BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الخامس (محمد بهاء الدين)

 





(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



في المتحف الروماني، وقف أحمد أمام حوض المياه الجارية، يتأمل تمثال إمبراطور الأعمال العظيم، ثم

غاص في هيبة هذا المكان، فيا لها من قشعريرة تنتابك حينما تُدرك أنك تقف أمام معشرٍ من أعاظم القوم

الذين شيدوا التاريخ...

 

عند بوابة المتحف أوقف ثائر سيارته، ثم وضع لفافة التبغ المشتعلة في محفظة التبغ، فلا يُمكن تلطيخ

الأرضية الفضية لثمرة الجنة بالقاذورات....

 

دلف إلى المتحف، وسار حيث يقف أحمد، ثم وقف جواره يتأمل جدول الماء الجاري قائلًا:

-سأعود إلى إيطاليا.

 

تبسم أحمد في شجن وهو يستذكر جزءً من الماضي البعيد، قائلًا:

-كم سمعت هذه الكلمة من فمه، وكم كرهت هذا البلد في كل مرة ذهب إليها...

 

مط ثائر حاجبيه، ثم التقط محفظته والتقط لفافة التبغ مرة أخرى ودسها في فمه ليأخذ نفسًا منها، ثم نفثه

قائلًا:

-لقد غِبتُ كثيرًا حتى نضجت هذه الفتاة، هي الآن قادرة على إدارة أمورها.

 

أحمد مستنكرًا:

-نحن نتحدث عن ثمرة الجنة، أحد أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم وأكثرها تنافسية، ماذا

رأت ماريا المسكينة من الحياة حتى تعهد لها بثمرة الجنة؟

 

نفث ثائر دخان لفافة التبغ ثم قال:

-لا شيء، لهذا سأتركها ترى القليل.

 

ثم ألقى لفافة التبغ في الحوض بلا أي لباقة لقدسية هذا المكان، وأردف:

-لا أنتمي لهذا المكان، أريد أن أعود إلى مكانٍ حيث يدوي الرصاص....

 

ثم تبسم مضيفًا:

-كما أن بي شوق يحرقني كهذا التبغ إلى أحضان فتاتي الايطالية؛ فقد غبت عنها زمنًا، أريد أن أرى كيف

هي الآن.

 

تجاهل أحمد جملته الأخيرة، ليسأله:

-لا زالت عائلة الأوروكا لك؟

 

ثائر بإستهانة:

-لا أعلم، نحن نتحدث عن إحدى أكبر عائلات المافيا، وغياب زعيم العائلة سيجعل همسات الأفاعي

الخافتة تعلو.

 

هز أحمد رأسه معربًا عن مدى صعوبة الموقف، ثم قال:

-كما أن دمك ليس نقيًا.

 

رسم ثائر ابتسامة على وجهه قائلًا:

-لازلت الوريث الهجين كما يلقبونني هناك، لي عائلة نوسترا وعائلة الأوروكا، تركت كل شيء وأتيت إلى

هذه القذارة حيث اللهو بالسلاح في غاية الصعوبة.

 

أحمد متسائلًا:

-ستأخذ رجالك؟

 

صمت ثائر برهة مفكرًا ثم قال:

-لا، سأتركهم رفقة هذه الفتاة الحمقاء، لكنهم سيكونون رهن إشارتك أنت...

 

ثم ولى ظهره لأحمد مغادرًا وهو يقول:

-فلتأخذ حذرك من هذا الشاب، فقد بدا طموحًا له رغبة ملحة في الانتقام، وقد سرقته هذه الفتاة منه بقسوة.

 

أحمد:

-خالد؟

 

أومأ ثائر برأسه قائلًا:

-لقد خسر أباه، لكنه لم يكن ليبكي عليه، بل كان ليقتله إن لم أسبقه إليه، لقد بكى فقط ليسرق تعاطف

الجميع.

