(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
إنتهت
إستراحة الغداء وحان الوقت للإلتفاف حول هذه الطاولة المستديرة التي يلتف حولها
سبعة عشر رجل
بالاضافة
إلى ثائر وماريا وأحمد، أُنزلت الستائر الحاجبة لآشعة الشمس التي تعبر الزجاج الذي
يحتضن
الاتجاهات
الثلاث للغرفة، وشرعت المكيفات في العمل في جوٍ لطيف يُهدئ الأعصاب، وإن كان
الشياطين
يعبثون
في أذهان الحاضرين لتجعلهم على جذوة من نار....
كان
هيثم أول الناطقين بلغة عربية عامية وقد زين الابتسام وجهه وشع إبتهاجًا:
-سيدتي
ماريا هنا الآن، لذا سنتحدث اللغة التي يتحدث بها أغلب من بالمجلس، العربية....
ثم
حاد بنظره إلى أحمد موصلًا:
-أتمنى
أن لا ينزعج السيد ثائر من هذا، لكننا لن نتحدث الانجليزية أو الايطالية لأجل شخصٍ
واحد.
كان
لماريا لسان ناطق بإنجليزية سليمة، لكنها إرتأت في التحدث بلغتها الأم إنتصارًا
أوليا في أولى جلساتها
في
هذا المجلس...
لم
ينتظر هيثم رد من أحمد بل بادر بقوله مخاطبًا الجمع:
-قبل
أن نكون مجلس إدارة، نحن جميعًا مستثمرين، لنا أسهم في هذه الشركة...
ثم
رمق ثائر بطرف عينه مردفًا:
-كملاكها
بالضبط؛ هذا ما ينص عليه القانون حينما تُطرح الشركه في البورصة، أليس كذلك؟
أجابته
الإماءات والهمهمات الموافقة، فتابع وهو يفرك أصابعه:
-لدي
من المال الكثير، ولدي رؤية واضحة لثمرة الجنة جميعكم على علمٍ بها؛ وهي أن نبني
ثمرة الجنة في
البلدان
ذات الاقتصادات الكبرى، هذا يحتاج إلى ثروة طائلة أظننا على مقدرة كافية على
توفيرها.
رمقه
ثائر بعينيه الفيروزيتان بثبات بينما يداعب فصًا من فصوص خاتم في إصبعه، في حين كان
أحمد من
أجاب
هيثم قائلًا:
-أُقَدِّر
عرضك السخي سيد هيثم، لكن لثمرة الجنة أسطول كامل يجوب بحار ومحيطات الدنيا، تصل
الموانئ
في
مواسم معروفة وينتظرها عملاؤنا بفارغ الصبر....
ثم
أشار لجميع الحضور حتى ينظروا إلى حواسيبهم المحمولة التي ظهر عليها شكلًا بيانيًا
يوضح الايرادات
والأرباح
مردفًا:
-هذا
الأسطول لم يضر أبدًا ثمرة الجنة هنا في مصر؛ فكونه في مواسم وغير ثابت في بلد
بعينها جعل معدل الزيارات لثمرة الجنة هنا ثابتًا لم يتأثر.
مطت
ماريا حاجبيها في شيء من الاستنكار؛ فأحمد يجب أن يكون داعمًا لها في هذا المجلس
بالأخص في
أول
جلسة تخوضها، لكنه الآن يستميت في الدفاع عن منافسها وعدوها اللدود هنا...
تطلع
هيثم لإشارات الرسم البياني، ثم تبسم قائلًا:
-أنت
الرجل الذي ساعد المالك الثاني ريان في بناء هذا الإرث العظيم؛ لديك قدرة تسويقية
فريدة ورأس
مفاوضٍ
داهية يستطيع إيجاد الثغرات للولوج للعقول، وبالطبع تمييز الصفقات الناجحة....
ثم
أشار لماريا وبعينه وميض الظفر وهو يضيف:
-السيدة
ماريا ترى أن زيادة الحرية للمستثمرين في ضخ أموالهم بلا قيود صفقة ناجحة، ألا تثق
في رأي
السيدة
ماريا سيد أحمد؟
أدرك
أحمد المنهاج القذر الذي يلعب به هيثم؛ فقد أطبق عليه ببراثنه، إما أن يعارض أحمد ماريا
ويُظهر
للجميع
أنها مجرد طفلة حمقاء لا ثقة بها، وسيكون هيثم قد حقق نصرًا على أحد مالكي ثمرة
الجنة، أو
يؤيدها
أحمد في قرارها ويكون الانتصار الأعظم لهيثم الذي سيُمكنه من حصد حصص أكبر من ثمرة
الجنة
والتوسع
كما يشاء للدرجة التي تجعله قريب من ملاكها الأصليين....
((لسان
حذق وعقل أحمق، هذه أكبر مميزاتك يا هيثم.))
نطقها
ثائر بعربية ركيكة تحتاج إلى شيء من الصقل، ثم دس لفافة تبغ بين شفتيه غير مراعٍ
للمكيفات أو
لكونه
في مجلس رسمي، فرد هيثم مغاضبًا وإن إحتفظ بكياسته:
-أعذرني،
لم أفهمك؟!
هز
ثائر رأسه نفيًا وهو يشعل لفافة التبغ قائلا:
-لديك
ثلثي المجلس بالفعل فلا أملك سوى الموافقة، لكن بشرط.
تهللت
أسارير هيثم طربًا وهو يقول بحماس:
-أوافق
على شرطك أيًا كان سيد ثائر، فهذا سيرفع من مكانة ثمرة الجنة و....
بتر
ثائر عبارته بالانجليزية:
-في
مجلس الغد ستحضر لي المال والعقود، لكن إن لم تفعل أو تخلَّفت لأي سبب ستترك لي
إمضاءك على
موافقتك
للقانون الذي وضعته للقيد على الاستثمار.
ثم
هم واقفًا، وأخذ نفسًا آخر من لفافة التبغ، وألقاها أرضًا ودهسها بقدمه غير مراعيًا
للّباقة التي يجب أن
يمتاز
بها مالك في حضرة كبار مستثمريه وإدارييه....
غادر
ثائر الغرفة تاركًا الجميع يرمقونه بمزيج من النكران والاحتقار، عدى هيثم الذي ظفر
بما يريد ورأى انه
حققًا
نصرًا قاسمًا إنتظر كثيرًا لتحقيقه....
لم
تختلف نظرات الاحتقار على وجه ماريا عن نظرات الآخرين؛ فلم ترى من شريكها الذي
تركه لها والدها
كعقبه
في طريقها ذرة من إحترام أو كياسة في التعامل، وإزدادت كراهية له ورهبة من القرب
منه...
وسط
شرودها ربت أحمد على كتفها قائلا بوده الدائم:
-لقد
إنتهى إجتماع اليوم، ما رأيكِ في جولة حول ثمرة الجنة؛ فالمالك الناجح يجب أن يعرف
ما يديره أولًا.
ماريا
بدهشة:
-هذا
فحسب؛ إنتهى المجلس في هذه الدقائق المعدودة؟
تبسم
أحمد وهو يعيد نظارته إلى جرابها، مجيبًا:
-لم
يكن هذا مجلسًا، بل مبارزة، فاز هيثم بالجولة الأولى لكننا سنعرف من المنتصر غدًا
صباحًا.
في
هذه اللحظة اقتحم هيثم حديثهم وصافح ماريا بحرارة قائلًا:
-أشكركِ
من صميم قلبي سيدة ماريا، فقد أسديتي لثمرة الجنة معروفًا لن تنساه لكِ.
ماريا
بتواضعٍ حقيقي:
-لم
أفعل شيئًا، أنت من فعلت كل شيء سيد هيثم.
أخذها
أحمد من ذراعها عنوة مغادرًا وهو يقول:
-بل
فعلتي الكثير يا ماريا، أكثر مما تظنين.
***
قطعت
هذه السيارة السويدية الفاخرة الطُرقات الصحراوية الطويلة حتى وصلت إلى مكانٍ ضخم،
قد يكون
مدينة
داخل المدينة أو محافظة كاملة متكاملة، لها مساحة شاسعة وبوابات من الذهب الخالص،
لا يتولى
حراستها
وإستقبال زوارها رجال أمن أو حراسة من الشرطة المصرية؛ بل رجال بزي الحرس الملكي
الأحمر
في
إشارة إلى أن كل من يدخل إلى ثمرة الجنة هو ملكٌ متوج يعود إلى مملكته....
لم
تكن زيارة ماريا الأولى لثمرة الجنة، لكنها الأولى التي تكون بالليل، فلم ترى من
قبل طُرقاتها الفضية التي
إنعكست
عليها الأضواء لتُبرز لمعانها، ولا القصور الكثيرة مختلفة التصاميم، فمنها
الروماني والكلاسيكي
والطراز
الروسي، والقطع الأثرية الأصلية التي تزدان بها مداخل القصور والحدائق في ثمرة
الجنة؛ فهذه
الفسقية
والنافورة ليست من صناعة نحاتٍ محترف بل أُحضرت خصيصًا من اليونان لتزين حدائق
ثمرة الجنة
وتضخ
بها المياه....
تندهش
في كل مرة تعبر من هذا الطريق الفضي ويُثار إعجابها على الجمال المطلق، فلا شيء في
ثمرة
الجنة
مفقود؛ القصور متناسقه، هذا الركن الضخم المسمى بمعابد أفروديت حيث كل الرغبات
المرضية
مُشبعة،
له بوابة من الرخام على رأسها تمثال أصيل للإلهه أفروديت وسياج من القضبان
الفضية...
لم
تعلم ماريا يومًا ماذا يوجد في معابد أفروديت؛ فقد منعها أحمد من الذهاب هناك، إلا
أن ثائر كثير الزيارة
لهذا
المكان وهذا جعلها تشعر ببعض الانتقاص لتمكنه من الذهاب لأماكن لا تجسر هي على
تخطيها، لكن
أحمد
لم يمنعها لأجل شيء سوى البغاء المُطلق والسادية الجامحة وكل شيء حلاله وحرامه
هناك، سوي أو
مختل،
هناك حرفيًا حيث كل الطلبات البشعة مجابه....
لكن
رغم ذلك جعلته البحيرة التي تُحيط به في دائرة من الداخل فائق الجمال، تقفز منها
الدلافين بين الفنية
والأخرى
وتحفها من الداخل حديقة عملاقة قبل أن تصل إلى المعابد التي تبدو كمعابد مقدسة
يونانية لتقديس
آلهة
الأولمب، لكن ما بالداخل لا يجسر عقل على تخيله....
قطعت
السيارة نهاية الطريق الفضي حتى توقفت عند متحفٍ روماني مزركش الجدران بالنقوش
التي تقص
ملاحم
الرومان...
هبط
أحمد من السيارة تتبعه ماريا ذات الأعين الذاهلة لكل شيء تراه، لكن على عكس جميع
باحات ثمرة
الجنة
لم يتواجد ولو شخص واحد في هذا المتحف...
لم
تكن ثمرة الجنة بالمكان المكتظ رغم ملايين الزوار الذين يزورونها يوميًا فقد كانت
مترامية الأطراف، لكن
حتما
ستصادف بعينك شخص أو اثنين، لكن هذا المتحف بدا مختلفًا، بداخله حوض مياه تتفرع
منه
الجداول،
والتماثيل الرومانية الملحمية تنتشر به في كل حدبٍ وصوب، حتى وصلت عينيها إلى هذا
الهرم
المدرج
في منتصف المتحف، على قمته عرش يجلس فوقه تمثال لرجل عريض المنكبين ذو لحية عملاقة
وملامح
حالمة...
لم
تستطع ماريا كبح نفسها عن سؤال أحمد:
-هذا
إمبراطور بالتأكيد، لكنه ليس رومانيًا، يبدو فنًا مختلفًا لم ينتجه الفنانون
الرومان، أي إلهٍ هو؟
تبسم
أحمد من دهشتها وإعجابها قبل أن يجيب:
-هذا
جدكِ آدم؛ الرجل الذي شيد هذا المكان بأكمله قبل أن يطوره أباكِ، كانوا يلقبونه
بالامبراطور الروماني
لإمتلاكه
هيبتهم وقوتهم، حول طاولته يجتمع الرؤساء والملوك وأقوى رجال الكوكب قوة ونفوذًا،
يحتكمون إليه
ويخشون
غضبه، فقد كان قادرًا على معاقبة دول بأكملها إن أثار أحد غضبه....
ثم
ترقرقت عيناه وهو يردف:
-والدكِ
هو من شيد له هذا التمثال بعد موته ليكون حاضرًا دائماً وسط أباطرة الرومان الذين
تقلد بهم في
حياته
ليموت ميتتهم العظيمة.
إرتسمت
إبتسامة على ثغر ماريا من رؤيتها الدائمة لتأثر أحمد عند ذكره أباها، ثم قالت:
-أعلم
انه كان الأقرب على قلبك، لكن مضت الكثير من السنوات كما تعلم.
هز
أحمد رأسه نفيًا، ثم قال:
-لم
أنساه يومًا، فلا يمكن أن يغيب عن ذهنك من ذقتِ الويلات معه عند أول الدرج حتى
بلغتم القمة....
ثم
أشار لحوض المياه مضيفًا:
-هنا
حيث كان يجتمع أباكِ وجدك لمناقشة الأمور، حسنًا كان أغلبها خلافات بينهم وتهديدات
مبطنه، فلم
يعرف
أباكِ أن جدكِ هو والده الشرعي سوى في اللحظات الأخيرة، لكنه كان يعمل معه قبل
ذلك، فكان
الخلاف
بينهما قائم لطبيعة والدكِ الثورية الجامحة التي تعشق القتال والحروب.
كان
لصوت المياه خرير هادئ يضفي السكينة في النفس، فأرادت ماريا أن تسترق دقائق من
الصمت متأملة
بحر
التاريخ الذي تغوص به؛ فقد كان بالمكان صدًا عظيمًا يُعطي مهابة للحديث وإن كان من
يتحدث هو
أحمد
أباها الروحي الذي لم ترى منه غلظة أو صرامة من قبل...
ترك
لها أحمد المجال لتكتسب بعض الهدوء قبل أن تقول:
-أنا
خائفة الآن.
تساءل
أحمد:
-لماذا؟
ماريا
بشرودٍ به الكثير من الشجن:
-لقد
وضع جدي حجر الأساس الذي شيد عليه أبي الجنة، ماذا إن كان الانهيار على يدي أنا؛
لقد رأيتني
في
المجلس هناك، هيثم لعب بي كدمية وثائر لم يعر لي أي إهتمام، لستُ امبراطورة كجدي
ولست بجامحة
كأبي،
أنا فقط مجرد فتاة ورثت ما شقا الآخرين في بنائه.
لمس
أحمد خوفها من هذه المسؤولية الوبيلة، فأزاح خصلاتٍ عن عينها بحنانٍ أبوي قائلاً:
-أتظنين
ريان بن آدم لم يخاف يومًا، بل لم يذق في حياته سوى الخوف، إرتكب حربًا مع المافيا
من قبل
وأقحم
بها جدكِ غصبًا عنه، لكن قبل ذلك أراد
الخروج من كنف جدكِ، فتلقى الهزيمة تلو الأخرى، الفشل
كان
عنوانًا له حتى استطاع بعد سنواتٍ وسنوات أن يبني إمبراطورية أعمالٍ بسيطة لا
تقارن بما بناه جدكِ...
تبدلت
ملامح أحمد إلى حزنٍ جارف وهو يردف:
-لكن
بعد سنوات من العمل المضني خسر كل شيء ومات الرفاق أمام عينيه، لم نكن أنا ودينا
فقط برفقته
كما
تعلمين، بل كان هناك آخرين كثر، جميعهم لقوا حتفهم في ليلة واحدة أمام ناظري
والدك...
كانت
هذه المرة الأولى التي تستمع بها ماريا لهذه الكلمات عن الماضي الشنيع الذي لقاه
والدها، فتركت
أحمد
يصدمها أكثر بكلماته:
-الجميع
مات لخيانة زوجته له، حقًا لقد كان والدكِ أحمقًا لزواجه من إبنة زعيم عائلة
نوسترا أقوى عائلات
المافيا
الايطالية، لكن من كان يتوقع خيانتها، فقد حارب الجميع لأجلها على رأسهم والدها،
لكنها لم تتوانى
عن
خيانته حينما وعدها والدها أنها ستكون وريثته في عائلة نوسترا.
صمت
أحمد قليلًا بعد هذه الكلمات الغليظة ليستعيد رابطة جأشه ويقول باسمًا:
-لكن
أتظنين والدكِ توقف بعد كل هذه الموبقات، لقد إنتقم من الجميع وجعل هذا المكان جنة
بناها البشر
على
الارض، ستكونين وريثته وحامية إرثه وربما تتفوقين عليه إن تحليتي فقط ببعضٍ من
الذكاء والجنون.
تثبيتها
وشحذ همتها هو ما قصده أحمد بكلماته، لكن عوضًا عن ذلك سكن بداخلها المزيد من
الخوف من
المصير
المنتظر، فقد تجرع والدها كأس المرار ويجب أن ترتوي منه هي الأخرى حتى تعبر الجحيم
الذي
ورِّث
لها، فكرت في هذه اللحظة أن تدع كل شيء لشريكها ثائر كما كان، فلن تتحمل هي مثل
هذه المكائد
التي
ينسجها الشياطين لبعضهم في هذا المجلس، أو طعنة ظهر قاسمة كما تلقاها والدها من
زوجته....
***
مواعيد النشر: السبت
(((لقراءة الفصل الثالث اضغط هنا)))
كما يُمكنكم الانضمام لعائلة كيان العراب على (فيسبوك) و قناتنا على (تلجرام) نتمنا أن تشرفونا بزيارتكم لنا.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة