(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
(مكانٌ حالمٌ)
في وقت متأخر من الصباح، كانت يمنى في طريقها إلى الجامعة حيث قابلت شهد على سلم البناية،
فابتسمت لها قائلة:
-شهد....كيف حالك؟ لم أراكِ منذ فترة؟
أشرق وجه شهد حينما رأت يمنى، كانت تربطها بها علاقة قوية، كثيرًا ما كانت تشاركها أسرارها وتطلب منها ألا تُخبر مريم بها، وكانت يمنى تحافظ على وعدها بذلك.
-يمنى...أين أنتِ.....ماذا فعلتْ بكم السنة النهائية لم أعد أراكم أنتِ وعمرو؟
شعرت يمنى بأنها بالفعل لم تطلب رؤيتها منذ فترة، فتذكرت أحداث حياتها السابقة وهروبها من مريم نفسها، لكنها ابتسمت لشهد وقالت:
-لكِ كل الحق في عتابي.
نظرت في عيناها وقالت بصدق:
-أعدك، سأجد الوقت وأمر بكِ أنتِ بشكل خاص، بعيدًا عن مريم.
نظرت إليها واستخدمت أيديها، مرددة كلمتها:
-أعدك
نظرت لها شهد في شك وضيقت عيناها:
-أشك في ذلك.
عقدت يمنى ذراعيها حول صدرها وقالت في تحدِ:
-لقد وعدتك، والأيامُ بيننا.
قالت شهد في تهكم:
-أياااااام!!!!!
ضحكت يمنى لتهكمها عليها، ثم نظرت لها في خبث:
-أشعر بأنك تُخفي الكثير.
ابتسمت شهد ابتسامة ماكرة، فنظرت يمنى في ساعتها:
-حسنًا، لنا لقاء.....سأذهب الآن يا صغيرتي.
احتضنتها، فبادلتها شهد الحضن بحنان تفتقده هي ذاتها، ثم افترقا.
****************************************
بداخل أسوار الجامعة التقت مريم بعمرو، يجوبان أرجاءها سويًا دون هدف محدد، غابت الشمس في ذلك اليوم لتَلقي بظلٍ أعطى للجو غيمة محببة ناسبت أجواء الجو الشتوي اللطيف، ألقت مريم سؤالها قاصدة فتح الموضوع بطريق غير مباشر:
-حقًا تبدو لي مختلفًا، أفتقد بكْ شيء ما؟ لا أعلم ماهيته.
نظر لها بدهشة ثم تساءل في استنكار:
-لا أعلم عن ماذا تتحدثين؟
ابتسمت في محاولة منها لاستدراجه:
-لا أعلم دعني أفكر قليلًا....
تابعت سيرها ثم توقفت فجأة ونظرت إليه، ثم رفعت إحدى حاجبيها قائلة:
-نورة...
تلفّت حوله في رعب، فضحكت هي من رد فعله، نظر لها في غيظ:
-بالله عليكِ، أرعبتني.
أنهت ضحكتها ثم صاحت في مرح:
-ماذا بكَ، هل تفتقدها لهذه الدرجة؟
نظر لها باستنكار حقيقي قائلًا في سخرية:
-أفتقد من؟! أنا أحارب لكي ابتعد عنها.
استعاد وجهها ملامح الجدية مرة أخرى، فعادت لتسأل:
-كفى مزاحًا، فأنا أسألك بجدية، أين نورة... أفتقد رواياتك ومواقفك معها.
قطبت جبينها ثم استطردت في اهتمام:
-هل انفصلتم بالفعل؟
رد في سرعة وحزم:
-لم نكن أحباء لننفصل.
تنهدت هي وقد تذكرت ملامحها، ثم سألته في حيرة:
-لماذا؟ هل استغنيت عنها؟
صمت هنا قليلًا، توقف عن السير، فنظر لها واضعًا يده في جيب الجاكيت البني الجلد الذي يرتديه، ثم قال في تأثر:
-أنا ابتعدت عنها من أجلها.
انتبهت لحديثه، تبينت جانب من شخصيته لم يظهر لها من قبل، عندما استطرد في حزن:
-نورة تعلقت بي، كثيرًا.
نظرت له باستنكار فابتسم تلقائيًا:
-لا أقصد بذلك التكبر، فتلك المشاعر مسؤولية لم أعد قادرًا على تحملها بعد الآن.
تأثرت هي بنبرة الحنية التي باتت واضحة في حديثه، فابتسمت فنظر لها متسائلًا، قالت في بساطة:
-أنها أول مرة أسمعك تتحدث عنها، وكأنها غالية عندك.
أجاب بسرعة:
-بالفعل هي غالية، لكنها صديقة ليس أكثر.
تردد قليلًا ثم قال في قلق:
-هل تعلمين أنها ترفض كل عريس يتقدم لها مؤخرًا.
اندهشت مريم صائحة باستغراب:
-الفتاة مغرمة، لكن
صمتت قليلًا، ثم قالت وقد تذكرت أمرًا مشابهًا:
-قد لا يكون ذلك بسببك فقط.
نظر لها باهتمام فتابعت:
-أقصد ربما تشعر بالحيرة والخوف من التقرب لشخص مجهول.
لانت ملامحه عندما أدرك مقصدها، فمال على أذنها صائحًا:
-هل تعتقدين أن كل البنات مثلك؟
هز رأسه وتابع حديثه:
-البنات تتشوق لمقابلة العرسان ورفض هذا والمماطلة مع ذاك.
ابتسم وغمز له بعينه، مستطردًا:
أنتِ فقط من ستبورين، من كثر رفضك للعرسان المتقدمين لكِ قبل حتى إن تريهم.
نظرت له في غيظ، وضيقت عيناها في غضب، فتابع هو في إصرار:
-من يعلم؟ من الممكن أن يأتي المجهول بكل خير.
شعرت بالحرج واحمر وجهها، فحاولت تغير دفة الحديث:
-أين هيثم؟ لم أراه اليوم.
اقترب منها عمرو ولم يجب ، بل صاح في خفوت:
-أنا لا أمزح، والدتك لن تصبر عليكِ كثيرًا.
غيّر لهجته، ليُكسبها بعض المزاح، مستطردًا:
-غدًا سيمر العمر، ولن نجد لكِ رفيق، لن يبقوا حولك فاحذري.
حاول تقليد والدتها وهو ينطق بآخر جملة، فضحكت هي مرة أخرى، ثم قالت في إصرار مازحة:
-لن تنالوا راحة البال، وسأستمر في إقصائهم من حولي.
ضحك معها، لكنها تذكرت إلحاح والدتها عليها لإقناعها بمقابلة العرسان، رغم اقتناع والدها أنها مازالت صغيرة، طالما لم تستكمل دراستها بعد.
رغم مزاحه معها إلا أن معه الحق، فهي شارفت على إنهاء عامها الرابع والأخير في الجامعة، فلن تستمر في حجتها بعد ذلك، حتى تدخل والدها لن يُجدي معها في شيء.
حاولت تغيير الموضوع مرة أخرى:
أنا أيضًا لا أمزح، بل أتحدث في موضوع جدي.
نظر لها متسائلًا، فرددت في حيرة:
-لماذا لا تفكر في نورة، أو فقط تعطيها فرصة أخيرة.
عقد ذراعيه ناظرًا إليها، ثم قال في حزم:
-أوافق أن أعطيها فرصة.
أشرق وجهها ولانت ملامحها بأمارات الراحة، لكنه استطرد:
-بشرطٍ واحد.....هل توافقين على إعطاء العريس القادم فرصة.
نظرت له باستنكار، فاستكمل في منطقية:
-على الأقل، العريس المجهول لديه فرصة في النيل من إعجابك.
نظر لها وقال في جدية:
أما نورة، فقد نفذت كل فرصها معي، كل الاتجاهات تؤدي إلى طريق مسدود.
نظرت له في خيبة أمل، كان لديها رغبة بداخلها في مساعدة الفتاة المسكينة بأي شكل، لكنها حاولت وقد نجح في إقناعها بوجه نظره مستخدمًا مثلْ لم يخطر على بالها، وكانت له حجة قوية في إقناعها بحق.
***********************************
داخل مدرج المحاضرات، دخل هيثم قبل موعد المحاضرة، ألقى بنظرة على أرجاء المدرج في كل ناحية، حتى وجد وجه مألوف، فابتسم وتوجه إليه فورًا.
انتبهت يمنى إلى أخر صوت تمنت أن تسمعه، فخفق قلبها في توتر، وألقت نظرة على هيثم الذي تساءل:
-أنتِ هنا؟ حسبتك لم تأتي اليوم أيضًا.
نظرت له يمنى وتدرج وجهها من الحرج، فخرج صوتها خافتًا مضطربًا:
-أهلا هيثم، كيف حالك؟
استأذن هيثم من صديقتها التي كانت بجوارها، فأزاحت له الطريق، ليستقر بجوارها مستكملًا حديثه:
-بخير، أردت الاطمئنان عليكِ منذ غادرتِ آخر مرة دون سبب.
رطبت شفتيها قبل أن تجيب في بساطة:
-لقد أخبرتك قبل أن أغادر.
نظر لها وابتسم:
-لم نستكمل حديثنا يومها، ولم تنهي مشروبك أيضًا.
همت بالرد لكنها لم تجد أي مبرر، فقالت في أسف:
-أعتذر، كانت قلة ذوق مني بالفعل، معك حق.
رفع إحدى حاجبيه وقال متظاهرًا بالغضب:
-لن أقبل اعتذارك.
نظرت له باستنكار، فاستطرد في سرعة:
-أرغب في التعويض.
أطالت النظر إليه، فهز كتفه قائلًا:
-هذا من أبسط حقوقي، لقد اعترفتِ، لم أعهدك قليلة الذوق.
ابتسمت صامتة.
في تلك اللحظة دخل الدكتور، فسكت الجميع، تظاهر هو بالانتباه، فنظر أمامه وشردت هي في ملامحه، لكنه فاجأها بالنظر إليها مرة أخرى، قائلًا ليجيب هو نيابة عنها:
-في السكوت كل الرضا.
خفق قلبها للمرة الثانية أو الثالثة، وتساءلت.
كيف استطاع فرض نفسه مرة أخرى في حياتها بهذا الشكل؟
لقد تحججت لمريم بأنها ستذهب متأخرًا، بالفعل لم تخرج من بيتها إلا قبل موعد المحاضرة بقليل، حتى لا تضطر لمقابلة أحد، دخلت متخفية كأنها تسرق.
لم تتوقع أن يدخل هو أو يهتم بالحضور، الآن وقد تورطت في موعد آخر معه، ولم تستطع التملص منه أبدًا، نظرت له نظرة جانبية حاولت فيها اكتشاف هل هو مهتم فعلًا بالمحاضرة أم أنه
يحضر لسبب آخر.
نزعت أفكارها الشاردة بعيدًا، فتحت دفتر المحاضرات وحاولت أن تنتبه لحديث الدكتور وتدوين ما يقوله، حاولت أكثر من مرة لكنها لم تفلح فألقت بالقلم واستسلمت لتركيزها المشوش مع الدكتور.
*********************************
في نفس الجو المُلبد بالغيوم. توارت فيه الشمس خلف السُحب.
في بقعة قريبة بداخل الجامعة، فوق سطوح إحدى المباني الهامة التي لا يدخلها باستمرار إلا الدكاترة، قليلًا ما يظهر بها طالب أو اثنين، وقفت يمنى على ارتفاع المبنى مقتربة من السور تتأمل الجامعة من علو.
نظرت أمامها على استحياء، ثم قالت:
-في بداية هذه السنة اكتشفت هذا المكان، شُيد هذا المبنى العام الماضي فقط.
هنا أستطيع أن أرى كل مكان داخل الجامعة رؤية شاملة.
اقترب هيثم من السور وابتسم ابتسامته الجذابة الساحرة.
أكثر ما يجذبها في شكله هو ابتسامته، تنجح دومًا في تغيير كل ملامح وجهه، كأنه يكتسب جمالاً زائدًا بمجرد أن يبتسم.
ارتشف رشفة من كوب الشاي البلاستيكي، ثم قال لها في حيرة:
-أشعر أن هذا المكان لا يُناسبك؟
كان اقتراح يمنى بأن يختارا مشروبهم المفضل، ليحتسوه في مكانٍ مختلف من اختيارها.
نظرت له بتساؤل حائر، فاستطرد موضحًا:
-وجودك هنا يحمل جانب من الخطر، أستطيع أن أجزم أن شخصيتك لا تتسم بالتحدي.
ابتسمت لفهمه الغريب لشخصها رغم عدم التقاءهم من قبل كثيرًا.
فكرت لحظات قبل أن تقول:
-ولماذا لا تقول إنني آتي هنا عندما أرغب في مواجهة خوفي.
نظرت له نظرة ثاقبة في عينيه واستطردت:
-لأتحدى كل الخوف بداخلي.
نظر لها باستغراب، سرعان ما تحول لتساؤل:
-يمنى... لمَ يتملكك الخوف وأنتِ معي؟
شعرت بالمفاجأة لكشفه خبايا مشاعر حاولت أن تخفيها حتى عن نفسها.
تفاجأت لجراءته في مواجهتها بما توصل إليه من مراقبة أفعالها.
فابتلعت ريقها متذكرة مريم ثم قالت:
-أخاف من كل جديد في حياتي.
صمتت قليلًا تتبين ملامحه، ثم استطردت بلهجة قصدت أن تكون لائمة:
-لسنا جميعًا مثلك، نعيش اللحظة كما هي.
كادت أن تجزم أن ملامحه تجمدت للحظة وبان عليه التأثر، لكن سرعان ما كذّبت نفسها حينما لانت ملامحه في اللحظة التي تليها.
نظر أمامه إلى الجامعة منشغلًا بمتابعة حركة الطلاب، محاولًا تغيير الموضوع:
-هل كانت هذه الجامعة رغبتك الأولى؟
فاجأها السؤال مرة أخرى فحاولت أن تتعايش مع تقلب المواضيع معه:
-لا أدري....نعم كنت أريد أن أدخلها، لكن
صمتت لحظات ثم استطردت:
-بعد إنهاء سنتي الدراسية الأولى تراءى لي ميول أخرى بداخلي كنت أجهلها من قبل.
نظر لها في اهتمام ثم تساءل:
-إذن ماذا فعلتِ بعد هذا الاكتشاف؟
هزت كتفها، وقالت في بساطة:
-فكرت أن أنقل إلى جامعة أخرى، لكن.
صمتت قليلًا ثم قالت في حزن:
-والدي لم يشجع الفكرة.
فكر قليلًا ثم ألقى سؤاله:
-ولماذا لم تتمسكِ بقرارك أو تدافعّي عنه؟
نظرت إلى السماء الواسعة ولم تجب، فاستطرد:
-في اعتقادي أنتِ شخص متحكم بحياته إلى حد ما.
نظرت له بتركيز وقالت بعصبية مرددة كلماته:
-في اعتقادك....تُجزم.....ما هذه الثقة التي تتحدث بها عني، وما سببها؟
اقتربت منه خطوة، وعقدت ذراعيها حول صدرها، مستكملة الحديث:
-من أنت لتكشف ما بداخلي بهذه البساطة.
تراجع خطوة إلى الخلف مدافعًا عن نفسه:
-أعتذر إذا كنت تخطيت حدودي، فأنتِ شخص واضح بالنسبة لي ولا تسأليني عن السبب.
تراجعت وزفرت في اضطراب، ثم قالت بسرعة:
-هيا بنا، فلنبحث عن مريم وعمرو.....
بداخلها شعرت أنها لا تريد أن تنفرد به، لم تستطع مواجهته وهو يحاول في كل لحظة الاقتراب منها أكثر وأكثر دون حذر أو تروي، لم تستطع منع مشاعرها عنه لكن عقلها سبقها بأخذ قرار هام، لا يجب أن تراه مرة أخرى أو تتركه يواصل اقترابه منها بعد الآن.
***************************************
في منزل تهاني الذي قلما يكون مكان تجمعهم، جلست عائشة تتأمل جارتها في قلق.
كانت زيارتها المنفردة هذه محاولة منها لإعطائها الفرصة كي تبوح بما تكنه في صدرها.
أمومتهم للبنات زادت علاقتهم قربًا أكثر من علاقتهم بصافي والدة عمرو، كما ساعدهم على ذلك علاقة يمنى ومريم الوطيدة واشتراكهم في طريقة تفكير واحدة، بالإضافة لتشابه مشاكلهم التي يواجهونها مع بناتهن من بعضها.
كانت عائشة هي العقل المدبر دومًا للعلاقة، كثيرًا ما لجأت إليها تهاني لحل مشاكلها مع ابنتها، كانت اقتراحاتها تبوء بالنجاح وحل المعضلات التي لم تكن قليلة أبدًا.
نظرت عائشة إلى تهاني وكررت سؤالها في حنان:
-أخبريني، ماذا بكِ؟ هل يوجد في حياتك صديقة أخرى لتحكي لها سواي؟
صمتت تهاني هذه المرة وقت أقصر، ثم قالت بعد تفكير:
-لقد سئمت من تدخله وصرامته، يتحكم في كل شيء بشكل غير مقبول.
نظرت أمامها ودمعت عيناها، ثم استطردت في خفوت:
-لم أعد أشعر بوجودي، لولا ذهابي إلى العمل كل يوم. أعتقد أعتقد
سقطت دمعة حارة من عيناها ثم قالت في حزن باكي:
-لما كنت شعرت بحياتي، أو بمعنى وجودي.
ربتت عائشة على ركبتيها، أرادت أن تواسيها لكنها أبت أن تقاطعها، شاعرة أن بداخلها الكثير.
قالت تهاني كأنها تذكرت فجأة:
-حتى بناته، أكاد أن أشعر أني بدأت أتركهم يفعلوا ما يحلو لهم، لمجرد تحريرهم من إحساس القهر الذي أشعر به.
قالت عائشة في استنكار:
-على الرغم من ذلك، إلا أن بناتك يعشقون والدهم....كما يمثل لهم الصديق.
هزت رأسها لتُجيب في هدوء:
-تلك هي المشكلة، تحكمه فيهن يأتي من بعيد، دون أن يظهر في الصورة.
أشارت بيدها وهي تستكمل حديثها:
-والنتيجة، أنهم يكرهونني أنا ويتعلقون به، يحبونه أضعاف ما يحبوني.
دائمًا ما أبدو أنا في دور الشخص البشع الشرير.
نظرت لها عائشة في جدية:
-أنا أعلم مدى صرامته وتحكمه فيكن، لكن....
ترددت قبل أن تقول في بطء:
-البنات يحتجن الصرامة في هذا السن، فنحن في زمن صعب.
تجهم وجه تهاني وهي تنظر لصديقتها، فاستطردت:
-لكنهم أيضًا في احتياج إلى الصديق....وهنا يأتي دورنا.
نظرت لها تهاني وقالت بعد تفكير:
-ما المطلوب مني، فأنا أحاول دائمًا الاقتراب منهم، لكنهم لا يسمحون لي.
شردت بعيدًا قائلة:
-فشهد تقضي يومها بداخل غرفتها، إذا لم يكن لديها دروس.
أما مريم....فمزاجها يتبدل في اليوم عشرين مرة، دون سبب واضح، وجودهم مثل عدمه.
لا يساعدون في شيء
أحيانًا أتساءل لو كانوا أولادًا هل كان سيفرق في الأمر شيء؟
نظرت لها عائشة نظرة لوم وهزت رأسها متسائلة:
-هل تقولين لهم هذا الكلام؟
فكرت قليلًا ثم أجابت:
-أحيانًا.
أخذت عائشة نفس عميق، قبل أن تتحدث وقد ترددت في مصارحة تهاني بتلك الحقائق من قبل، لكنها في هذه اللحظة شعرت أنه حتى إذا تطلب الأمر بعض المخاطرة لتلفت نظر جارتها إلى حقيقة الأمر فهي ستتحمل نتيجة ما ستقوله فقط ليرتاح ضميرها:
-تهاني....بناتك في حاجة إلى صديق داعم، لا ينقصهن واعظ ولا ناقد في هذه السن الحرجة، هن يقتربن من والدهن لأنه يسمح لهم بمساحة في الحوار.
يستمع إليهم فيتجادلان معه، هو يعلم جيدًا بحكم عمله "معلم" كيفية التحدث معهن بطريقتهن.
كل سن بما يناسبه.
صمتت قليلًا قبل أن تستطرد لتعطي لها فرصة التأمل في كلماتها ببطء:
-بالنسبة للأعمال المنزلية، بناتك لم يعتادوا على فعل أمورهن بأنفسهن، لأنك منذ طفولتهن تفعلين لهن كل شيء، وبعد بلوغهن هذه السن تطلبين منهن أن يتغيرا ليساعدوكِ فجأة.....كان يجب أن يعتادوا على الأمر منذ صغرهم....هذا خطأك من البداية.
كان حديثها لاذعا لائما كما تخيلت بالضبط، لم تستطع لجم مشاعرها اللائمة التي خرجت دون هوادة.
حاولت بعد أن أنهت حديثها أن تنهيه ببعض اللين والحنان، فقالت:
تهاني يا حبيبتي، حديثِ معكِ الآن، لمجرد تذكيرك ببعض الحقائق التي قد تغفلين عنها في إطار خوفك وحرصك الزائد عليهن.....فكري في كلماتي جيدًا وبشكل مختلف هذه المرة.
*****************************
بحثت يمني عن مريم وعمرو، حتي وجدتهم في بقعة قريبة من مبني المحاضرات، فصاحت في لهفة:
-، بحثنا عنكم كثيرا، أين كنتم؟
التفتت مريم لتلمح يمنى، ووقعت عيناها على هيثم فاندهشت، وعاودت النظر إلى صديقتها في عتاب، قائلة:
-لم تخبريني أنك قادمة.
انتبهت يمنى إلى حقيقة أنها جاءت متخفية، لم تحسب حساب أن تكشفها مريم لكنها نظرت لها وهزت رأسها في بساطة محاولة التبرير:
-تذكرت محاضرة هامة، فجئت لأحضرها .... وقابلت هيثم في المدرج مُصادفة.
نظرت لها في شك، في حين تدخل عمرو:
-محاضرة!
نظر لهيثم باستنكار:
-منذ متى وأنت تلتزم بالحضور.
توجهت الأنظار كلها إلى هيثم فصاح مبررًا:
-منذ طردي....
في محاولة مني للبقاء في هذه الجامعة، فلتساعدوني بالتشجيع.
صاحت مريم ويمنى بعبارات تشجيع متهكمة، فنظر لهن عمرو وابتسم، بينما قال هيثم:
-ما هذا؟......هل يهيأ لي أم إنكم تتنمرون عليّ؟
قال عمرو وهو يومئ برأسه:
-لا تأكد....يتنمرون عليك.
ضحكتا الفتاتان وهن يتبادلن النظرات الساخرة، فقال عمرو مشيرًا إليهن:
-اهدؤوا....
ثم نظر لهيثم مستطردًا:
-سأمنعهن من المزاح معك،
إذا أخبرتني بمعلومة خرجت بها من المحاضرة.
صمت الجميع وتوجهت أنظارهم إلى هيثم ثانية، لكنه لم يشعر بالحرج، بل قال على الفور:
-موافق، لكن أخبريني.
نظر إلي يمنى متسائلًا:
-ما هو اسم المادة التي شرحها هذا الدكتور؟
ضحك الجميع أولًا ثم أجابت يمنى بثقة:
-محاسبة مراجعة.
شرد قليلًا ثم عاد ليسألها:
-وما كان عنوان الدرس.
شرعت في الإجابة، لكنها توقفت عندما وجدت ذاكرتها قد محت، لم تجد أي ذكرى متواجدة بداخلها عن ما قيل في المحاضرة، كانت فقط تتذكر لحظات تأملها وتساؤلاتها التي دارت بعقلها عن هيثم الجالس إلى جوارها آنذاك.
شد انتباه مريم صمت صديقتها فزوت ما بين عيناها في دهشة، فشعرت يمنى بالحرج، قال عمرو بنفس لهجة التهكم الخاصة بهم :
-حتى أنتِ يا يمنى، لم أعهدك شاردة من قبل بداخل المحاضرة.
نظرت له يمنى وقالت مبررة:
-ليس صحيحًا لم أكن شاردة ولكن فقط لا أتذكر عنوان الدرس.
قال هيثم بسرعة مستغلًا للموقف:
-إذن عن ماذا تحدث الدكتور بشكل عام؟
ردت بسرعة محاولة إبعاد أنظارهم عنها:
-هذا أيضًا لم يكن سؤال موجه إليّ.
هنا تدخلت مريم قائلة بلهجة تبعد عن المزاح كثيرًا:
-من الغريب أن تخرجي من بيتك خاصة لحضور تلك المحاضرة الهامة.
قالت الكلمة الأخيرة مرددة كلمة يمنى بنبرة متهكمة، ثم استطردت:
-وأنتِ لا تتذكري عنها كلمة.
قالتها مريم واقتربت من صديقتها فنظرت إليها بحزم، نظرة أخافت يمنى وأشعرتها أنها وللمرة الثانية تكشف إحساسها دون الحاجة لحضور الموقف.
*************************
***
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة