(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
ارتدت
ماريا القميص الأبيض والتنورة الرمادية وهي تدلف عبر بوابات الشركة العملاقة، لم
تصعد بواسطة
المصعد
المخصوص بأعضاء مجلس الإدارة، بل صعدت بمصعد العاملين لتنغمس في هذا الزحام؛ فلا
أحد
يعرف
من هي أو ما منصبها، فالجميع يراها مجرد موظفة جديدة صغيرة السن، وربما تكون محض
متدربة...
فلم
يراعوا الحدود أو اللباقة، بل معاملة رسمية رتيبة وإجابة على تساؤلاتها بأنفٍ
عالية حتى انتهى بها
المطاف
إلى مكتب أحمد.
همت
بالدخول على الفور لكن موظف الاستقبال أوقفها ناهرًا:
-ماذا
تظنين أنكِ فاعلة...
ثم
تفحص زيها الرسمي الذي يوحي بكونها موظفة حديثة هنا، فكرر سؤالها بلهجة أقل احترامًا
وأكثر توبيخًا:
-من
أرسلكِ إلى هنا، أظنكِ في حاجة للذهاب إلى قسم الموارد البشرية لإجراء مقابلات
العمل.
تورد
وجه ماريا خجلًا؛ فلم تتوقع أنها ستلقى مثل هذه المعاملة الفاترة وإن لم تكن كذلك،
فهذه المرة الأولى
التي
تُعامل بها بتساوٍ مع أقرانها من المبتدئين هنا، فقالت بصوتٍ طفولي متحشرج:
-السيد
أحمد هنا، هذا مكتبه أليس كذلك؟
تفحصها
موظف الاستقبال مرة أخرى، ثم سألها بارتياب:
-ألديكِ
موعد مُسبق؟
أومأت
برأسها مجيبة:
-أجل،
فلتخبره أن ماريا تنتظره.
اتجه
موظف الاستقبال إلى الهاتف الداخلي، في حين ظلت ماريا واقفة في موضعها، فأشار لها
بشيء من الاستعلاء:
-يُمكنكِ
أن تستريحي حتى يأذن لكِ بالدخول.
هزت
ماريا رأسها بإذعان، ثم اتجهت إلى مقاعد الاستراحة، تتأمل الشركة التي تملكها
بأعين مفتونة، تبدو
كشركة
عاديه، لكنها لم ترَ عمقها الإداري من قبل، فكان ما تراه مبهرًا لها وهي تسأل
نفسها:
-أأنا
حقًا أمتلك كل هذا؟
لقد
عاشت مرفهة لا تحمل هم المال، لكنها كانت في معزلٍ تام عن كل ما يحدث هنا...
دار
بين موظف الإستقبال وأحمد حديث قصير؛ اتسعت على إثره عينا موظف الاستقبال وهو
يسترق نظرات
الخجل
إلى ماريا، ثم أنهى حديثه مع أحمد واتجه إليها خافضًا رأسه وهو يقول بخجل جارف:
-أعتذر
سيدتي لم أكن أعرف أنكِ المالكة، أعتذر منكِ حقًا.
لم
تجد ماريا الكلمات المناسبة لتقولها لهذا الشخص الذي يعتذر لها، فاستمرت في صمت
الدهشة حتى أطل
أحمد
من الداخل مرحبًا بها، فنهضت ماريا على الفور وحثت خطاها نحوه لتهرب من هذا المأزق
المحرج
لها.
أحمد
بإهتمام:
-أتناولتِ
إفطاركِ، أيًا يكن ستتناولينه مرة أخرى برفقتي.
للمرة
الأولى شعرت بالحرج من أحمد، فقالت بخجل كأنها محض موظفة مستجدة في هذه الشركة
حقًا:
-لا،لا،
أشكرك.
قهقه
أحمد من خجلها، ثم جذبها من يدها إلى غرفته وهو يشير لموظف الاستقبال قائلًا:
-إفطار
فاخر لشخصين.
أومأ
الموظف برأسه وهم لتنفيذ الأمر، في حين جلست ماريا على المقعد المقابل لمكتب أحمد،
تتأمل قسماته
الفاخرة؛
فللوهلة الأولى ظنته قطعة من ثمرة الجنة، فالتماثيل البرونزية رسمت ملامحه،
والمقاعد الوثيرة كانت
كالعروش،
بالإضافة إلى جدار الغرفة الأيمن الذي لم يكن سوى حوض أسماك عملاق بحجم الجدار به
مختلف
الاأنواع من الأسماك النادرة....
جلس
أحمد على مقعده قائلًا:
-المكان
مبهرج أكثر من اللازم أعلم؛ لكن هنا تُبرم الصفقات وتأتي الوفود، يجب أن يروا عينة
صغيرة من
ثمرة
الجنة في هذا المكان.
هزت
ماريا رأسها متفهمة دون أن تنبس ببنت شفة، محرجة للغاية، تشعر أنها ضئيلة للغاية
في هذا المكان،
وربما
اليأس إجتاحها بعض الشيء...
سألها
أحمد:
-أخبريني
يا عزيزتي، أهناك ما تحتاجينه؟
ثم
التفت إلى ملابسها الرسمية مردفًا:
-تبدين
فاتنة للغاية، لقد نضجتِ حقًا يا ماريا، والدك كان ليكون فخورًا بكِ.
ذكره
لوالدها شجعها قليلًا لتتمتم:
-أريد
أن أسلك درب والدي.
قرّب
أحمد أذنه منها قائلًا:
-العمر
قاسي يا بنِتي، لم تعد أذني كما كانت، فلتزيدي من درجة صوتك.
تنحنحت
ماريا، ثم قالت:
-أريد
أن أسلك درب والدي.
قطب
حاجبا أحمد في دهشة، ثم قال:
-لكنه
درب وعر يا ماريا لا تحتاجين الخوض به؛ فوالدك كان مهووسًا محب للمخاطر، بعض
أفعاله كانت
تجعلنا
نفغر أفواهنا دهشة وإستنكارًا....
ثم
أشار بيده مضيفًا:
-رغم
أن ما فعله كان عظيمًا، لكن أرى أن تحذي حذو جدكِ.
بدا
على ماريا بعض الضيق من طريقة حديث أحمد عن والدها، فسارع الأخير متسائلًا:
-أهناك
ما أغضبك فيما قلت يا صغيرتي؟
ماريا
بشيء من الحدة:
-لقد
أخبرتني من قبل أنه أعز رفاقك، لماذا تتحدث عنه بهذه الطريقة كأنه ارتكب جُرمًا؟
بدا
الجد على وجه أحمد وهو يقول بحزم:
-بل
كان أعز شخص إلى قلبي، لا أبي لا أمي بل هو، هو من قطعت معه الشوارع والزقاق طولًا
وعرضًا،
كان
القائد وحامل الضياء لي دائمًا، ولأنه شقيق روحي تقبلته بعيوبه ولم أخبره عن
أخطائه، ولن أكرر هذا
الذنب
الشنيع معكِ.
لم
يتحدث أحمد بهذا الحزم من قبل مع ماريا، فامتقع وجهها وانكمشت في مقعدها، فانتبه
أحمد أنه قسا
بعض
الشيء على هذه الهرة الرقيقة، فاسترخى في مقعده وتنهد بعمق ليستعيد هدوءه، وقد حسم
أمره أن هذه
الفتاة
اللينة لن تكون أبدًا كوالدها أو جدها، بل هي شيء آخر يجب أن يتشكل ببطء.
استعاد
هدوئه ووده في الحديث معها وهو يقول:
-حينما
بلغ جدكِ الأربعين من عمره اتضح له أن القتال والتوسع على حساب الآخرين ليس
المنهاج الصحيح
الذي
يجب أن يسلكه، فبنا قوة غاشمة تتخلخل في شتى بقاع العالم دون أن يستخدمها، بل كان
التلويح بها
كافيًا،
لكن والدكِ هو من أجبره على استخدامها أكثر من مرة.
ثم
نهض عن مقعده ودار حول مكتبه الفسيح ليصل إليها وهو يضيف بأعين حالمة:
-فلتكوني
إمبراطور الأعمال آدم، فثمرة الجنة تحتاج إلى آدم دائمًا.
حائرة
تائهة، هكذا صارت ماريا، تدور عينها في مكتب أحمد بتشتت، فلطالما كان والدها هو
المثل
الأعلى
الذي تتحرى دربه، لكن الآن بعثر أحمد جل أفكارها مرة أخرى...
لم
يتركها أحمد في حيرتها كثيرًا، بل بادر بقوله:
-أيًا
كان من ستتبعين دربه فالتعلم هو الجيش الذي ستخوضين به المعارك، عليكِ أن تتعلمي
كيف تخترقين
العقول
وتديرين طاولة الحوار، حينما تتحدثين ينبغي أن لا يرَ أحد شخص آخر غيرك.
أومأت
ماريا برأسها موافقة، ثم قالت مؤكدة:
-هذا
ما جئت لأجله.
تبسم
أحمد لاتفاقهما على شيء أخيرًا، ثم عاد إلى مكتبه وجذب أحد أدراجه ليحصل منهما على
دفتر
ملاحظات
وقلم، ثم مدهما لها قائلًا:
-غدًا
سنتعمق بأفريقيا، أريدكِ أن تدوني كل ما يحدث هناك، العروض التي سنقدمها والردود
التي سنتلقاها،
كيف
سأتحدث، متى سأبتسم ومتى سأتجهم، متى سأمرح ومتى سأشتد بحديثي، ثم عليكِ بملاحظة
ردود
أفعال
من أُبرم معهم الصفقات.
بحماس
هزت ماريا رأسها موافقة، قبل أن يضيق حاجباها وهي تتساءل:
-لماذا
أفريقيا؟
تبسم
أحمد مجيبًا:
-الذهب
يا صغيرتي، الذهب الذي نحتاج أن نُرمم به ثمرة الجنة، فنحن لا نستخدم الحجارة.
***
استطال
القمر على البحر المتوسط في هذه الليلة بمنتصف الشهر، ليعلو المد ويبلغ ذروته، صاحبًا
معه عدد
من
القوارب الخشبية صغيرة الحجم التي لا تكفي لنقل أكثر من شخصٍ واحد.
لكنها
لم تكن تحمل أحدًا؛ فقط مجرد قوارب مبهمة جوفاء، تسبح على مقربة من الشاطئ كأن
الأشباح
تقودها.
بينما
على مقربة من الحواجز الحديدية المدببة التي تفصل بين شاطئ البحر ومجرى سفن النقل
العملاقة، علقت القوارب في ثنايا البروز الحديدية.
إلا
أنها لم تمكث في وحدتها كثيرًا، بل قفز بعض الغواصون من يختٍ على مقربة من الحواجز،
ليسلكوا
طريقهم
في المياه أسفل الأمواج ليصلوا إلى هذه القوارب.
بينما
اتكأ هذا الشاب ذو الجسد النحيف والقامة القصيرة على مقعدة الممتد.
يداعب
نسيم البحر ما انفلت من خصلات شعره السوداء المجدولة، بينما يتأمل القمر المستدير
في كامل
طلته
وهو يقول:
-قمر
فاتن جميل، يخفي خلفه صرخات الضوء الممتدة من الجحيم المستعر المسمى بالشمس، كأنه
حارس
يقف
بدرعه في الليل ليغدق بالسلام علينا جميعًا.
ثم
التفت مبتسمًا إلى الفتاة الشقراء مفتولة العضلات بجانبه كأنها رجل ضليع في رياضة
حمل الأثقال؛
ترتدي
الضيق من الملابس لتبدو عضلات فخذيها وكتفيها أكثر بروزًا، لكن وجهها كان جميلًا
خلابًا لهذا
الشاب
النحيف وهو يردف:
-يذكرني
بكِ عزيزتي كاترين.
تبسمت
كاترين لتتسع شفاها الرفيعة كاشفة عن قاطعتين بارزتين كقاطعات القوارض، وهي تقول:
-غزلك
يخجلني دون سبالتي.
تبسم
سبالتي بسماجة وهو يهز رأسه قائلًا:
-حتى
إن كنتُ أمتطيكِ بالفراش عزيزتي كاترين، فلا تناديني سوى بأمير الكريستال.
ثم
رشف من كأس خمره، ولمعت عيناه البنيتين بوميض الذكريات وهو يضيف:
-لقد
كان جدي دون بيترو؛ زعيم الكامورا ثان أقوى عائلات المافيا الايطالية، لكنه لم يكن
سوى مجرد دون
بيترو،
لهذا سحقه الوريث الهجين كأنه علكة بين أسنانه ثم بصقه إلى الهاوية، فلم يكن إلا
دون ولم يصل
ليكون
أمير قط.
أومأت
كاترين برأسها له، وقد داعبت الرياح القلادة المتدلية حول رقبتها، تحمل أرقامًا
ورموزًا تشير إلى كونها
أحد
المرتزقة.
ثم
قالت بصوتها الأنثوي الذي لا يتناسب مع جسدها عريض المنكبين:
-بالطبع
دون سباليتي أنت أمير الكريستال وحاكم نابولي الآن، لكن بعض الرجال أخبروني أنهم استمعوا
إلى
ضجيج
قادم من المعسكر المنعزل منذ عدة أيام.
عقد
سباليتي حاجبيه متسائلًا:
-المعسكر
المنعزل حيث رجال الوريث الهجين؟
أومأت
كاترين برأسها وهي لا تزال محتفظة بابتسامتها المنحوتة على وجهها لدرجة تجعل
القاسي والداني
يُدركان
كم هي إبتسامة مصطنعة، ثم أجابت:
-أجل،
بعد الإشاعات تقول أن الوريث الهجين قد عاد.
اعتدل
سباليتي في جلسته وقد استرعى حديثها انتباهه، وهو يسأل بحماس:
-ألم
يُصدق أي نبأ يقين هذه الإشاعات أو ينفيها؟
في
هذه اللحظة وصل إلى مسامع سباليتي صوت أحد رجاله القلق وهو يهتف:
-القوارب
فارغة.
مطت
كاترين حاجبيها متبسمة وهي تقول:
-ها
هو النبأ اليقين.
في
حين نهض سباليتي عن مقعده في شرود، واتجه إلى سياج اليخت يراقب سراب غواصيه وهم
يعودون
أدراجهم
خاليّ الوفاض.
لم
ينطق بكلمة، بل مد يده ليعين رجاله على الصعود إلى متن اليخت، ثم سألهم بهدوء:
-ماذا
وجدتم؟
التقط
الرجل أنفاسه، ثم مد له يده بزجاجة مغلفة بعناية تُشبه رسائل الاستغاثة قديمة
الأزل.
اتسعت
عينا سباليتي وهو يتفحص الزجاجة بعناية، ثم مزق الغلاف عنها ونزع الغطاء ليحصل على
هذه
الرسالة
الورقية المكتوبة بخطٍ منمق.
رسمة
لبطاقة الجوكر في لعبة الأوراق، وكلمات بحبرٍ أحمر تحمل اسم (الوريث الهجين).
تحسست
كاترين سلاحها بغريزية كأنها ارتأت خطرًا من مجرد ذكر الاسم، في حين برقت عينا
سباليتي
بشرود
لعدة ثوان، ثم تبسم وقد لانت ملامحه كأنه تلقى برقية من صديقٍ حميم وهو يقول:
-لقد
فهم لُعبة المد والجزر.
في
حين هتفت كاترين باستنكار:
-لقد
سرق بضائعنا!!
طوي
سباليتي الورقة بعناية شديدة تدل على مقدار تقديره لها، ثم وضعها بجيب سترته
القريب إلى قلبه،
وانتصب
في وقفته قائلًا:
-لن
يكون نومي رفقة جسدكِ اللامع الليلة عزيزتي كاترين، بل سأظل يقظًا إلى لقاء الغد
مع الوريث الهجين.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة