BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الأول (محمد بهاء الدين)

 




ما قبل البداية


رفع سوطه المعقود عاليًا ثم هوى به على جسد هذا الطفل المُكبَّل، لهث من كثرة الجلد، ثم استجمع أنفاسه وبصق 

إحتقارًا وكرهًا....

 

نقل بصره بين جثث بقية الأطفال فزعي الأعين مثقوبي الجباه في دلالة على الاعدام المباشر بالرصاص، ثم

أشعل لفافة تبغ، ونفث دخانها ثم مرغ جزءها المحترق بصدر هذا الطفل الذي ماتت عيناه وتمزقت روحه

مراراً هذه الليلية، ليس لوطأة العذاب فحسب، بل لفقدان الأحبة أشقاء الزقاق في طرفة عين....

 

غادر هذا العجوز الوضيع بينما يُطلق ضحكاتٍ مجلجلة، تاركًا الفتى الصغير وحده رفقة جثث الرفاق

ودمائهم، يناديهم بصوتٍ واهن وعينان جفَّتا من الدمع، لكن الموتى لا يجيبون وإن ألحيت دهرًا...

 

مرت الأيام ولازال هذا العجوز يزور الفتى بين الفنية والأخرى ليتلذذ بتعذيبه، حتى بات يدخل له بقناعٍ يقيه

من رائحة تفسخ الجثث التي ادلهم عليها ذباب المقابر، لكنه أصر على إبقائها ليزيد من وطأة عذاب هذا

الطفل الذي بات يتدلى من قيوده فاقدًا الروح والحس...


***


لم تكن هذه الطفلة ماريا بالقريبة منه يومًا؛ فهو شخصٌ جانح يرتدي القلادات الفضية، ويده مرصعة بالخواتم

ذات فصوص الأحجار الكريمة، بالأخص أكبرهم حجمًا ذو نقش الأسد في سبابته...

 

يبدو أجنبيًا لكن أحمد دائمًا ما يخبرها أنه عربي الأصل، كيف تصدق ذلك وهو دائم التحدث بالايطالية وإن

كان يتحدث بعربية ركيكة فقط حينما يتحدث إليها....

 

ظنت أن السبب في ذلك أنها مجرد طفلة لا تفهم الايطالية، لهذا يخاطبها بلغة يستوعبها عقلها الصغير.

يُدعى ثائر كما أخبرها أحمد، هو شريكها في الإرث العظيم الذي تركه والدها المسمى بثمرة الجنة؛ مدينة

كاملة من الترفيه والذهب والآثار وإشباع كافة الشهوات، ربما هي جنة حقًا؛ فالجميع يأتون إليها من كل

حدبٍ وصوب، يجدون بها المتعة والترف كأنهم ملوكًا أو رؤساء؛ فجميع الطلبات مجابة بثمرة الجنة....

 

لازالت لا تعلم من هو ثائر، لكنها تثق بأحمد، هذا الرجل الأربعيني ذو القسمات الشامية من بشرة بيضاء

وشعر بني مجدول، ولحية مهذبة تصل إلى أسفل عنقه، فهو صديق والدها الراحل وأقرب من الشقيق له،

فكما أخبرها الجميع هنا أن أحمد كان ملاصقًا لوالدها ولا يفارقه إلا نزرًا يسيرًا من الزمن....

 

ولم تكن ماريا بحاجة للتأكد من ذلك؛ فأحمد كان رقيق الحاشية بطبعه، دائم الابتسام صافٍ الملامح على

عكس ثائر ذو الوجه الغربي المتجهم؛ عيناه فيروزيتان بهما بريق كالقطط، وشعر أشقر حليق الجانبين،

قسمات وجه غليظة كالمجرمين ورجال العصابات، نادر الابتسام وإن كان يتظاهر بذلك حينما يتلاقى

ناظرهما، لكن الجميع يخشونه هنا لسببٍ مجهول....

 

وحينما تتحدث ماريا عن الجميع فهي تقصد مجلس إدارة ثمرة الجنة من مستثمرين وذوي مناصب إدارية

حساسة، لم تنغمس الطفلة ماريا معهم في شؤون الكبار، فأحمد كان حاضرًا دائمًا من بدلًا عنها....

 

لا أم أو أب لهذا هي طفولة عصيبة المراس وإن لم يُقصِّر أحمد أو دينا في الاعتناء بها في هذه الفيلا

الفسيحة التي تُطل على شاطئ البحر مباشرة؛ فكما كان أحمد هو صديق والدها المقرب كانت دينا من أوائل

اللاحقين بركب والدها؛ لا تعلم ماريا وظيفتها بالتحديد ولا أحد يعلم، لكن ربما أحمد على علم بعملها فالاثنان

مقربان من بعضهما كقربهما من والدها الراحل، إمرأة مصرية لها ملامح مرهقة عابسة على الدوام، وأعين

ذابلة تخفي هالتها السوداء بمستحضرات التجميل التي تخضب وجهها بالكامل فلا تُبدي من وجهها

الكثير....

 

كانت ماريا مرفهة أكثر من اللازم وربما مدللة بعض الشيء، فأحمد ودينا أفرطا في تعويضها عن ذهاب

الأب والأم بتلبية جميع رغباتها؛ فلم يتزوج أياً منهم من قبل ليتعلم كيف يربي طفلًا، فظنا أن تلبية جميع

طلباتها سيجعل منها فتاة سعيدة، لكن ذلك لم يكن حقيقيًا؛ فأي طفل يحتاج أن يتعرض للمخاطر وأبٍ يكون

منقذه وبطله الخارق وأم تحتضنه لتهون عليه، هذه هي السعادة والطمأنينة التي لن يستطيع أحمد أو دينا

منحها لها.....

 

مضت السنوات وتخرجت من الجامعة لتصير فتاة ناضجة تظن انها تستطيع إدارة أعمالها ونصيبها من

الشركة الآن، لكن ثائر الرجل الثلاثيني رفض ذلك، فلم تكن في نظره سوى فتاة مترفة لم تُجرب نقم الحياة

ومغبتها بعد، لكن بعد إلحاحٍ من أحمد وافق أن تلتحق بمجلس الادارة بشرط أن لا تنبس بكلمة وإلا طردها

منه بقسوة...

 

كان أمرًا حانق بالنسبة لماريا؛ فلمَ يعاملها هذا الوغد بهذه الطريقة وهي تقاسمه ثمرة الجنة بالتساوي، ربما

يريد أن يسرق نصيبها أو هناك ما يخفيه عنها، لكنها حضرت مجلس الثعابين أو وكر الذئاب كما يسميه

أحمد....

 

الجميع هناك يبتسمون حتى لو إحتدوا في الحوار، كلماتهم كيسة منمقة وإن كانت تحمل بطياتها معان

لاذعة، لكن هذا هو صراع العقول الرتيب الذي إلتحقت به....

 

لم تستطع مجاراتهم مهما حاولت فهي تبدو كقطة صغيرة في وكر الذئاب كما قال أحمد حقًا، الجميع يحاول

مبادلة الكلمات معها وإجتذاب الأحرف من بين شفتيها لكن ثائر يدرأ أي محاولة لذلك، فكان كمن يقطع

الضوء والملء عنها ليتركها في عُزلة في هذا المجلس الذي يعج بالمخاطر...

 

في الاستراحة الفاخرة في المبنى الاداري العملاق كانت المعارك أكثر احتدامًا، فقد جاءها من منطقة هادئة

بكوب قهوة؛ رجل خمسيني مهذب له مظهر أنيق منظم في كل شيء؛ شعر بني مصفف بعناية بشرة نظيفه

بادية المجهود في الاعتناء بها، إبتسامة واسعة تُظهر أسنان ناصعة البياض:

-كوب من القهوة سيدة ماريا، إن لم تمانعي بالطبع.

تبسمت ماريا كما يفعل الجميع، وإلتقطت الكوب الورقي منه، متحاشية النظر إلى عينيه التي تتفرس وجهها

أبيض البشرة مُكحل العينين بملامح غجرية فاتنة، ومقلتان زرقاوتان وأنف دقيق كأنه نُحت سلفًا، وشفاه

صغيرة منتفخة زينها اللون الوردي....

 

لم يُطل النظر كثيرًا بل أردف بقوله:

-يُسعدني أنكِ قررتِ الانضمام إلينا أخيرًا سيدتي ماريا.

 

أومات ماريا برأسها مرحبة ثم قالت بصوتٍ أرق من أن يكون لإدارية تُسيّر الرجال، بل بدا كصوتٍ طفولي

إلى حدٍ ما:

-أشكرك جدًا، سيد؟

 

تبسم الرجل ومد لها يده مصافحًا وهو يقول بكياسة:

-خادمكِ هيثم يا سيدتي، كبير المستثمرين في ثمرة الجنة، لي أكبر أسهمٍ بها، بعدكِ بالطبع أنتِ والسيد

ثائر.

 

مطت ماريا حاجبها بإعجاب؛ فأن يكون لشخص إستثمار يدنو من نصيبها هي وثائر يعني أن له ثروة طائلة

تدعمه ورجال يعملون ليل نهار بشركاته، فبادلته المصافحة قائلة بترحاب:

-أشكرك على ثقتك بشركاتنا سيد هيثم، كما أتمنى أن تزيد في استثمارك لدينا، فالربح هنا مضمون كما

تعلم.

 

هز هيثم رأسه موافقًا وهو يقول بسعادة:

-بالطبع سيدتي، كم أتمنى أن أضع ثروتي كلها في إستثمارٍ هنا، فهذا سينقل ثمرة الجنة إلى مرتبة أخرى قد

لا يصل لها أحد لعشر سنوات قادمة.

 

ثم بدا عليه شيء من العبوس وهو يقول:

-لكن سيد ثائر يضع قيد على الاستثمار كما تعلمين، وهذا يحد كثيرًا من تدفق الأموال.

 

لم تكن ماريا على علمٍ بقيد ثائر أو أي سلوك إداري ينتهجه، فقالت معترضة:

-لماذا يمنع تدفق الأموال، تبدو حماقته واضحة، ألم يعارضه أحد منكم؟

 

هيثم بدهشة:

-أعتذر سيدتي؛ ظننتكِ على دراية بقوانين وقواعد السيد ثائر، فأنتِ السيدة الأولى للشركة وإبنة مالكها الراحل

ريان رحمه الله.

 

شعرت ماريا بشيء من الاهانة لكونها غافلة عما يدور خلف أروقة هذه الجدران طوال هذه السنوات، فأخذتها

الحمية والغضب لتقول بعزم:

-لن أسمح لإرث والدي أن يندثر، ستتغير قواعد الاستثمار اليوم، وسيكون تدفق الأموال بلا قيود.

 

صفق هيثم بيده متعجبًا، ثم قال بحماس:

-نحن جميعًا معكِ ياسيدتي، هناك تكتل كامل في المجلس يوافقنا الرؤية ذاتها، ستقومين بعمل ثوري سيغدق

علينا بالكثير من الأموال.

 

لم تتوقع ماريا أن تنغمس في صدامٍ مباشر مع هذا الشخص الجامح _ثائر_ منذ اليوم الأول، لكن ربما كان

يمنعها من الحضور لأنه يخشاها ويخشى الحلفاء الكثر الذين ينتظرون مجيئها؛ فهي الشخص الوحيد الذي

يقارعه النفوذ ذاتها...

 

تأجج بداخلها شيء من التمرد الذي ورثته عن أبيها، وعزمت على الثورة في وجه الطاغية وممارسة سلطاتها

كاملة من اليوم الأول لها في ساحة المعركة...

 

قدم هيثم لها أكثر من خمسة أشخاص آخرين والذين يشكلون معه ثُلث المجلس تقريبًا، وبوجود ماريا برفقتهم

قد يكون لهم الثقل الاستثماري لثلثي المجلس الآن...


***


مواعيد النشر: السبت


(((لقراءة الفصل الثاني اضغط هنا)))


كما يُمكنكم الانضمام لعائلة كيان العراب على (فيسبوك) و قناتنا على (تلجرام) نتمنا أن تشرفونا بزيارتكم لنا.


#مائدة_الشيطان

#محمد_بهاء_الدين

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. حلوة أوي، متشوقة اعرف اكتر عن ثمرة الجنة
    متابع،،،،أكيد

    ردحذف

إرسال تعليق

شاركنا رأيك في هذه التجربة