BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الرابع (محمد بهاء الدين)

 





(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



لم يكن وقت النوم هو المفضل بالنسبة لماريا، بل كانت تُفضل أن تنام من فرط الإرهاق على أن تجلس في سريرها تنتظر في صبر أن يزورها النعاس، لكنه جافاها في نهاية المطاف، فنهضت وهي لازالت ترتدي سترة النوم.

 

كعادتها رمقت الأثاث الذي لم يتغير منه شيء منذ موت والدها، عدى بعض الجماليات التي أضافتها دينا للمكان حتى تتخلص من الجانب الكئيب الذي تركه به ريان.

 

فتحت باب غرفة في نهاية الرواق، ثم أضاءت الأنوار وربتت على من في السرير قائلة بخفوت:

-دينا، دينا، استيقظي.

 

فتحت دينا عينيها ببطء، لها وجه أربعيني ليس بالفاتن لكن به شيء من الجمال الخفي، وقوام ممتلئ بعض الشيء، وبشرة خمرية تتحول في الصباح إلى بيضاء من كثرة مستحضرات التجميل، شعرها بني قصير يكاد يصل إلى نصف عنقها، فمها رفيع ومقلتاها بنيتان كلون شعرها، ملامحها عابسة تدل على العصبية وقصر الفتيل.

 

تساءلت دينا بلسان متثاقل وأعين نصف مغلقة:

-ماذا هناك؟

 

جلست ماريا جوارها على السرير وهي تقول بحماس:

-فلتقصي عليّ المزيد عن أبي.

 

دينا بغضبٍ مضحك:

-سحقًا لريان الوغد، لازال يؤرق نومي حتى بعد مماته.

 

ضحكت ماريا بخفوت، ثم قالت برجاء:

-أريد أن أعلم المزيد عنه، أكان يحبني، أكان مرحًا يحبه الرفاق....

 

ثم تمهلت قبل أن تضيف بشجن:

-لم يخبرني أحد من قبل، كيف مات؟

 

عند هذا السؤال، فتحت دينا عينيها، وإنفض النوم عنها وإن كانت تتمنى أن تتصنعه حتى لا تُجيب، لكن

ماريا لم تعد هذه الطفلة التي يريدون لها حياة سعيدة فيدللونها فحسب بينما الجزء القذر القبيح دثروه أسفل

التراب وتمنيا أن لا تتذكر سوى الذكرى الحسنة عن والدها فقط، لكن لا مفر الآن.

 

هكذا نهضت متثائبة، وأراحت ظهرها على مسند الفراش، ثم قالت بضجر:

-لن تدعيني وشأني، أليس كذلك؟

 

رسمت ماريا بسمة طفولية على وجهها كجروٍ يسترجي بعض الطعام، فزفرت دينا بحنق، ثم قالت بفقدان أمل

من أن تغرب ماريا عن وجهها:

-كان أكبر وغد عرفته في حياتي، يعلم كيف يُلملم الرجال حوله، فلا تسأليني إن كان مرحًا؛ فلا يُمكن أن

تَملِّي من الحديث معه، بشوش لم يتعامل معي قط كموظفة لديه، بل لم يعامل أحد بعجرفةٍ من قبل، يبتسم

أغلب الأحيان لكن حينما ينفحه الجنون يكون كنيران بركان ثائر يحرق جميع من حوله...

 

ثم تبسمت بخفوت وهي تضيف:

-لقد أقحم جدكِ في حربٍ ضروس مع المافيا لأجل فتاة أحبها؛ فقد كان يتحكم بالجميع كالدمى

الخيطية لأجل تحقيق غايته، لكننا لم نرى خُبثًا منه قط، بل شاركناه الهدف ذاته والطموح ذاته حتى اقتحمنا

الأسواق وأسقطنا شركات وأعلينا شأن أخرى، لكن بالنهاية الجميع أحبه.

 

ترقرقت عينا ماريا بدمع الشوق لمن لن تراه أبدًا؛ فقد إحتاجت أن يداعبها ويمرح معها ويُضفي عليها الدفء،

لكنه تركها ورحل، رحل بلا سببٍ مقنع يُسَكِّن هذا الشعور الأليم بداخلها كأنه تخلى عنها، هو لم يفعل ذلك،

لكن إن كان يحب طفلته الوحيدة حقًا لمَ لم يعكف على تربيتها وإهراق الحنان عليها ويترك أي شيء آخر،

هكذا وجدت نفسها تسأل دينا:

-أكان يحبني؟

 

رأت دينا الدمع في عينيها، فضمتها إلى صدرها وهي تملس على شعرها بحنانٍ أموي قائلة:

-بالطبع يا صغيرتي أحبكِ، لم أرى رجلًا يكافح لأجل أبنائه كما رأيت ريان.

 

ماريا بإنهيار:

-إذًا، لماذا لم يكف عن ما يفعل ويعتني بي فحسب، أنا حتى لا أعرف كيف مات، أكان موته لأجل شيء يستحق أم مات هباءً؟

 

لم تُرد دينا التطرق لهذا الجزء من الحديث؛ فلن يُفيد ماريا بل سيزيدها حزنًا وعبوسًا، أجل لقد تعاهدا هي

وأحمد أن يخبرانها كل شيء حينما تكبر، لكنها لا زالت هشة رقيقة سهلة الانكسار كورقة شجر ذابلة، لا

يجب أن يُطلعها أحد على شيء الآن، ولا يجب أن تقود كيانًا بحجم ثمرة الجنة، فالذئاب كثر هناك والجميع

ينتظرون أول هفوة لها ليقتنصوا نصرًا لم ينالوه منذ زمن....

 

فكان رفض ثائر ضمها إلى المجلس منطقيًا؛ فلم تفتأ أن أسكنت شوكه في ظهره في أولى دقائقها داخل

المجلس، ربما يجب أن تستمر الأمور كما هي وتعيش هذه الفتاة الرقيقة اللينة حياة طبيعية؛ تتزوج من رجلٍ

صالح وتُنجب ذرية يشغلون وحدتها ويميطون عنها هذا الحزن.

 

هكذا وجدت نفسها تقول:

-لا يهم كيف مات ريان، ما يهم هو أنه تمنى لكِ حياة هينة جميلة تبتسمين بها بسعادة، أنتِ من بيدكِ أن

تجعلي موته لأجل غاية نبيلة أو هباءً منثورًا.

 

ماريا بتساؤل من يستجدي طوقًا للنجاة:

-كيف؟

 

بدا التبسم صعبًا على دينا وهي تجيب:

-أن تعيشي حياة هادئة جميلة لم ينعم بها هو يومًا.

 

بدت الإجابة صادمة بعض الشيء بالنسبة لماريا؛ فكيف لإبنة من أشعل الأرض شرقًا وغربًا أن تُسلِّم كل شيء وتهرع لعيش حياة هادئة، طُفيلية تعيش على ما يشقى به الآخرون، فهزت رأسها نفيًا وهي تقول:

-لا، ليس هذا ما يجعل لموت أبي قيمة، بل فخره بإبنته الوحيدة التي أتمت الطريق من خلفه هو ما سيجعله

فخورًا بي...

 

ثم تبسمت بشجن مردفة:

-أحيانًا أراهم في أحلامي، هو وجدي يراقبانني من أعلى سماء، يرفون عملة ويتراهنون على نجاحي من

عدمه، وأنا واثقة أن أبي راهن على نجاحي فأنا أحمل دماءه وإن كنت مجرد فتاة حمقاء لا تستطيع العيش

بمفردها الآن.

 

فشلت دينا فشلًا ذريعًا؛ فبغير قصد أشعلت فتيل ماريا لتجعلها راغبة في إلقاء نفسها بالمهالك والموبقات، فقط

لتُثبت شيئًا لنفسها، طيشٌ هذا أم طموح أحمق، أيًا يكن ستكون عاقبته وخيمة بالتأكيد، يجب أن تتصرف في

الحال قبل أن تغادر الفتاة غداً لتُفسد شيئًا لا يُمكن إصلاحه....

 

فتظاهرت بالحماس لسعادة ماريًا ثم قالت:

-أترغبين في مشروبٍ غازي؟

 

ماريا:

-لا، لستُ ظمئة الآن.

 

مطت دينا حاجبيها بدهشة مصطنعة قائلة:

-عجيبٌ أمرك، ظننتكِ ستوافقين على الفور؛ فقد كان أبيكِ عاشقًا له قبل أي حربٍ يخوضها مع شركة

منافسة.

 

ثم نهضت إلى المطبخ، لتُحضر قنينة مشروب غازي، وفي طريق عودتها مرت على دورة المياه خلسة، ثم

عادت إلى ماريا وقدمت لها المشروب بإبتسامة واسعة وهي تقول:

-فليكن هذا نخب عزيزتي ماريا التي ستنطلق كالقطار ولن يُوقفها أحد.

هزت ماريا رأسها تحية لدينا، ثم تناولت المشروب الغازي، بينما ترى والدها نصب عينيها يبادلها النظرات من

بعيد؛ مبتسم كما ذكرته دينا، بشوش الوجه جميل الملامح وإن كان بعيد كل البُعد في خيالها عن هذه المرأة

التي تظنها أمها كأنه يتلاشى النظر إليها، لحظة ما الذي يحدث، أهذا هو الهذيان قبل فقدان الوعي؟

***

 

عُقد المجلس في صباح اليوم التالي، وإلتف الجميع حول طاولة الاجتماع في غياب ملحوظ لهيثم أكبر

المستثمرين والإداريين في ثمرة الجنة، فتصاعدت الهمسات التي تُشير بأصابع الاتهام إلى ثائر، بينما الأخير

يفترش مقعده كأنه لازال يجلس في مقهى هيثم؛ يضع ساق فوق أخرى على سطح طاولة الاجتماع، في

إشهارٍ واضح لتحديه الجميع، بينما يلهو بأوراق اللعب بين أصابعه....

 

مضت الثوان والدقائق ولم يأتِ هيثم، جال أحمد بنظره بين الجميع فلم يجد ماريا أيضًا، فاطمأن قلبه أنها لن

تكون حاضرة في صفيح هذا البركان الذي ينتظر شرارة واحدة ليثور نافثًا دخانه الأسود المكبوت في قلوب

الجميع....

 

أراد أحمد إنهاء الأمر سريعًا فلن يأتي هيثم على أي حال، فنهض قائلًا:

-الإتفاق مُبرم الآن والسيد ثائر غير ملزم بالموافقة على إزالة قيود الاستثمار؛ فالوقت يمضي ولم يأتي السيد

هيثم بعد....

 

بترت عبارته دفعة قوية لبوابات المجلس، فالتفت الجميع في ذهول لهذا الوغد الذي يقتحم مجلسهم بلا

إستاذان....

 

في حين برقت عينا ثائر حينما رآه؛ فلم يكن المقتحم سوى هذا الشاب الذي غادر المقهى قبل دخول ثائر

لحظات، بحلته ذاتها بينما الغبار يغطي وجهه، تفوح رائحة الرماد من ملابسه، ودمع وجهه لم يجف بعد

فلازالت هناك بعض القطرات الهاربة من محجريه لتبني أخدودها وسط الغبار الذي يفعم وجهه، شعره مبعثر

قذر يدل على عدم التهذيب في عجلٍ واضح من صاحبه....

 

على الرغم من الدهشة التي علت وجه الجميع، إلا أن إبتسامة التحدي كانت ثابتة على محيا ثائر وهو يلقي

ورقة الجوكر على ظهر الطاولة، في حين دلف خالد إلى الغرفة وسط همسات الحضور...

 

ودون أن يوليهم أذنه، ضرب سطح طاولة الاجتماع بحقيبته، وبأنفاس لاهثة مرهقة من النبش في الرماد

صباح اليوم بحثًا عن جثة والده، فتح أقفال الحقيبة وأخرج منها العقود ثم ألقاها صوب ثائر بغل وهو يصيح:

-لقد كنتَ هناك، رأيتك بعيني هاتين وأنت تدخل هذا المقهى قبل دقائق من إحتراقه.

 

ثائر بدهشة مستفزة:

-ألم يخبرك والدك أنني لا أفهم العربية يا فتى، فلتتحدث بإنجليزية حتى أفهمك.

 

عض خالد شفته من الغيظ، ثم تمالك أعصابه وهو يهم لتكرار كلماته بالانجليزية، فوأدها ثائر في منبتها

بفظاظة:

-لا يهم، ترهات يتفوه بها فم طفلٌ عاجز...

 

ثم التقط الأوراق مردفًا:

-هذه العقود تحتاج إلى إمضتي وستحصل عليها، لكنك إستهلكت الكثير من الوقت في نبش الركام المحترق

حتى تأخرت كثيرًا.

 

هتف خالد بصوتٍ يكاد يختنق من الغيظ:

-أيها الوغد!!

 

هز ثائر رأسه نفيًا وهو يقول بتعجب:

-لماذا تناديني بالوغد، ستحصل على توقيعي على هذه الأوراق التي تلغي قيود الاستثمار وتسمح لكم بالحصول على مقدار ما تشاؤون من الأسهم أقسم لك...

 

ثم تبسم كاشفًا عن أنيابه مضيفًا:

-بعد استراحة الغداء بالطبع، فلا يُمكنني الإمضاء بمعده خاوية، فإمساك القلم يحتاج إلى مجهودٍ مضني

أليس كذلك؟

 

تقرحت شفتا خالد من فرط الضغط حتى كادت تنزف دمًا وهو يراقب قاتل والده ينهض أمامه ويتجه إلى

مخرج الغرفة قائلًا بسخرية:

-هيا أيها السادة، كوب قهوة صغير لن يضر أحدًا.

 

فصاح خالد بصوت من تملكه الجنون:

-أنا أراقبك أيها الوغد، لقد تأكدت من وجود قوات الشرطة هنا حتى لا تستطيع جرذانك الظفر بأحد.

 

***

 

في ركن الاستراحة اتكأ ثائر على ثلاثة أريكة كاملة وحده، يدخن لفافة التبغ ويحتسي قهوته الصباحية بهدوء،

بينما نظره يدور بين الوجوه المتوترة وحلقات الهمس التي تشكلت؛ فكلٌ يبحث عن حليف قوي ليعزز موقفه،

لكن خالد الصغير لم يفعل، بل جلس على المقعد المجابه لثائر يأسره بنظره كأن عيناه صارت قضبانًا له.

 

إستمر هذا الوضع الصامت المتحفز عدة دقائق، قبل أن ينهض ثائر فجأة ويترك كوب القهوة ولفافة التبغ

ليسقطا أرضًا، فنهض خالد بدوره متحفزًا، والتفتت أعين الجميع إلى ثائر الذي إنفجر ضاحكًا وهو يقول

موجها حديثه لخالد:

-أفزعتك يا فتى، لا تُنكر، لقد أفزعتك.

 

حدجه الجميع بنظراتٍ باهتة مستنكرة لفعلته كأنه محض طفلٍ أهوج، لكنه لم يكف عن مشاكسته لخالد، بل

قال:

-أنت أيها الفتى الوسيم، أتريد أن أريك كيف احترق مقهى والدك؟

 

لم ينجرف خالد إلى إستفزازاته، لكن نظراته الغاضبة الساخطة أجابت عن كل شيء، فبسط ثائر يده مضيفًا

بتهكم:

-سأعتبر السكوت علامة على الموافقة كما يقولون في هذا البلد الجميل، لذا سأعرض عليك خدعة سحرية

تتباهى بها أمام أصدقائك.

 

وبمجرد أن أنهى كلماته فرك أصابعه ليُحدثوا صوت طقطقة، فتفحص الجميع هواتفهم المهتزة والمعربة

عن وصول رسالة عاجلة.

 

بعدم فهم تفحص خالد الوجوه الممتقعة؛ فهو الوحيد الذي لم يعلو صوت هاتفه، فقال ثائر ليخلصه من

الحيرة:

-لن تحتاج أن ترى شيئًا؛ فقد رأيت كل شيء سلفًا.

 

ثم صفق بيده كساحر أنهى عرضه، وهو يقول:

-إنتهينا من الترفيه، فلنعد إلى مجلسنا الجميل فهناك أوراق نحتاج أن نوقعها.

 

تقدم الصفوف واضعٌ يده في جيبه وبعينيه وميضٌ فيروزي ينثر شرارًا، فتبعه خالد على الفور، ثم أحمد

والبقية.

 

تناول ثائر العقود، ووقعها قائلًا بهدوء:

-أنا رجل يفي بكلمته في نهاية المطاف...

 

ثم دفع حُزمة الأوراق صوب خالد مردفًا:

-ها قد صار معك ثلث الأصوات هنا؛ فأنا أمتلك ثلث الشركة كما تعلم، وبما أنك وقعت نيابة عن والدك فقد

صار نصف المجلس يوافق على فك قيود الاستثمار، تهانينا يُمكنك أن تستثمر قدر ما تشاء أو تستحوذ على

كل الأسهم...

 

ثم تبسم بظفر لتتبدى أنيابه وهو يُضيف:

-لكن ماذا عن نصف المجلس الآخر، أهم موافقون على فك قيود الاستثمار؟

 

خالد بسخرية:

-بالطبع هم موافقون، فأبي فعل كل هذا لأجل....

 

لكن قبل أن يُتم كلماته، لاحظ حضور المجلس ناكسي الرؤوس، متعرقي الجباه، فقال ثائر بإعجابٍ ساخر:

-فلتكمل يا فتى، لماذا توقفت، أنت تبلي حسنًا؟

 

أدرك خالد في هذه اللحظة أن المجلس ليس معه، لقد نجح هذا الوغد في شراء أصواتهم بهذه الرسالة التي

أرسلها أثناء الاستراحة، لقد بات وحيدًا بين براثن الأسد الآن، ينتظر أن يتم إلتهامه لكن الليث يهوى اللهو

بضحيته ليتلذذ بها قبل أن يأكلها...

 

من قلبه ضحك ثائر وهو يلقي بورقة اللعب ذات رسم ملاك الموت إلى خالد هاتفًا:

-إنتهى كل شيء أيها الغر الصغير لم يعد لديك المزيد من ال....

 

بُترت عبارته حينما فُتحت أبواب الغرفة على مصرعيها، فإلتفت الجميع إلى مدخل الغرفة وعلى وجههم ذات

الأمارات الذاهلة؛ فقد كثرت الاقتحامات اليوم وكل تدخل يبعثر أوراق اللعب...

 

لكن من جاء هذه المرة هي الورقة الرابحة التي تملك زلزلة كل شيء وقلبه رأسًا على عقب...

 

ماريا الفتاة التي يبدو على وجهها السقم، تسير مترنحة تكاد تسقط، لكنها عزمت على أن تُكمل طريقها بلا

مساعدة من أحد...

 

قطعت الخطوات وأبصار الجميع متشبثة بها في صمت، جذبت المقعد المجابه لثائر على رأس الطاولة

وجلست قائلة بصوتٍ واهن:

-يُمكنكم الجلوس يا سادة.

 

كان الجميع قيام من فرط الذهول، حتى ثائر نفسه عض شفته بحنق كمن رأى ملاك الموت؛ فهذه الفتاة

الخرقاء قد تسحب منه كل شيء في ثوان معدودة...

 

جلس الجميع، بينما برقت عينا ثائر كالنمر وهو يرمق عينا ماريا مباشرة، لكن الأخيرة كانت تراه بصعوبة،

فلازال عقلها مشوشًا من المنوم الذي دسته لها دينا حتى لا تحضر اليوم....

 

بينما تبسم خالد للمرة الأولى منذ حطت قدمه بهذا المجلس، فمشاهدة عدوك وهو يتدحرج على السُلم المؤدي

للهزيمة يشفي غليلك أكثر من أن تراه يسقط ويخر دفعة واحدة، بل أكثر من ذلك، فقد سُرق من ثائر النصر

في ثوان معدودة على يد فتاة لم تتعدى العشرين عامًا بعد...

 

فهتف بشماتة:

-أرجو أن يوقع كل من يوافق على فك قيود الاستثمار على عقده الآن.

 

عبثت الأقلام، ثم سُلِّمت جميعها إلى أحمد الذي كان أكثر الحضور توترًا وهو يمسح بعينه الأوراق بحثًا عن

ورقة بعينها قد تكون بإمضائها نهاية كل شيء....

 

إتسعت مقلتاه وإنفغر فاه، فعض ثائر شفته ندمًا على طاعته لأحمد في ضم ماريا إلى المجلس، بينما في

الجهة الأخرى تهللت أسارير خالد وهو يهتف: فلتنطق بالنتيجة؟

 

بعدم تصديق أجابه أحمد:

-إمتنع نصف المجلس بأكمله عن الإمضاء على قرار فك قيد الاستثمار، ولم يوافق سوى السيد ثائر الذي

يمتلك ثلث الشركة والسيد خالد الوريث الشرعي للسيد هيثم، ليكون القرار باطلًا لعدم موافقة أكثر من نصف

المجلس.

 

إلتفت خالد إلى ماريا بأعين مفتوحة على مصرعيها تكاد مقلتاها تفر من محجريها، فتشبثت ماريا بطرفي

الطاولة لتستطيع النهوض والمحافظة على إتزانها وهي تقول بصعوبة:

-لقد رفضت قرار فك قيود الاستثمار اليوم لأن أبي لم يكن ليوافق عليه مطلقًا، ولن أُضيّع ثمرة الجنة التي

أمضى عمره في تطويرها لأجل طموح بعض الجشعين الذين يظنوني لقمة سائغة، إن كان هذا وكر الذئاب

كم يُطلق عليه، فالقطيع سيتبع قائده، وإن تخلف أحد سيُلقى خارجًا كالقمامة بلا رجعة.

 

كلمات غليظة تشع قوة وهيبة وإن كانت قائلتها مجرد فتاة صغيرة أمام هؤلاء الطغاة، سقطت على إثرها

مغشي عليها، فلم تعد قادرة على بذل المزيد من المقاومة...

 

هرع أحمد صوبها قلقًا وبقلبه وجوف وهلع من أن تكون قد أُصيبت بمكروه، فربت على وجنتها برفق وهو

يردد إسمها، ثم فتح عينيها ليرى حركة مقلتها، فأتاه صوتٌ خشن من خلفه يقول:

-إغماء؟

 

أومأ أحمد برأسه إلى ثائر، فربت الأخير على كتفه ليفسح له المجال، ثم حملها على راحتيه، وقد تعلّقت

أبصار الجميع الغير مصدقة لما ترى به، ثم غادر على عجل قبل أن ينطق أحدهم بكلمة، في حين عاد

أحمد إلى مقعده وهو يشير إلى دورة المياه موجها حديثه إلى خالد:

-لقد إنتهى الأمر، يُمكنك الآن ان تحصل على بعض النظافة.

***

 

أهذا الرجل ذو الشعر المجدول واللحية الغليظة هو والدها؟

 

إذًا من هذه المرأة اللعوب التي تخدش رقبته بأظفارها، ملامحها لا تبدو سوية لكن أباها لا يمنعها، أهي

زوجته الأولى، أم..أم والدتها هي؟!

 

فتحت عيناها ببطء لتجد صورة وجه والدها لازالت مطبوعة نصب عينيها، ثم انقشعت رويدًا رويدًا لتتبدى بدلًا منها عينان فيروزيتان قلقتان وحاجب به ندب عرضي، ووجه غربي أبيض تعرفه جيدًا...

 

بمجرد أن فتحت عينيها، اعتدل ثائر في وقفته بعد أن كان مائلًا يتطلع إليها، ثم دس لفافة تبغ بين شفتيه

لتأتيه إحدى الممرضات قائلة:

-لا يُمكنك التدخين هنا يا سيدي.

 

تظاهر ثائر بالجهل وهو يجيبها بالعربية باسمًا:

-لا اُجيد العربية، فلا أفهمك.

 

تبسمت الممرضة لدعابته، فمد له يده بلفافة التبغ من بين شفتيه قائلًا:

-فلتفعلي بها ما شئتِ.

همّت الممرضة في تناول لفافة التبغ، لكن ثائر دسّها بين نهديها، ثم لطمه بتبجح، فتناولت الممرضة لفافة

التبغ وعلى وجهها إبتسامة فتاة ذائبة مهتاجة.

 

((ماذا تفعل هنا، أين أحمد؟))

 

نطقتها ماريا بذعر، فمط ثائر حاجبيه الشقراوين، ثم هم مغادرًا دون أن ينبس ببنت شفة...

 

عاودت ماريا سؤالها، ثم قالت بعصبية ملتاعة:

-لماذا أحضرتني هنا، أأنا رهينة أو ما شابه؟

 

رمقها ثائر بنظره ساخرة من رأسها حتى أخمص قدمها، ثم تمتم:

-فتاة حمقاء.

 

وغادر المشفى وعقله يُعذبه بهذه الذكرى؛ رمال بيضاء، موج عاتي وهذا الرجل الألحى يجلس على مقعده بعد

أن إرتكب جريمته الشنعاء، صوت الرصاصة الأخيرة لازال صداه في أذنه، ولازال ذكر هذا الرجل لإسمها

يتردد بفؤاده...

 

ماريا، كم هو إسم عزيز عليه، حرمه القدر منه بإجحاف ولا يُمكن أن يعود القدر في نصوصه، فهي

نصوص مقدسة لا تبطل أبدًا.

***

مواعيد النشر: السبت


(((لقراءة الفصل الخامس اضغط هنا)))


#مائدة_الشيطان

#محمد_بهاء_الدين


تعليقات