(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
(عودة
فرناس)
كانت مغمى عليها على أرض
الغرفة، اقترب منها وهو يصرخ:
_كوهندار
حبيبتي، كوهندار أنا هنا، افتحي عينيك.
هزها بقوة، أخذ يضرب على
وجنتيها ضربات خفيفة.
أحضر القليل من الماء،
مسحها على وجهها برفق، فتحت عينيها بوهن، وجدت نفسها في أحضان الأمير، تبسم لها
بحب:
_هل
أنت بخير؟! أخفتني عليك.
أرادت أن ترفع رأسها
لكنها لم تتمكن، تكلمت بصوتها المبحوح من الصراخ والبكاء:
_أصبحت
بخير عندما رأيت وجهك الذي يشبه القمر ليلة التمام، أرجوك سامحني!
ضمها بقوة، حملها بين
يديه وأجلسها على الكرسي بجانبه، ينظر إليها بخوف وحب معًا:
_أنت
قلبي ودقاته تغعلين ما تشائين، لماذا تطلبين أن أسامحك؟!
أردف قائلًا بلهفة:
_هل
أستدعي الطبيبة؟!
_لا حاجة لذلك، فأنا بخير
الآن.
هدأت من روعها، انتظمت
ضربات قلبها، وضعت يديها على وجهها؛ لتمسحه من بقايا المياه، تحسست الدماء التي
جفت على أصابعها لكثرة ضرباتها على الباب.
رق قلب الزبير لحالها:
_لن
يستطع أحد أن يلحق بك الأذى بعد الآن، سنعود اليوم لا تقلقي، كوني جاهزة، لن أتركك
هنا دقيقة إضافية.
وقف وأراد الخروج:
_لدي
حساب يجب ان أصفيه مع أحدهم، سأعود سريعًا.
نادى أسيل:
_ابقي
مع الأميرة، لا تتركيها لحظة واحدة، غيري ملابسها واهتمي بها ريثما أعود.
خرج لفناء القصر، نادى
الجميع؛ ليروا عقاب نادر:
_احفروا
لي حفرة في الأرض، رتبوها فضيفنا عزيز! أريدها ضيقة بالكاد تسع الشخص الواحد.
بدأ الجنود بالحفر أمام
أنظار الجميع التي تقطر رعبًا، كانت الحفرة جاهزة في غضون ساعة، صرخ بكل قوته
مشيرًا إلى نادر:
_اربطوا
قدميه، واتركوا يديه.
_أمرك مولاي.
أنزله الزبير بيديه إلى
الحفرة التي تشبه القبر وهو يقول للجنود:
_سينام
ويستيقظ وهو واقف، لن يتسنى له أن يرتاح أو يجلس، والهواء يدخل إليه من خلال
الفتحات الصغيرة، التي تشكل الغطاء مع الأرض، إياكم وفتح الغطاء له، فقط من أجل
الطعام.
ضحك ماهر وهو يقول:
_سيتمنى
الموت ولا يطوله يا سيدي.
_نعم، هذا ما أريده، فلن
أرحمه من الآن وصاعدًا، ليتعلم كيف يتطاول على زوجتي.
أما الماء والطعام،
ستقدمون له كسرة خبر واحدة في اليوم، وكأس من الماء.
نادى اثنان من جنوده:
_ستتركون
كل شيء وتقفان هنا حارسين لهذا الثعلب الماكر.
إن حصل خطأ ما، فلن
أرحمكما ستكونا مكانه.
ارتعد قلبهما، وهزا
رأسهما بالإيجاب، لم يكف نادر عن الصراخ والعويل، لكن لا أحد من الموجودين تجرأ
على الاقتراب منه، فقد رأوا الزبير، كيف يحمل غل الكون في عينيه له، ود لو أنه
قطعه بأسنانه إلى قطع صغيرة.
توجه إلى والد كوهندار
ووالدتها اللذان يقفان أمام الجمهور المتجمع وهو يقول:
_ليتني
أستطيع أن أفرض عليكما عقابًا كهذا، لكن احترامًا لزوجتي سأكتفي بفرض جزية مضاعفة
عليكما.
عاد لكوهندار
يسألها:
_كيف
حالك الآن؟!
_الحمد لله أفضل بكثير.
_هيا بنا إلى أرضي.
حملها أمام أعين الجميع،
سار بها إلى السفينة، وجهه يتهلل فرحًا أنها أخيرًا بين يديه، سرية الجنود تلحق به
من فوق حفرة نادر التي امتلئت غبارًا وأتربة.
وقف أمام أعين الجميع وهو
يقول:
_هل
تقبلين أن تكوني زوجتي؟!
تبسمت بخجل، وهي تناظر عينيه:
_من
دواعي سروري.
دفنت نفسها في حضنه
المتسع، في صدره الرحب كأنه بستان من الروائح العطرة تأبى مغادرته؛ لتبقى داخل
أنفها تلك الرائحة التي تعشقها.
سارا إلى أرضه، ممسك
بيدها يشعر بتلك الجروح والنتوئات الصغيرة، قلبه يؤلمه من جراحها الصغيرة، نزلت
أمام أعين الجميع، وأثار الكدمات على وجهها أيضًا، ذهبت إلى والدته، قبلت رأسها
ويديها، وهي تقول:
_لنفتح
صفحة بيضاء جديدة، وعفا الله عما مضى.
_أمي قدمت كوهندار إليك،
تريد أن تباركي زواجنا الحقيقي هذه المرة!
شعرت والدته بتأنيب
الضمير عندما غادرت كوهندار أرضها، فلا حاجة لافتعال المشكلات طالما تلك الفتاة
استطاعت أن تدخل قلب ابنها، وترى عينيه تتراقص فرحًا بعد أن كانت هموم الكون
تجتاحه.
ضمت كوهندار، والزبير
بيديها وهي تقول:
_مبارك
لكما، يا أولادي.
قبل الزبير رأسها ويديها،
وهو يقول:
_هذه
أم الزبير التي أعرفها.
ذهبت كوهندار وأسيل إلى
قصرها، ذلك القصر الذي عشقت معالمه، راحت تتراقص بين جدرانه، تتلمسها، ندمت كثيرًا
لأنها غادرته، لا تزال حاقدة على ذلك اللعين"نادر".
جلست تناظر الجبل بحب وهي
تقول:
_الحمد
لله، على عودتي، كدت أقتل نفسي يا أسيل أتعلمين هذا؟!
أخذت قارورة السم في
يديها، حملتها أسيل وهي تقول:
_سأسكبها
في الجبل يا سيدتي.
قالت بتعجب:
_كيف
ستذهبين؟!
_برفقة أحد الجنود،
فالنفس أمارة بالسوء يا سيدتي.
توجهت أسيل لخارج القصر،
برفقة أحد الجنود، اقتربت لأقرب شجرة، حفرت تحتها لبعض الوقت، رأت أحد الرسوم الذي
يشبه الأخطبوط مرسوم على الجذع:
_يا
إلهي، ما هذا الرمز؟!
ليرد عليها الجندي:
_لم
يسبق لي رؤيته يا سيدتي.
فتحت قارورة السم التي
ستقوم بسكبها وهو تقول:
_بسم
الله الرحمن الرحيم.
رأت مشهد أفزع قلبها، رأت
نار عظيمة أمامها، تأكل الشجرة، ابتعدت بخوف:
_ابتعد
أيها الجندي، ألا ترى النار العظيمة.
_لا، لا أرى شيء، عن أية
نار تتحدثين؟!
فركت عينيها بعدم تصديق،
عادت لتنظر إلى الشجرة، رأتها تحولت لرماد لكنها محافظة على شكلها، أمام تعجب
الجندي:
_أقارورة
صغيرة كهذه، تستطيع أن تحرق شجرة بأكملها؟!
_لا بد أن هناك خطأ ما.
_أوافقك الرأي.
عادت أسيل بسرعة إلى
كوهندار، تحدثها بما جرى، لكنها لم تصدقها:
_من
المستحيل ما تقولينه يا أسيل.
_إن لم تصدقي اسألي
الجندي يا سيدتي، أو تعالي معي سأريك الشجرة.
مشت أسيل مع سيدتها،
عندما رأت كوهندار الشجرة لم تصدق عينيها، اقتربت منها تريد أن تلمسها، رأتها
تتساقط على الأرض حتى أصبحت رماد مندثر مع ذرات الهواء الطائرة في الأجواء.