 

أحمد وقد خطر بباله أمرًا:

-ماذا أرسلت لأعضاء المجلس حتى يغيروا رأيهم بهذه السرعة؟

 

ثائر ضاحكاً:

-صورًا طريفة لجثة هيثم وهي تُدخن التبغ.

 

***

 

كانت دينا هي من أتت لاصطحابها من المشفى، تتلاشى النظر إلى عينيها بعد أن استغلت ثقتها بها وسقتها

المشروب الغازي رفقة حبيبة منومة صغيرة الحجم، لكن لخشيتها عليها لم تُعطها منومًا ذو مفعول قوي؛

فاستطاعت ماريا النهوض والذهاب بأقدام مترنحة إلى هذا المجلس...

 

لازال لسان ماريا ثقيلًا بعض الشيء فلم تُرهق نفسها بالتحديث، بل سمحت لعقلها بالغوص في الأوهام،

تخلق شخصًا يُشبه والدها في مخيلتها، وتصنع في رأسها صورة لها في طفولتها، ثم تتخيل هذه الطفلة في

كنفه...

 

كان تخيلها سهلًا؛ فالأثاث لم يتغير كثيرًا ولم تنتقل من هذه الفيلا أبدًا، فرمقت الطريق عبر زجاج السيارة

وتبسمت وهي ترَ هذه الطفلة تكاد تسقط فيلتقطها أباها، يقذف بها في الهواء ثم يلتقطها لتعلو ضحكاتها،

دون أن تُدرك وجدت دمعاتها تنساب من عينيها لتُبلل وجنتيها الوثيرتين....

 

رأتها دينا عبر مرآة السيارة ، فهرعت لإيقاف السيارة هاتفة:

-ماريا، هل أصابكِ خطب ما، أخبريني يا طفلتي العزيزة؟

 

تبسمت ماريا قائلة:

-لا شيء، فقط بعد السعادة الوهمية، فلتتابعي السير أرجوكِ، لا تتوقفي.

 

تفحصتها دينا بعينيها لتتأكد أنها على ما يرام، ثم تابعت السير تاركة ماريا تعود إلى أحلامها مرة أخرى حيث

والدها لازال حيًا، ينتظر عودتها بفارغ الصبر...

 

توقفت السيارة لتنتشل ماريا من أحلام يقظتها، فشعرت بالضجر بعض الشيء فالخيال أحب إليها بكثير من

واقعٍ تعود به إلى المنزل فلا تجد أباها في إنتظارها، لكن لمَ أباها فحسب هو من تشتاق إليه، ماذا عن

أمها، لقد أخبرتها دينا أن إسمها هو سيرين، زوجة أباها الثانية وأمها التي أنجبتها، كانت تعمل رفقة والدها

فقد كان لها عقل داهية، فإنتهى الأمر بينهما بالزواج بعد أن هجرته زوجته الأولى بعقدٍ من الزمن....

 

إذًا لم تكن أمها سوى مخدر نسى به أباها زوجته السابقة، على الرغم من قسم أحمد ودينا لها أنها لم تكن

كذلك لكنها موقنة أنها كانت إمرأة لعوب لم يحبها أباها يومًا، لا تدري ما سبب هذا اليقين لكنها فقط تعرف

ذلك.

 

((ماريا، حبيبتي، ألازلتِ غاضبة مني؟))

 

هزت ماريا رأسها نفيًا وهي تستلقي على سريرها قائلة:

-لا؛ أعلم جيدًا أنكم لن تؤذوني أبدًا، لقد خشيتم جميعًا أن أُفسد الأمر اليوم، حتى هذا الرجل السيئ المسمى

بثائر؛ كان رافضًا لدخولي المجلس ليس لضغينة إتجاهي، بل حتى لا أُفسد شيئًا، وقد كان محقًا.

 

هزت دينا رأسها نفيًا وهي تقول مطيبة لخاطرها:

-لا، لم يكن محقًا، أنتِ فقط...

 

بترت ماريا عبارتها بعصبية:

-لا تخدعاني أكثر من ذلك، بمجرد حضوري كنت حجر عثر له، لعب بي هذا المدعو هيثم كأنني دمية،

وقد كنت خير دمية بين يديه، لولا وجود هذا البغيض ثائر لكان إرث أبي وجدي إندثر في دقائق معدودة.

 

صمتت دينا برهة فكرة؛ فأي كلمة خاطئة تنطق بها الآن قد تخدش قلب ماريا وقد نالت ما يكفي اليوم، فقالت بغموض مازحة:

-أتريدين أن تعلمي ماهية عملي مع والدكِ؟

 

أومأت ماريا برأسها بلا إهتمامٍ حقيقي، فأطبقت دينا على وجنتيها قائلة:

-لقد كنت مهندسة في قسم تكنولوجيا المعلومات، لكن أتدرين ما هو عملي الحقيقي مع والدك؟

 

بدأ ينتاب ماريا بعض من الفضول، فقالت بفمٍ مطبق:

-ماذا؟

 

أجابتها دينا متصنعة الشر:

-قرصانة إلكترونية، أسرق البيانات وأُسرب الفضائح وأحدد له مكان الأعداء بدقة...

 

تحررت بعض الشيء من قواعد العمر وهي تهتف كفتاة عشرينية:

-كان الأمر ممتعًا حقًا، لا يوجد حاسوب يستطيع الوقوف في وجهي ولا كود برمجي، وصلت إلى ذروة

مستواي بفضله وبفضل ضحاياه بالطبع، كنت أدخن الماريجوانا لتكتمل نشوتي، وأحيانا تتم متعتي ببعض

مداعبة الأصابع في....

 

أدركت أنها بالغت في وصف عملها الإجرامي، فضحكت قائلة:

-أعني انه من المرهق أن تكون مثاليا طوال الوقت؛ فقد إنتهز والدك ذروة تمردنا لنصل إلى أهدافنا، لكل منا

شيء خُلق لأجله، قد يُجيد البعض الرسم والبعض الآخر التمثيل أو التأليف، إن طرقتِ على نقاط قوتك هذه

وأفرطِ في إستخدامها ستصيرين لا تقهري، فقط اكتشفِ جانبك المتمرد وإستخدميه للوصول لغايتكِ.

 

لمس حديث دينا شيء في قلب ماريا، وأوضح لها بعض الشيء الخطوة القادمة، لكنها قالت ضاحكة:

-يبدو لي مجرمًا حينما تتحدثون عنه هكذا، لماذا تحبون شخصًا سيئا بهذا القدر؟

 

دينا بشجن:

-لم يكن مجرمًا، بل كان وحشًا طاغيًا، يفعل أي شيء ليصل إلى غايته ولو قتل ألف نفس.

 

أوضحت كلمات دينا الكثير من خفايا ريان والد ماريا، فازدادت الأخيرة تعلقًا به ورغبة في رؤيته ومقابلته،

لكنها تعلم أن ذلك لن يحدث؛ فلا لقاء سوى بعد الموت، لكنها أقسمت أن لا تلقاه خاوية الوفاض، بل

ستصوغ العشرات من القصص لتقصها له، سيبتسم حينها وينظر إلى جده بفخر هاتفًا:

-أنظر إلى ابنتي، لقد نال العالم اللعين الأمرّين منها.

 

تبسمت رغمًا عنها لهذا الخيال المضحك، ثم وثبت واقفة على فراشها، ووضعت قبضتيها في جانبها كما

يفعل الأطفال حينما يقلدون الأبطال الخارقين، وهي تقول:

-في الغد سيرى الجميع من هي ماريا ابنة ريان وحفيدة آدم، سيشيدون لي تمثالًا في المتحف الروماني كما

فعلو لجدي، سأكون إمبراطورة الأعمال التي تحارب الشرق والغرب لتصنع اسما لها تقشعر له الأبدان.

 

كانت كلماتها حماسية جريئة، تبسمت لها دينا، ثم قالت:

-عليكِ أن تتعلمي أولًا.

 

ماريا بدهشة:

-لقد تخرجت من جامعتي توًا، لم أفعل شيء طوال عشرين عام سوى التعلم.

 

هزت دينا رأسها قائلة:

-ليس هذا ما أقصده، أقصد أن تعملي بنفسكِ ولا تكتفين بالإدارة من بعيد.

 

ماريا بإحباط:

-أتريدينني أن أصير عاملة في شركتي؟

 

أومأت دينا برأسها ثم قالت مبررة:

-هكذا ستفهمين من حولك ومن تديرينهم؛ فقد كان والدكِ يقول أن القائد الحقيقي هو من يشاطر جنده

ميدان القتال، لا من يجلس في غرفة مريحة ويصدر الأوامر من بعيد.

 

حينما ذكرت دينا مقولة والدها أومأت ماريا برأسها قائلة:

-حُسم الأمر سأبدأ العمل من الغد...

 

ثم إستوقفها شيء فتساءلت:

-أفعل ثائر هذا الأمر أيضًا؟

 

صمتت دينا برهة مفكرة، ثم أجابت:

-فعل ذلك لكن بطريقة أخرى أكثر قسوة.

 

ماريا بفضول:

-كيف؟

 

أجلستها دينا وربتت على رأسها بحنان قائلةً:

-لا يجب أن تسرقي تجارب الآخرين، فلتكن لكِ تجربتكِ الخاصة.

 

إستلقت ماريا بفراشها وهي تتطلع إلى سقف غرفتها بحماس، ثم تساءلت:

-ماذا ستكون وظيفتي؟

 

صمتت دينا برهة مفكرة ثم أشرق وجهها المليء بمستحضرات التجميل بفكرة مناسبة، فقالت:

-سترافقين أحمد في عمله.

 

صاحت ماريا بحماس:

-أجل...

 

ثم تساءلت بهلٍ لطيف:

-ما هي وظيفة أحمد سوى الجلوس في هذا المجلس وإتخاذ القرارات.

 

إتسعت عينا دينا في دلالة على أهمية ما ستقول:

-إنه المفاوض الأفضل في العالم، يقتنص أفضل الصفقات ويجيد التفاوض بلسانٍ عذب، فقد كان لصفقاته

جانبًا ضخمًا من توسع ثمرة الجنة، ما كان والدكِ يذهب لإبرام صفقة ما سوى وأحمد برفقته.

 

أومأت ماريا برأسها قائلة:

-حُسم الأمر، غدا سألازم أحمد في العمل لأتعلم كل شيء.

 

هزت دينا رأسها موافقة، ثم لثم جبين ماريا بحنانٍ أموي قائلة:

-تصبحين على خير يا جميلتي، فلتنامي جيدًا، فغداً هو اليوم المُنتظر.

***

هبطت طائرة ثائر الخاصة بمهبطها في هذا الجزء الخاص به في مطار نابولي، فتوقف على قمة سلمها

يستنشق هذا الهواء المعبأ بالأتربة ورائحة الصدأ والبخار، فتبسم شوقًا كمن عاد للوطن، رغم أنه لم ينل في

هذه المدينة الصاخبة سوى العذاب والقتال منذ الصغر حينما شكّل عصابة أطفال الزقاق التي وقفت في وجه

عائلة كامورًا أعتا عائلات المافيا الايطالية والعائلة المسيطرة على مدينة نابولي...

 

دام صمود أطفال الزقاق في جنوب نابولي عدة أشهر حتى إنتهى بخيانة محافظ نابولي أنطونيو كونتي

لهم...

 

ذكريات قبيحة ترفض أن تندثر من طيات عقله، فأشعل لفافة تبغ ونزع نظارته الواقية من الشمس وهبط

الدرج صوب سرب السيارات رباعية الدفع ذات الصندوق الخلفي التي تنتظر قدومه كأنه رئيس دولة ما...

 

دلف إلى السيارة الجيب التي يسبقها ثلاث سيارات ذات صندوقٍ خلفي، وبخلفها ثلاثة سياراتٍ أخرى.

 

فوجدها تنتظره هناك؛ فتاة مكحلة العينين، شعرها أشقر مموج جعلها أشبه ما تكون بنمرٍ فاتن الجمال، لا

تحتاج لأحمر شفاه لتُبرز وردية شفتها المشقوقة....

 

لم تستقبله بمصافحة بل بقبلة عميقة قضت دقيقة كاملة حتى أنهتها، لتترك في فمه علكة بمذاق الكريز،

تناولها ثائر وهو يبتسم قائلًا:

-لقد عُدت عزيزتي مارتينا.

 

رغم ما بدر من الفتاة ذات القميص الذهبي مكشوف الذراعين والخصر من مشاعر إلا أنها أشاحت بنظرها

بعيدًا وهي تقول بتبرم:

-تبًا لك، تغيب سنوات، ثم تأتي ببساطة لتقول عُدت يا عزيزتي، أتظنني سأظل عزباء طوال هذا الوقت؟

 

تبدلت ملامح ثائر لتتحول للجمود التام الخاص بالقتلة وهو يسألها:

-من هو؟

 

ضحكت الفتاة بمشاكسة وهي تقول:

-أنت في مخيلتي متجردًا من سروالك.

 

ثم أردفت بدلال:

-فلتعوضني بالزواج.

 

أراح ثائر رأسه على ظهر مقعده وهو يرمق اللافتات في شوارع نابولي أثناء سير سربه الصغير، ثم تمتم:

-إشتقت لإيطاليا لمَ تريدينني أن أستقل طائرة العودة؟

 

بلا إنذار، قبضت الفتاة على تلابيبه وألصقت سكينها في عنقه وهي تقول بتوعد:

-لقد إنتظرتك طوال هذه الأعوام بصبر، ويُمكنني أن أنتظر أعوامًا أخرى حتى ألقاك في الجحيم.

 

أصدر ثائر صفيرًا متعجبًا، ثم شد من لصق عنقه بسكينها وهو يبتسم بتحدٍ...

 

مرت عدة ثوان حتى ضاقت عيناها، وسبحت بسكينها لتجرح عنقه بشقٍ عرضي، ثم حادت بها لتمزق أزرار قميصه ليتبدى صدره، فجلست على ساقه لتلعق جسده بإسثارة وشوق:

-اللعنة، لقد إشتقت إليك حقًا.

***

لم يكن منزل ثائر بالقصر الفارة أو المنزل ذو الحدائق الغنّاء، بل مجرد شقة عادية قليلة الأثاث، في مبنى

يعج برفاقه.

 

حينما أطل سرب السيارات الخاص به من بعيد، علت الأهازيج ومُلئت سماء نابولي بالألعاب النارية،

وطلقات الرصاص الصاخبة ليعرف الجميع أن الزعيم قد عاد مجددًا.


تبسم ثائر من خلف الزجاج أمام هذا المشهد المهيب، ولم يستطع كبح نفسه من أن يلتقط مسدسًا من ظهر

مقعده، ثم يطل من نافذة السيارة ليبادلهم الطلقات وهو يصيح بحماس كأنه لازال فتًا عشرينيًا، بل لم يكن في

صغره هذا الشخص المرح رقيق الحاشية، بل كان قياديًا صارمًا؛ أُجبر على رعاية رفاقه من قاطني الشارع

منذ كان في العاشرة، حتى إشتد عودهم وصار الإجرام والسرقة منهاجًا لهم، فلم يكن ثائر بالشقيق أو

الصديق الوفي، بل هو شيء يكاد يعلو شأنًا من الأب؛ لهذا لم يتردد أيًا منهم في الموت لأجله في السابق أو

اليوم....

 

من رفاق الشارع هؤلاء كانت مارتينا، الفتاة التي حملها على ظهره وطاف بها في مستشفيات نابولي حينما

أصابتها الحمى القاتلة، لم يكن الخروج للبر الرئيسي هينًا على أطفال الزقاق حينها، لكنه غادره لأجلها

متحديًا كل شيء....

 

وها هي الآن ترمقه وهو يُجن جنونه ويُطلق الرصاص من نافذة السيارة، فتبسمت لعودة الأمان من جديد؛

فمع غياب الشمس لن يُضيء القمر ولو صوبت عليه كل أنوار الدنيا...

 

كان صديقه فدريكو هو أول من إستقبله.

فارع الطول، عريض المنكبين، مفتول العضلات، ذو شعر مجدول ووجه أبيض بشوش يملأه الندوب، ما إن سقط بصره على ثائر حتى غلفه بذراعيه وقد دمعت عينه شوقًا، فبادله ثائر الربت على ظهره وهو يقول:

-إشتقت للجميع هنا، لكن أنت أيها الوغد أكثر من سكن بالي.

 

بادله فدريكو القول بصوتٍ غليظ:

-فليذهب ما أخذك منّا إلى الجحيم يا رجل، لن تترك نابولي ثانية، أليس كذلك؟

 

مط ثائر حاجبيه قائلًا:

-هذا يعتمد على الأوغاد هناك.

 

رأى فدريكو دمه، فرمقه متسائلًا، فأجابه ثائر بقلة حيلة:

-مارتينا.

 

إنفجر الاثنان ضحكًا، ثم صحبه فدريكو إلى شقته قائلًا:

-لقد تغيرت منذ ذهبت إلى بلاد الفراعنة، ما الذي فاتني؟

ثائر بإمتعاض:

-بعض الحيل والمؤامرات القذرة فقط.

 

لم يمر ثائر بدور من المبنى السكني، حتى تجمع عليه العشرات بالمصافحة والعناق، بعضهم لا يعرفه ولم

يره من قبل، لكن ما كان يُقص حول الوريث الهجين من حكايات كانت تجعل أي شاب طموح في عالم

الإجرام يتمنى أن يُضاف لسيرته الذاتية العمل رفقة ثائر؛ زعيم عائلتي نوسترا والاوروكا أقوى عائلات المافيا

الايطالية....

 

وربما هنّ الأقوى الآن لتطهير ثائر ورجاله لعرق الكامورا بعض قتله لبيترو العجوز زعيم العائلة، لكن رغم

كل ما قام به ثائر من حملات وحشية خلّفت عشرات القتلى تأتي سيارات الإسعاف في الصباح للملمتهم

كالقمامة، إلا أن أطراف العنكبوت لازالت تنبض رغم تحطم رأسها....

 

وصل أخيرًا لشقته في الدور قبل الأخير ليجد بإنتظاره الأخت نورينا؛ العاهرة السابقة في مواخير الكامورا،

لكنها تحررت من قيودهم حينما جاء أطفال الزقاق للسيطرة على جنوب نابولي، في هذا الوقت كانت لا تزال

شابة مفعمة بالجمال، لكن الآن هي محض عجوز في الخمسين من عمرها تحاول أن تحافظ على رونق

شبابها بمستحضرات التجميل والشعر المستعار...

 

كان ثائر يحبها بصدق؛ فحينما تكون مشردًا، سيأسر قلبك أول من يحنو عليك، فاحتضنها بشدة وهو يهمس بأذنها:

-لقد عُدت على المنزل.

 

ملست نورينا على رأسه وسبحت في عينيه الفيروزيتين وهي تقول بإشتياقٍ جارف:

-لقد غبت عنا كثيرًا، أهناك ما هو أهم من العائلة؟

 

حررها ثائر من بين ذراعيه وهو يدلف إلى شقته ويغلق الباب ليتخلص من الضوضاء في الخارج، ثم أجابها:

-لقد كان شأنًا عائلي أيضًا، أختي نورينا.

 

هزت نورينا رأسها قائلة:

-عسى أن يكون كل شيء على ما يرام.

 

لم تمضي ثوان حتى أتت طرقات غاضبة حانقة على الباب، وصوت صياح مارتينا من الخارج وهي تتوعد

فدريكو بإرساله إلى الجحيم، ففتح ثائر الباب بقلق متسائلًا:

-ماذا هناك؟

 

أشارت مارتينا إلى فدريكو قائلة:

-هذا الوغد يطلب مني تصريحًا بالدخول ليدعني أمر.

 

تبادل ثائر مع فدريكو النظرات الضاحكة، ثم أفسح لها ثائر المجال للدخول، ودنى من أذن فدريكو هامسًا:

-فلتُعِد الرجال، فسننطلق في زيارة مفاجئة إلى صقلية.

 

برقت عينا فدريكو بوميض المتعطش إلى الدماء وهو يقول:

-أتنوي أن تُشعلها الليلة؟

مط ثائر حاجبيه مجيبًا:

-لن تكون هناك نار إلا إذا وجدناهم يُعِدّون لنا الحطب.

 

أومأ فدريكو برأسه وهم لتنفيذ الأمر، في حين عاد ثائر إلى الداخل يسأل نورينا:

-ماذا حدث في غيابي؟

 

مارتينا بضيق وهي تُشعل لفافة تبغ:

-ما كنت لتعود إلا لعلمك أن الوضع بات مزريًا هنا.

إتجه ثائر إلى النافذة ليتأمل مبان نابولي المتهالكة التي تشع فقرًا وقحطًا وهو يتساءل:

-من هو أمير الكريستال؟

 

أجابته نورينا وهي تصب مشروبًا له:

-دون سبالتي، حفيد غير شرعي للدون بيترو زعيم الكامورا السابق، لم يكن أحد ليلتفت إليه لولا تخلصك من

عائلة بيترو بأكملها.

 

حينما أتى الدور على كأس ثائر لتصبه نورينا، وضعت مارتينا راحتها عليه قائلة:

-فلتدعي هذا الكأس فارغًا، فسنُثقل في الشراب الليلة.

 

تبادل ثائر النظرات معها، فذمت شفتها بتهكم وهي تقول محذرة:

-أهناك مشكلة ما؟

 

دنى ثائر منها وأمسك بذقنها وجذبها إليه متسائلًا:

-لماذا الانتظار إلى الليل؟

 

تنحنحت نورينا قائلة بحرج:

-فلتنتظروا مغادرتي على الأقل.

 

ضحكت مارتينا بإستفزاز ثم قالت:

-أعتذر، فلتكملي يا أختي الكبيرة.

 

تجاهلت نورينا سخرية مارتينا ووجهت حديثها إلى ثائر مردفة:

-يبيع بضاعة قادمة من الهندراس.

 

ثائر:

-كيف تمر من الميناء؟

 

نورينا:

-ليس من الميناء، بل تُترك له بقارب عند الحدود.

 

صمت ثائر برهة مفكرًا، ثم تساءل:

-متى سيكون المد القادم؟

 

نورينا ومارتينا بتساؤل:

-أي مد؟

 

ثائر وهو يرمق القمر المكتمل في سماء نابولي:

-سنوجه ضربة قاسمة قريبًا لأمير الكريستال كرسالة ترحيب بالوريث الهجين.

***



مواعيد النشر: السبت


(((لقراءة الفصل السادس اضغط هنا)))


#مائدة_الشيطان

#محمد_بهاء_الدين


تعليقات