ واهن لم يسمعه سواها:

-لقد كان كابوسًا مريرًا يا أمي.

 

دمعت عينيها وملست على شعيراته التي أخفى الغبار والطمي لونها الأشقر، ثم قالت بصوتٍ طفولي لا يمت لصوت أمه بصلة:

-لا تقلق، ليس هناك ما يؤذيك الآن.

 

تذوق الطعام غير الفاسد لأول مرة منذ عدة أيام فظن نفسه لازال يهلوس، تجرع المياة فظن أنها عرق المشقة يتفصد من جبهته فيقوم بلعقه.

 

لم يُرد ان يستفيق أبدًا إن كانت الأوهام بهذه الرأفة التي غابت عن الواقع.

 

رأى هذه الفتاة تبتسم له مُشهرة عن نابٍ قد فقده فمها اثر شجارٍ ما، وهذا الفتى الضخم بشوش الوجه يجلس جوارهما.

 

سألها بلثانٍ واهن متثاقل:

-أين أنا؟

 

فأجابته بمرحٍ طفولي:

-منزلك الجديد، البالغون يسمونه الشارع ونحن نسميه الوطن.

 

تساءل ثائر:

-نحن؟!

 

أجابته الفتاة معرفة بنفسها:

-أنا مارتينا، وهذا الضخم هناك فدريكو، وهذا الفتى الذي يرتدي النظارات رغم كون رؤيته تفوقنا جميعًا يُدعى بانتي، أما هذا الأبلهان الذان يضحكان على الدوام فهم جيف ومانز.

 

هكذا كان اللقاء الأول بمارتينا ورفاق الزقاق، وهكذا بدأ ثائر يتخذ منهم عائلة، يسرقون الطعام وينشبون المحافظ ويتسولون على المارة.

 

أمام قسوة الحياة الجديدة انفجر غضب ثائر، غضبه من والده الذي لم يُجد من قبل وتخلى عنه.

 

غضبه من أمه التي ارغمته على البقاء في كنف جده العجوز لأجل زعامة عائلة نوسترا والتي لن تنالها يومًا.

 

غضبه وحقده على جده الذي مثل له الشيطان الأعظم الذي يوكل إليه تعذيب البشر في الجحيم.

 

رجل بلغ من الكبر عتيا وجميع من حوله يموتون إلا هو، كأنه أمضى عقدًا مع الموت أن لا يزوره قبل أن يحصد أرواح الجميع.

 

فتحول هذا الغضب إلى عنف وبرود، يقاتل بأي شيء وكل شيء؛ كسرة زجاج لا بأس، سكين، لا يوجد ما هو افضل من ذلك، شفرات حادة، تفي بالغرض.

 

فجعلته دمويته القائد على هذا القطيع من المشردين، وجعلته قيادته مسؤولًا عن المشردين جميعًا؛ فصار يتنقل بين الزقاق ويوزع الطعام والشراب.

 

حتى بات يتبعه حشد كبير من الرفاق رأوا به الأمل والخلاص لنجاتهم من هذا الجحيم، إتخذوه أبًا رغم كونه لم يتخطى الثانية عشر من عمره بعد.

 

حتى أتى هذا اليوم الأسود الذي تعرض لهم أحد رجال الكامورا فهم من يسيطرون بنابولي والصدام بهم حتمي.

 

ادلهم عليه رفاق الزقاق حتى نالو منه، لم يأتِ رفاق الرجل من الكامورا للنيل منهم لأن جميع عائلات المافيا (الكامورا، نوسترا، الاوروكا) كانوا منشغلين بحربٍ عصيبة.

 

فقد اندلعت في أوروبا أجمعها سلسلة مع الحروب مع مافيا اخوان الشمس الروسية، فكان الجميع منشإلا بهذا الصراع.

 

فلم يبالي أحد بحفنة من الأطفال اللقطاء يسيطرون على زقاق جنوب نابولي ذات الفقر المضجع.

 

فصار ثائر ورفاقه يغزون مراكز الكامورا التي لا تحتوي سوى على القليل من الحراس، ويسرقون السلاح.