نادر في مقصورته، نظر إلى
قدميه المقيدين، كأن نار طالتهما، صرخ بصوته القوي من الألم، تقدم إليه أحد الجنود
وهو يقول:
_لا
أريد أن أسمع صوتك.
تلوى لدقائق وهو يصدر
أنين صاخب، كأن النار تلفح جسده، ثم برزت أثار الحروق على قدميه، علم وقتها أن
أحدهم مسح الرمز الذي رسمه على الشجرة في أرض الزبير، والآن ينال ألمه.
وهي تدخل من باب قصرها
الخارجي سمعت صوت صهيل الأشقر:
_إنه
الأشقر، أتسمعين صوته؟
دخلت إليه منتصب على
قدميه، شفيت قدماه، ركضت إليه بحب، فرد جناحاه وهو يصهل، خرج السائس من
خلفه:
_إنه
يرحب بك يا سيدتي.
ربتت على رقبته
بحنو:
_سعيدة
من أجلك يا عزيزي، الحمد لله أنك استرديت صحتك.
قربته من لجامه:
_ما
رأيك بجولة صغيرة في فناء قصرنا.
صعدت على ظهره، وهي
تقول:
_هيا
يا أشقر، لنرى قوتك الجديدة.
دار بها دورات عديدة داخل
الساحة الواسعة، عيني الزبير تنظر إليها بولع.
نزلت عن ظهره، أعادته إلى
الإسطبل:
_الحمد
لله عاد أفضل مما مضى بفضلك أيها الطيب.
دخلت كوهندار إلى قصرها،
رأت الزبير حاملًا فستان أبيض بأكمام مطرزة، وفوقه طرحة منسدلة لتضعها على رأسها.
تقدمت كوهندار وهي تنظر
للفستان العجيب:
_ما
هذا يا سيدي؟!
لوى فمه بتعجب:
_فستان
زفافنا، لكن إن لم يعجبك أستطيع أن أغيره لك.
كاد أن يعود أدراجه،
اقتربت تتحسس ملمسه وتقول بتعجب:
_هل
فستان الزفاف لديكم أبيض؟!
_وهل يكون فستان الزفاف
غير الأبيض؟!
_نعم ففستان زفافنا أسود،
والفستان الأبيض نرتديه في عزاء شخص مقرب لدينا.
ضحك وهو يقول:
_نحن
لدينا بالعكس ففي الفرح نرتدي الأبيض، وفي العزاء نرتدي الأسود.
اقتربت منه أكثر، حملته
بين يديها:
_إنه
رائع، لا أصدق أننا سنتزوج.
_صحيح إنه رائع فعلًا،
لكن أنت يا أميرتي من ستجملينه.
تبسمت بحب وهي تحتضنه:
_لا
تستبقي الأحداث، سأحتضنك حتى الصباح.
غمز لها بإحدى عينيه، وهو
يخرج.
أرسل الزبير دعوة زواجه
لكل الممالك، حتى لوالد كوهندار أرسل له دعوة.
الشعوب جميعها تتحدث عن
زواج أعظم ملك أسطوري، من أميرة أرض القمر، التي خطفت قلبه وأنسته أيامه المظلمة
مع زوجته السابقة، الجميع يشعر بمقدار الفرح الذي ملأ قلبه، يحبها كما لم يحب أحد
من قبل.
خرج يستقبل الوفود
القادمة من الممالك جميعها، همس لماهر الذي يقف بالقرب منه، يساعده في كل شيء:
_لا
أريد أي خطأ، كثف الحراسة في كل مكان، خاصة على قصر الزجاج.
_أمرك يا سيدي.
أنهكته الوفود والتحيات،
عندما انتهى من الجميع توجه إلى الساحة ليطمئن عن سير الموائد التي ستقدم.
أشار إلى الطباخ
الكبير:
_هل
طبختم الطعام المشهور في أرض القمر؟! هل تأكدت أن الطعام يكفي الجميع؟!
_نعم يا سيدي، نفذنا
أوامرك كاملة.
حيّا الوفود التي تقف أمامه،
دخل؛ ليرتدي ثيابه أخيرًا ويحضر نفسه، بينما كانت كوهندار ترتدي ملابسها أيضًا.
