BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الثالث (محمد بهاء الدين)

 




(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



***

في جلسة يملأها الصخب وروح الاحتفال، رفع هيثم كأسه وعلى وجهه أمارات الثمالة والغيب عن الواقع، فرد

الجميع بتحيته لنجاحه أخيرًا في كسب جولة على حساب ثائر وأحمد معًا...

 

لكن وسط هذه الأهازيج والتهنئات كان هناك وجهًا وسيمًا لشاب يجلس في زاوية هذا المقهى الفاخر، يتفرس

الجميع بأعين سوداء صامته، يحتسي كوبًا من القهوة بينما الجميع يسكرون، وإن لم تكن قسمات الفرح

والاحتفال بادية على وجهه....

 

فدنى منه هيثم معاتبًا:

-ينبغي أن تكون أكثر الحاضرين فرحًا بإنتصار والدك.

 

صفق الشاب بيده قائلًا بفتور:

-تهانينا يا أبي، لكن لازالت المعركة ممتدة للغد.

 

أومأ هيثم برأسه وربت على كتف إبنه هاتفًا بإنتشاء:

-أعلم ذلك جيدًا، فقد يسرق هذا الوغد المال أو العقود، لكن لا تقلق كل شيء حاضر هنا نصب عيني،

والدك ليس باللقمة السائغة.

 

الشاب بخيبة أمل:

-أتمنى ذلك يا أبي، لكن الاحتفال الباكر يُضيع الانتصار في اللحظات الأخيرة.

 

هيثم بإستهانة:

-أي إنتصار سيضيع، لقد إنتصرت سلفًا يا بني.....

 

ثم أشار لإحدى الفتيات اللاتي تُشرفن على الاحتفال مردفًا:

-ما رأيك بهذه الفتاة، قد تُحسن مزاجك العكر هذا؟

 

تبسم الشاب بجمود قائلًا:

-أستجعلها زوجة لي؟

 

هيثم بضجر:

-أأحمٌق أنت، من ذكر الزواج هنا، هذه نادلة وضيعة للهو والسعادة فقط، ثم ثمن بخس يُترك بين فخذيها

في النهاية لتجفف به عرق شرفها الممزق.

 

نهض الشاب، وبلهجة رسمية قال:

-أهنئك يا أبي، فلتُكمل سعادتك أنت هنا بينما أزور أمي، فلا أظنك تبالي.

 

لمست مقولة الشاب وترًا حساسًا في قلب هيثم، فلاحق الشاب بصراخه:

-لماذا تؤرق إحتفالي يا خالد، أنا أدفع للمشفى جيدًا ليعتنوا بها، ماذا يجب أن أفعل أيضًا؟

 

لم يأته رد من الشاب وهو يغادر الرواق الطويل المؤدي إلى المخرج....

 

صدمه في طريق خروجه؛ رجل ثلاثيني يرتدي سترة سوداء، ونظارة واقية من الشمس وإن كان الغروب

حاضرًا، شعر ذهبي وعين فيروزية رآها رغم ظلام نظارته، تشع منه طاقة سوداء مشؤومة، لكن خالد لم

يبالي كثيرًا، بل أفسح له المجال للدخول ثم إستقل سيارته وغادر بهدوء....

 

في الداخل كانت الثمالة قد نالت من هيثم، حتى تفجرت النشوة من خلايا عقله، فأشار لإحدى النادلات

الشقروات لتأتيه، ثم إتكأ عليها قائلًا بلسانٍ متثاقل:

-أنتِ تعرفين الطريق؟

 

النادلة بتلعثم:

-لا أعرفه يا سيدي، فهي المرة الأولى لي.


صفعها هيثم على مؤخرتها وهو يقول بصفاقة:

-حقًا، ستعتادين الأمر إذًا، فلتصحبيني إلى الغرفة اللعينة، فهذا المقهى بكم جميعًا ملك لي.

 

تجرد هيثم في هذه اللحظات من قناع الوقار والكياسة، وظهر على سجيته كما يفعل الجميع في وكر الذئاب،

لكنه لم يلاحظ أبدًا هذا الرجل الذي إتخذ مقعدًا في مقهاه ليتناول غداءه من المعكرونة الايطالية، ثم أراح

ظهره على المقعد بينما يحرق لفافة تبغ بين شفتيه....

 

زبونًا عاديًا وإن كانت هيئته الجامحة وحاجبه الأيمن الذي شقه جرح عرضي تجعل الجميع يحدجونه بنظرات

الريبة...

 

فجأة على صوت الضجيج في الدور الثاني من الفندق وغُلِّقت الأبواب، وإقتحم عدد من الرجال الملثمين

المكان يطلقون النيران ليُسقطون كل من إعترض طريقهم، حتى علت الصرخات والتأوهات على أنغام

الطلقات التي لا تتوقف...

 

بعد دقائقٍ قليلة، أحكم الملثمون سيطرتهم على المقهى بدوريه، وجيء بهيثم العاري منكبًا على وجهه،

 تخضب دماء رأسه السائلة وجهه، وينساب الأحمر القاتم من أسنانه التي فقد عددًا منها....

 

مثلْ أمام الرجل الذي نزع نظارته السوداء بهدوء، ليهتف هيثم بصوتٍ متحشرج من الدماء المكتظة بفمه:

-سيد ثائر!!

 

مط ثائر حاجبيه متبسمًا، وبعربية سليمة قال:

-بالانجليزية؛ فلا أفهم العربية، أم انها اللغة الأولى لسيدك فلم تعد تتحدث غيرها الآن؟

 

شق الدمع الدماء المنسابة على وجه هيثم لتسقط قطراتٍ حمراء وهو يقول بصوتٍ منكسر مبلل:

-لم أقصد أي إساءة أُقسم لك، كل ما أريده هو إعلاء شأن ثمرة الجنة، أنا وفي لهذا الكيان أقسم لك.

 

تأمل ثائر خشوعه ومهانته برهة، ثم أراح جسده على مقعده وجال ببصره بين الوجوه المرتعدة الماكثة في

المكان، ثم سأل بصوتٍ جهور:

-سمعتم ما قاله، أليس كذلك؟

 

لم يأته رد من أحد؛ فقد كمم الخوف الأفواه وأصاب الجميع بالخرس، فأشار ثائر برأسه لتنطلق الطلقات

ويسقط عدد من القتلى مرة أخرى، فهتف عددٌ من الأشخاص:

-أجل، سمعنا ما قيل.

 

إلتفت الملثمون الذين ينفذون الاعدامات الجماعية إلى ثائر، فقهقه قائلاً:

-إذًا فقد سمعوا إسمي وهو يُذكر من فم هذا الخنزير، ولا يمكن أن ندع خيوطًا للشبهات.

 

صرخ أحد زبائن المقهى قائلًا:

-لن ننطق بكلمة نقسم لك، لا شأن لإبنتي في...

 

قبل أن يُكمل كلمته إنطلقت الرصاصات لتحصد روحه رفقة الجميع لتجعل من المقهى سكنًا للأشباح...

 

ثم هز ثائر رأسه بعدم رضى، وحاد ببصره إلى هيثم قائلًا بعتاب:

-أنظر ماذا فعلت، لقد جعلتني أقتل العديد من الأبرياء...

 

ثم زفر بحنق قبل أن يردف:

-الآن أخبرني أين المال والعقود؟

 

حاول هيثم إستمالة ثائر قائلًا:

-سيد ثائر أرجوك يُمكننا أن....

 

قبل أن يُكمل جملته أشار ثائر إلى أحد رجاله، فثبت راحة يد هيثم وأطلق النيران، ليصدر من الأخير خوارًا

كثورٍ تلقى طعنة من جزاره، ثم ألقي باللعنات والوعيد، فقبض ثائر على تلابيبه مكررًا:

-لن أسألك مجددًا عن العقود والمال، فإن قتلتك هنا فلن تأتي بالغد على أي حال.

 

صرخ بصوت باكٍ:

-هناك أسفل طاولة تقديم الطلبات.

 

أشار ثائر لأحد رجاله حتى يذهب للتأكد مما يقول، في حين أردف هيثم:

-ستخسر أموالي حينما تحتاجها، فلا أحد في هذا المجلس يمتلك ثروة طائلة مثلي.

 

لم يلقِ ثائر له بالا، بل كان جل إهتمامه منصب على رجله الذي ذهب لإحضار العقود والمال، فهز الرجل

رأسه في النهاية قائلاً بإنجليزية:

-لا أجد شيئًا هنا.

 

إمتقع وجه هيثم كأنه رأى ملاك الموت يتجلى في الآفاق، وتفصد العرق على جبينه وهو يلتفت إلى ثائر

قائلًا:

-لقد كانوا هناك، أقسم....

 

سبقته رصاصة ثائر لتسكن جبهته، وقد تملكت وجهه قسمات الجمود والخلو من التعابير كسفاح متمرس

يعرف كيف يحصد الأرواح جيدًا...

تناثرت دماء هيثم لتلطخ وجه ثائر وسترته السوداء دون أن تطرف له عين، يراقب الخيط الدخاني الرفيع

المتصاعد من فوهة سلاحه، بينما يتذكر هذا المشهد من طفولته حينما ضغط الزناد لأول مرة، كان محاطًا

بالأطفال حينها، يختبئ بالزقاق ويتغذى على القمامة، بيته الشارع وفراشة التراب، كانت الكلاب حينها تُفضَّل

عليهم؛ فإن رأى بائعًا كلبًا يلتقت لقيمات من فرط جوعه لوضع له البعض منها كل يوم إشفاقًا عليه، لكن هم

لم يُبدي العالم لهم أي شفقة، بل لفظهم بكل قسوة دون أن يلقي أحد بالا بمشاعرهم....

 

أغلق عينيه ثانية ليتخلص من هذا الهاجس الأليم من الذكريات، ثم تنهد بعمق ونزع سترته ليغطي بها وجه

هيثم المرتعد، وهتف برجاله بالايطالية:

-وقت الذهاب يا رجال.

 

سُكبت التارًا من الوقود حتى أغرقت المقهى بأكمله، وعند مدخله بدا على وجه ثائر الوجوم وهو يلقي بلفافة

التبغ لتُطلق جماح ألسنة اللهب لتصحب الجثث إلى جحيمٍ لا مناص منه.


***

تعليقات