 

شم المحافظ أنطونيو كونتي رائحة تهديد على الكامورا الذين استعبدوه لسنوات ووقفوا عائقًا في وجه مشاريعهالانتخابية.

 

فتقرّب من ثائر ورفاق الزقاق ومدهم بالسلاح لمحاربة الكامورا، كعادة فتية مفعمون بالغب من الظلم والقهر، قادهم ثائر للاغارة على معاقل الكامورا.

 

ففاجتاحوا مواخيرهم التي اشتروا بها الفتيات بثمنٍ بخس، ونحررهن ليلتحقن برفاق الزقاق.

 

على رأس بائعات الهوى الاتي تحررن من يد الكامورا كانت الأخت نورينا.

 

بمرور الوقت احتلت الأخت نورينا مكان الأخت؛ فأعدت الطعام للجميع واعتنت بالمرضى منهم وتولت تنظيفهم.

 

على رأس المقربين منها كان ثائر؛ الفتى الذي ذاق نعيم الأمومة من قبل، فتعلق بشدة بأمه الجديدة التي تمنى أن يحظى بها.

 

أم لن تغامر به لأجل منصب أو ورث، أم قد تقاتل العالم كله لأجله، أم تسمع ترهاته دون أن يصيبها الملل.

 

كان هذا القُرب يقع تحت أنظار مارتينا؛ الطفلة التي أحبت ثائر ورأته الفارس الذي يعتلي الحصان ليقودهم إلى النجاة.

 

لكن انشغاله بنورينا أغلب الوقت جعلها تكن شيئًا من الكره الطفولي لهذه السارقة التي سرقت محبوبها.

 

حتى أتت هذه اللحظى التي أُصيبت بها مارتينا بالحمى، كان أمر شائع الحدوث بالأخص مع حالات التسمم التي تحدث نتيجة الطعام الفاسد.

 

لكن على عكس الأخريات؛ حرارة مارتينا لم تهبط، مرت عدة أيام والحمى على أوجها، تُدندن باسم ثائر أحيانًا وتطلب منه نجدتها من الشياطين أحيانًا أخرى.

 

في هذه الأثناء كان خروج أحد أطفال الزقاق إلى البر الرئيسي أمر في غاية الخطورة.

 

فحتى وإن كانت الكامورا منشغلة في الحرب فإن فلولها يترقبون خروج أي من هؤلاء الصعاليق.

 

لكن ثائر حسم أمره وحملها على ظهره صوب احدى مستشفيات البر الرئيسي..

 

في هذه الأثناء بتر شرود ثائر وهيامه في ذكرى الماضي هذه الطرقات الهادئة على بابه.

 

في حقيقة الأمر، كان ثائر ينتظر أي شخص يُنجده من جحيم الماضي، فأذن بالدخول دون أن يعرف من الطارق.

 

((مضى الكثير من الوقت دون أن نتحدث رغم عودتي القصيرة.))

 

نطقها هذا الرجل الثلاثيني قصير القامة، يرتدي النظارات الواقية من الشمس على الدوام، خصلات شعره المدولة تصل إلى منتصف رقبته.

 

تبدوا عليه ملامح الوسامة والتي زادتها هذه اللحية التي نبتت عند ذقنه، بدا مقربًا من ثائر حينما جلس على المقعد المقابل منه وتناول لفافة تبغ من علبته.

 

في حين رد عليه ثائر قائلًا:

-مضى الكثير من الوقت منذ عزفت عن فعل أشياء كثيرة، احداها جلسة مطولة مع أحد الأصدقاء.

 

نفث الرجل الألحي أدخنة التبغ ثم قال بصوته فائق الهدوء الذي يجعلك ترغب في الاستماع المطول لكلماته:

-تعلم أنني أحبك كثيرًا يا ثائر، ربما ليس كهذا العملاق فدريكو فهو متيم بك، لكن أنت أحد الأشخاص المفضلين لدي في قائمتي.

 

استدار ثائر وعاود الجلوس على مقعده قائلًا بمزاحه الساخر:

-أنا على قائمة المفلين لدى بانتي ذو الأعين الخارقة، ياللهول.

 

تبسم بانتي، ثم وضع أمامه صورة أريوزولا متسائلًا:

-لمَ لم تجعلني أقتل هذا الشخص، لماذا جعلتني أكتفي بثقب يده فقط؟

 

ثائر باستفزاز:

-لأنني أردت ذلك.

 

بانتي بعدم اقتناع:

-بل لأنك تعرف أن مارتينا تمكث معه، فأردت الوصول إليها من مراقبته.

 

صفق ثائر بيده قائلًا:

-إجابة صحيحة ياذو الأعين الخارقة.

 

رغم نبرة ثائر المستفزة إلا أن بانتي لازال أهدأ من محيطٍ بلا تقلبات وهو يسأله:

-لماذا لم تقتلها إذًا؟

 

انتشل ثائر علبة التبغ من أمام بانتي وأخذ منها واحدة، وهو يُجيب بالاستفزاز ذاته:

-لديها قوام فريد من نوعه كما تعلم، قد ينقرض هذا القوام ان قتلتها، أنا فقط أنتظر أن تلد فتاة وثيرة القوام لتُكمل خطى والدتها.

 

تحول هدوء بانتي إلى شيء من السخرية وهو يقول:

-عن أي خُطًا تتحدث، تقصد أن تلاحقك بينما هي متزوجة من آخر ولها منه ولد بالفعل؟

 

نفث ثائر أدخنة التبغ محاولًا كبح انفعاله وهو يقول متهكمًا:

-من حسن حظها أنه ليس فتاة، أليس كذلك؟

 

صمت بانتي عدة ثوان ليستوعب الأمر، ثم طرف عينه بهدوء قائلًا:

-لم أعهدك رقيق المشاعر هكذا أيها الوريث الهجين، إن كنت لا تريد قتلها فدعنى نفعل، لقد قتلت نورينا و..

 

بتر ثائر عبارته منفجرًا:

-لديها إبن يا بانتي تبًا لك، لديها إبن..

 

ثم ألقى لفافة التبغ ارضًا بعصبيه وهو يردف وقد تفلّت ما كان يكظمه في قلبه:

-ما ذنب هذا الطفل ليُحرم من أمه، أي شيطانٍ قذر أنا لاجعله يذوق معاناتي؟

 

صمت بانتي أمام كلمات ثائر، واتسعت عيناه في ذهول؛ فما بال هذا الشخص بالضبط؟

 

لا يتوانى عن سحق من يمس اسمه بسوء لكنه يتخلى عن شرفه لأجل طفل صغير لم يره من قبل.

 

فتركه بانتي يُكمل حديثه وقد تبللت نبرته بعض الشيء مردفًا:

-لقد ذقت من الجحائم ألوانًا في مكب النفايات المسمى بالزقاق، قد أنتصر لنفسي اليوم وآتي بمارتينا لقتلها على الملأ لكن أتظن هذا الطفل لن يزورني في نومي حيث لا يوجد من ينجدني من بين يديه؟

 

أفرغ بانتي أجخنة التبغ وألقى عقب لفافته أرضًا وهو ينهض قائلًا:

-أنا بجانبك، لكنني لن أكون معك طويلًا، فلدي الكثير من الأمور لتسويتها في آسيا، كما في المرة السابقة ان إحتجتني أرسل لي فحسب.

 

لعن ثائر نفسه لانفلات أعصابه للعلن، بل امام أحد رفاقه وأقدم أشقائه الذين يرون به أباهم الروحي، فعض شفته بحنق وأشاح بوجهه بعيدًا.

 

في حين هم بانتي مغادرًا، لولا أن شيئًا ما استوقفه فقال:

-فاغنر الروسية، اتعرف عنها شيئًا؟

 

استمع ثائر هذا الاسم من قبل في مكانٍ ما لكنه لا يتذكر أين بالضبط ولا متى، فسأل بانتي:

-القليل، ماذا بهم؟

 

بانتي:

-سمعت أنهم يحشدون لتكوين تكتل في ايطاليا يكون ضاغطًا على الحكومة الايطالية، ونظرًا لمشاكلك مع المحافظ امؤقت في الوقت الحالي فلا بد أنهم سيحاولون التواصل معك.

 

ثائر بغرورٍ متهكم:

-من الجميل أن يسعى إليك الأوغاد ليكسبو ورقة رابحة على أوغادٍ آخرين، لكن كما تعلم يابانتي، الوريث الهجين الجميع يتبعونه ولا يتبع أحد.

 

تبسم من ثقة صديقه، ثم هم مغادرًا وهو يلوح بيده قائلًا:

-المرة القادمة سنجلس سويًا نحتسي الشراب ونهرطق بالحديث؛ فقد اشتقت لك ياصديقي.

 

***

 

لم تنم ماريا هذه الليلة، بل دأبت على قراءة مذكرات والدها وإحتفظت بورقة وقلم دونت بها فيض الأفكار الذي لازمها أثناء عصفها الذهني.

 

لم ينتشلها من ثباتٍ دام لأكثر من اثنتي عشر ساعة سوى خربشة ذئابها الجائعة بالخارج.

 

فتبسمت لوجود من يؤنث وحدتها، وإتجهت إلى مخزن صغير صار أقرب ما يكون من المزرعة لضمه عديد المواشي الحية.

 

ثم أخرجت اثنتينه وربتت عليهما بهدوء حتى تُذهب عنهما الروع، وبصفيرٍ مفاجئ ظهر ذئبيها من بعيد.

 

راقبت ماريا نظرات الهلع وألم الخيانة في عيني فرائسها وهي تهرع للهروب.

 

تذكرت نفسها بالمجلس هذا اليوم وجميع الذئاب تنهش بها بلا شفقة كأن بينهم وبينها ثأر مُبيت منذ زمن.

 

كان الوقت باكرًا، فأعدت ماريا إفطارها هي الأخرى، ثم راجعت الخطوات التي أعدتها كأنه ستُقدم خطة لمستثمرين قادمين لزيارتها وليس دينا وأحمد.

 

ثم نزعت ثيابها لترتدي ملابسها الرسمية، شردت في أوشامها قليلًا ثم اتخذت قرارًا أنها تُريد وشمًا آخر يتخلل صدرها وبطنها.

لماذا؟، لا تعرف جوابًا صريحًا، لكن رسم صورة لشخصٍ ما على جسدها تجعلها تشعر بدفئ هذا الشخص وقربه منها.

 

لكن لمن سيكون هذا الحيّز يا تُرى؟

عات إلى غرفة المعيشة حيث سيُعقد اجتماعها الصغير، تراجع كل شيء للمرة المائة ثم تتفقد ساعة الجدار لتجدها لم تتجاوز السابعة بعد.

 

ومن المقرر أن يُعقد هذا الاجتماع في التاسعة، ماذا تفعل في ثلاث ساعات بأكملهم؟

 

لم يكن باستطاعتها أن تُترك لرأسها، فماريا القاتلة التي ترتدي قناع الذئب وتقود القطيع لاصطياد البشر تغزو أفكارها كلما تفرّدت بنفسها.

 

لهذا ذهب إلى مؤنسها الوحيد، فالتقطت مذكّرة والدها واتخذت مقعدها الخشبي لتسبح قليلًا في طيات ذهنه.

 

((الدماء!!، بالطبع لم أحبها يومًا يابني، كل ما أردته يومًا كان التفوق والاستقلال كأي شخص.

 

لكن مقتي للحياة الرتيبة وعرّاب الانتقام الذي سيطر علي هما من جعلني أسلك أي دربٍ مادام يقود إلى وجهتي.

 

فاحذر من عراب الانتقام ولا تدعه يتلبسك أبدًا؛ فبينما أكتب لك هذه الكلمات واردتني ذكرى أصدقائي؛ أدريان الرجل الأسمر قليل الكلام، لديه مرض يمنعه من الشعور بالمناسبة.

 

إلتقيت به ذات يوم وأنا على شفى الانتحار، حينما أخبرني أن لديه هذا المرض الذي يجعله لا يشعر بأي ألم، أطلقت النار على ذراعه على الفور.

 

لكن أنظر إلى المفاجأة، لقد كان صادقًا، فضممته إلى فريقي رفقة أحمد ودينا ومراد وصديقي المقرب أكرم.))

 

انتشلتها زمجرة ذئبيها من انغماسها في عالم والدها، فتساءلت بينما تنظر إلى مصدر تحفزهم:

-ماذا هناك؟!

 

من خارج السياج الذي يحيط فيلاها بشاطئها الخاص، وجدت أحمد ودينا يلوحان لها في ذعر من هاذين الوحشين.

 

فتحسست ماريا رقاب ذئابها لتُهدئهم قائلة:

-لا تقلقوا، لا خوف على أمكم.

 

ثم نهضت لتفتح الباب إلى ضيفيها، لكن قبل ذلك تفقدت كل شيء للمرة الثانية بعد المائة.

 

دلفت دينا إلى الفيلا وهرعت على الفور لتغلق منفذها الزجاجي المفضي إلى الشاطئ حيث الذئبين وهي تقول بجزع:

-أعذريني على وقاحتي، لكن لم أعتد العمل مع الذئاب الآكلة للحوم يومًا.

 

طبعت ماريا على وجهها ابتسامة طفيفة حتى لا تفقد الطابع الرسمي الذي تُريد أن يسير إليه هذا الاجتماع.

 

استشف أحمد ذلك من تحضيراتها وإعدادها للفيلا بأكملها لتكون ذات طابعٍ رسمي، فمد يده مصافحًا ماريا وهو يقول:

-أين سيُعقد الاجتماع آنسة ماريا؟

 

أشارت ماريا إلى غرفة المعيشة، فأومأ أحمد برأسه وإتجه إلى هناك في صمت أشعرها بجديته، لكن دينا دنت منها بطابعها الأموي تسالها:

-هل تناولتِ افطاركِ عزيزتي ماريا، أتريدين كوب قهوة لتكوني مستفيقة في هذا الاجتماع..

 

ثم محجري عينيها المرهقتين وهي تعاتبها:

-لمَ تضغطين على نفسكِ إلى هذه الدرجة عزيزتي ماريا يُمكن أن..

 

بترت ماريا كلامها بلباقة:

-تناولت افطاري أشكركِ أنا في كامل تركيزي الآن، أرجوا أن تتعاملي مع الأمر بجدية.

 

أجابتها دينا على الفور:

-أنا أفعل ياعزيزتي.

 

أومأت ماريا برأسها في ترحاب، ثم أشارت إلى غرفة المعيشة قائلة:

-من هنا.

 

أذعنت لها دينا، في حين أخرجت ماريا علكة من جيب سترتها وتأملتها بضع ثوان، ثم تناولتها بفمها وهي تُتمتم:

-فلتكن بجانبي اليوم وكل يوم.

 

لحقت بهم إلى قاعة الاجتماع، فوجدت أحمد يُطالع الأوراق التي أعدتها لكل واحد منهما على مقعده، في حين كانت دينا تُداعب شعيراتها وتتلفت في أرجاء الغرفة بلا تركيز.

 

فتبسمت لتذكرها والدها حينما وصف دينا قائلًا:

-دجاجة تائهة، لا تُؤدي عملها سوى ضعينها على الميزان تهيئة للذبح.

 

ثم استهلت ماريا حديثها:

-أبي كان متمعًا يحسٍ أدبي تأليفي، لهذا كان مبدعًا مجنونًا يُجيد حبق الأفكار.

 

ثم رسمت دائرة بقلمها على لوح الشرح مردفة:

-لهذا نحتاج إلى فريقٍ من الكتاب.

 

لم يفهم أحمد الأمر بعد، لكنه أراد مهاجمتها كما يفعل كل مستثمر حينما تُقدم له دراسة جدوى لاستثمار أمواله:

-ماذا سيفيدنا تجميع فريقٍ من الكتاب، نأتي بهم لنطعمهم وندفع لهم المال مقابل أن يكتبوا لنا كتب لنبيعها، أأتيتِ بي إلى هنا لتعرضي علي فكرة دور نشر؟

 

هزت ماريا رأسها نفيً وهي تُجيب:

-كل شيء في الحياة ليس سوى قصة قديمة، الحروب نُسجت في هيئة روايات أسطورية، الافلام تجسد روايات، الأثرياء لهم قصة كفاح تجذب الناس لهم، أبطال الأساطير لم يحبهم أحد سوى لأجل قصصهم الملحمية.

 

أحمد مهاجمًا:

-لم أفهم بعد، لماذا أراهن بأموالي عليكِ؟

 

همت دينا للدفاع عن ماريا قائلة:

-لماذا تهاجمها هكذا، هي لم تُكمل حديثها بعد، إن كنت على عجل لهذه الدرجة عليك الرحيل.

 

رغمًا عنهما، ضحك أحمد وماريا بصخب؛ فالأخيرة تعلم أن أحمد يفعل ذلك تلبية لرغبتها في أن تُضفي على الاجتماع طابعًا رسمي، وهو يدّعي كل هذا ليلبي رغبتها.

 

دينا الوحيدة التي لم تكن تعلم شيئًا، لهذا قال احمد مداعبًا:

-لنكف عن هذه الحماقة، فدينا المسكينة لن تتحمل.

 

في حين دارت دينا بنظرها بينهما في عدم فهم، فتابعت ماريا حديثها بمرح:

-أعذريني حبيبتي دينا؛ فنحن نلهو قليلًا ليس إلا.

 

دينا بفهم:

-اذًا تجميع فريق الكتاب وهذه الأمور ليست إلا مجرد مزحة؟

 

لمعت عينا ماريا وهي تقول:

-لا، لقد تعلقت بأبي لدرجة الجنون بسبب هذه المفكرة التي صاغ كلماتها في هيئة رواية ملحمية عظيمة، حتى أنني أوشكت على محي نفسي وإسكان شخصيته بدلًا مني.

 

عدّل أحمد من وعية نظارته وتبسم من بساطة الفكرة وجنونها، فالفتاة مثل أبيها؛ لم تجد أن هذه الكلمات سبب نفيها من ثمرة الجنة.

 

بل وجدت الومضة الميئة في هذا كله، وهي قوة الكلمات التي إستحوذت على عقلها وجعلتها تُقدم على الهجوم على مجلس الادارة بلا خوف.

 

في حين تابعت ماريا:

-كل شيء له قصة محبكة ومؤثرة، يكون شديد التعلق بالأذهان والمشاعر.

 

أصدر أحمد صفيرًا متعجبًا، وصفق بيده قائلًا:

-رائع، حقًا رائع للغاية، لكن على أي قصة سيعمل هؤلاء الكتاب؟

 

وضعت ماريا خطان بقلمها أسفل كلمتي (إبليس، كفاح آدم) وهي تقول:

-وقيعة إبليس التي أخرجت آدم من الجنة، وكفاح آدم على الأر ورغبته في العودة إلى السماء.

 

للمرة الأولى في حياته التي يجتاح أحمد هذا الاعجاب البالغ بشخصٍ ما من بعد ريان، وهاهو الزمن يمد في عمره ليعطي النظرة ذاتها إلى إبنته وهو يتمم حديثها:

-ستكونين أنتِ آدم وخالد سيكون إبليس.

 

أومأت ماريا برأسها قائلة:

-بالضبط، أريد كتابًا يصيغون خروجي من ثمرة الجنة ويحيكون القصة كاملة بأكثر الأساليب خلبًا للأذهان، حتى يأتون إلى هذه النقطة التي أبني بها الثمرة الفاسدة.

 

ردد أحمد بدهشة وتساؤل:

-الثمرة الفاسدة؟!!

 

أومأت ماريا برأسها وهي ترسم بقلمها دوائر عصبية حول كلمة الثمرة الفاسدة وهي تتابع:

-إن كان البذخ المُطلق والذهب والفضة والعهر والشهوات هم ما شيدوا ثمرة الجنة؛ فسيكون النحاس والبرونز والحديد والدعوة إلى الصلاح ومحاربة الشهوات والتواضع هم من سيشدون الثمرة الفاسدة.

 

فجرت ماريا هذه الفكرة المجنونة التي تحارب أوصال ثمرة الجنة وتهدد بمحيها بالكامل كأن أفكار ماريا قذائف نووية تنوي لدحر تراث والدها دحرًا، فقال محذرًا:

-شيء كهذا سيمحي ثمرة الجنة من الوجود إن نجح، نحن نتحدث عن نسبة لا تزيد عن الاثنين بالمائة، لكن إن نجح، إرث والدكِ وجدكِ س..

 

بترت ماريا عبارته قائلة بجنون:

-سيتلاشى، سيُسحق، لا يهمني؛ فكل شيء يسهل بنائه من جديد حينما يصير ركامًا..

 

ثم قبت يدها ومتها إلى قلبها بشجن وهي تُضيف:

-ثم إن جدي بنى ثمرة الجنة وحينما حصل أبي عليها طولها لتكون شيئًا آخر، حان الوقت لأضع بصمتي وأجعل منها شيئًا آخر أكثر صلاحًا.

 

تصارع عقل أحمد مع قلبه في هذه اللحظة؛ فقلبه يدعم ماريا وإن كان عقله يخبره أن هذا خاكئ؛ فهو في الأساس يعتني بها لأجل الحفاظ على غرث صديقه، والآن تسعى إبنته لتدميره.

 

((أنا معكِ عزيزتي ماريا، كم تحتاجين من المال ومقدار الفضائح التي تريدينها حول هذا الشخص المسمى خالد؟))

 

نطقتها دينا، فالتفت لها أحمد مستنكرًا وهو يقول:

-هكذا نكون قد أنهينا إرث ريان بأيدينا، ماهذا الذي تهذين به؟

 

همّت ماريا بإجابته لولا أن دينا سبقتها قائلة:

-أنت تعلم أنني أحب هذا الوغد، لكن ما أعز علي من الإبن سوى إبنه، ماريا موجودة أمامنا الآن، وقد أذاها شخص ما سرق املاك والدها.

 

قاطعها أحمد قائلًا:

-لم يسرق أملاكها، فقد استأثر بالادارة لنفسه، لكن أموال ماريا لا يستطيع أحد مساسها.

 

((أتظن ريان ما كان ليحرق الأرض ومن عليها لأجل شرف إبنته؟))

 

نطقتها دينا فأنهت الخلاف في أجزاء من ثانية؛ فلم يسعى ريان يومًا للثراء الفاحش أو الحياة المرفهة، بل الشرف والكبرياء هما ما جعلنه يحارب للنفس الأخير.

 

وشرفه هذا يمتد بإبنته التي سخر منها هؤلاء الأوغاد في ثمرة الجنة.

 

فتبسم أحمد ومد يده مصافحًا ماريا:

-أنا معكِ يا ابنتي، فدينا محقة في كل كلمة تلفظت بها.

 

ثم تفحص اللوح بحثًا عن أسماء؛ فأجابته ماريا بحماس قبل أن ينطق بسؤاله:

-هناك كاتب واحد حاضر في ذهني، لكن لازلنا نحتاج إلى المزيد منهم، وهذا يتطلب الكثير من المال وأنا..

 

ثم تنحنحت بخجل مردفة:

-مفلسة تمامًا.

 

نزلت كلماتها على أحمد ودينا كالصاعقة، في حين هتف الأخير مستنكرًا:

-مستحيل، قد تُفلس دولًا لكن أنتِ يستحيل أن تُفلسي.

 

لوحد بيدها وهي تقول لتستدرك الأمر:

-لا، لا، انتم مخطئون؛ أنا فقط لا أنوي أن أدمر ارث أبي بماله الخاص، أريد ان أعتمد على نفسي بالكامل.

 

تنهد أحمد بعمق ليبتلع كلمة تدمير ارث أبي، ثم قال:

-ما هي خُطتك اذًا؟

 

وضعت ماريا عدة شُرط أسفل كلمة بعينها على اللوح مجيبة:

-الاقناع، أريد أن أقنع الجميع دون أن نُنفق سنتًا واحدًا.

 

صمت أحمد لعدة ثوان من الذهول، في حين تدخلت دينا قائلة بطريقتها الاموية كأنها تخاطب محض طفلة صغيرة:

-حبيبتي، الوقت ثمين للغاية؛ لقد استغرق جدكِ عقودًا لإنشاء ثمرة الجنة وقد أنفق بها كل ثروته، وإستغرق أباكِ عقودًا أخرى لتطويرها، إن بحثتي عن بنائها بالاقناع فقط سنموت أنا وهذا الشيخ دون أن تكمليها.

 

بدا اليأس على وجه ماريا من ضحتهم خطتها، فملّست دينا على وجنتها مردفة:

-لا تحزني عزيزتي، انها مشروع هائل لكن اي مشروع يتطلب المال لتنفيذه.

 

في هذه اللحظة، برقت عينا ماريا وهي تتشبث بيد دينا بغمتنان وهي تهتف:

-أو التظاهر بإمتلاكه.

 

إنفجر أحمد ضاحكًا في هذه اللحظة وهو يقول:

-سُحقًا، لم أكن أرغب في ذلك لكنكِ قُلتها، ما شابه الإبنة بأباها حقًا.

 

ثم أردف بخبث كمن هو متمرس في النصب والاحتيال:

-لكن هذا الاقناع يحتاج إلى بعض التجهيزات بالاضافة لإسمكِ حتى يتم، متى ستكون زيارتنا للمؤلف الأول؟

 

ماريا:

-غدًا.

 

دينا بإستنكار:

-لمَ هذه العجلة؟

 

ماريا ضاحكة:

-لأن الكاتب الأول مغمور وقد يعتزل التأليف في اي لحظة إن لم نصل إليه في الوقت المناسب.

 

أحمد بعدم إقتناع:

-كاتب مغمور، نحن نحتاج محترفين لهذه المهمة وليس هواة.

 

تململت ماريا وهي تجيب:

-ليس محترفًا، بل عبقري، حجر نادر لم يصقله أحد.

 

دينا:

-ما أدراكي بذلك؟

 

ماريا بإبتسامة واسعه وهي تُشير بإصبعها كما يفعل المعجبين:

-لأنني أحد متابعينه الأقلاء..

 

قاطعها أحمد مستنكرًا:

-متابعون اقلاء يعني مبيعات قليلة، لن نستفيد منه هكذا.

 

ماريا بحسم:

-لقد قررت، سيكون الأول في هذا الفريق، وكما تعلمون أنا القائدة هنا وهذه الخطة بأكملها من نتاج عقلي.

 

زفر أحمد بحنق، في حين رأت دينا شيئًا آخر عدى اختيار ماريا لهذا الكاتب لأجل كتابته، فسألتها:

-ما اسم هذا المؤلف يا ابنتي؟

 

أجابتها ماريا بتردد لتؤكد شكوك دينا:

-محمد، محمد هلال.

 

تذكرت دينا كلمات ريان حينما كان يقول:

-إختيار بناء على العاطفة مصيرة الفشل لا محالة.

 

فقالت بتملق لتخفي شكوكها:

-حسنًا، لكن قبل أن نذهب أريد أن أقرء بعض مؤلفات هذا الشاب الوسيم لنقيمه قبل أي خطوة نخطوها.

 

ماريا بحماس زاد من تأكيد شكوك دينا وجعلها يقينًا:

-بالطبع، سأرسل لكِ رابطًا يضم أعماله.

 

***

مواعيد النشر: السبت

أنت الان في اول موضوع

تعليقات