قدمت إليها الفتاة التي
ستضع لها الزينة ومساحيق التجميل، انتهت من عملها:
_لم
أر في حياتي بجمالك يا سيدتي، ما شاء الله، أسعدك الله كما أسعدتي قلب ملكنا بطلتك
الرائعة.
_شكرًا لك، سلمت يداك.
وقفت أمام مرآتها تناظر
شكلها المختلف، فستان طويل بأكمام مطرزة، وطبقات متعددة، أسدلت الطرحة عن رأسها،
تتلحف بها كأنها جناحان عظيمان، تبدو كحمامة بيضاء مبهجة، إلى الآن لم تعتاد على
الفستان الأبيض للزفاف مع أنها تراه فاتن.
وقفت أمها تناظرها، وهي
بفستانها العجيب، سقطت دمعة من عينيها:
_سامحيني
يا ابنتي.
_لا تقولين هذا الكلام يا
أمي، فأنت أغلى ما أملك، من أنا كي لا أسامحك.
قبلت يديها بحب:
_لو
أخذت روحي، فهي فداء لقدميك.
في غرفة الزبير ارتدى زي
رجالي مطرز، يتوسطه حزام غليظ، بفتحات جانبية تظهر البنطال الفضفاض تحته.
وقف أمام مرآته يضع العطر
ويبتسم وهو يكلم نفسه في المرآة:
_سيتحقق
حلمك أخيرًا أيها الزبير، ستأخذ أميرتك في أحضانك اليوم.
تذكر عندما رأها تدلف
هاربة مع قارب الصياد محمود، تذكر عندما دلف إلى بلادها محاربًا وقدم بها إلى هنا،
تذكر الكثير من المواقف التي تجمعهما.
شعر أن ضربات قلبه
مضطربة، إنه الحب، والشوق لها، فمنذ الصباح الباكر لم يرها.
بدأ قرع الطبول في
الخارج؛ لينذره أنه حان موعد خروجه الآن، قرع ماهر الباب عليه بخفة، وهو
يقول:
_هل
انتهيت يا صديقي؟! الناس في الخارج تنتظرك يا سيدي.
فتح الباب وطل منه رائحته
تسبقه، ذهل ماهر من جماله:
_ما
هذا الجمال يا مولاي؟!
تقدم في الممر الطويل
بخطا مستقيمة، وكوهندار تمشي في ممرها، عندما انعطف للباب الرئيسي كانت أمامه.
وقف لبعض الوقت مذهول
بجمالها، لم يرها هكذا من قبل، كانت أجمل مما توقع بمسافات، وقف ينظر إليها وهي
وقفت بالمقابل له، تبتسم بخجل.
سمعت صوت أسيل من
خلفها:
_هيا
يا سيدي، لا تجعلي الأمير ينتظر أكثر، والنساء في الخارج بانتظارك.
تقدمت وقلبها يسبقها
بخطوات، وصلا إلى منتصف الممر، تقدمت إليه بلهفة، مد يديه لتمسك بهما، أغمضت
عينيها؛ عندما أقترب ليقبل جبينها، اخترقت رائحته الجميلة أنفها بل عقلها، ذهلت من
جماله:
_لم
أعلم أنك جميل لهذا الحد!
_بل أن جمال الكون مجتمع
في أصبعك الصغير هذا، فما بالك بوجهك؟!
أمسك يدها يتقدمان وسط
زغاريد النساء وتهليلاتهم، تقدم الزبير وقبل يد أمه وجبينها:
_لولا
وجودك إلى جانبي، لما كنت أنا هنا.
_أسدي، مبارك لك يا ولدي،
مبارك لنا أميرتنا ذات الطلة البهية.
وقف في المنتصف، مد يديه
وأخذ يرقص أمامها، كانت تتراقص على أنغام الطبل، كأنها فراشة مزدهرة.
دارت وهي بين يديه، دار
هو أيضًا، شعر أنه أصبح في مكان أبيض كبير، بياض لا متناهي أمامه، ينظر إلى ابتسامتها
التي يعشقها، أغلق عينيه بقوة من شدة الضوء، فتحهما مجددًا.
وجد نفسه على السرير،
يناظر السقف الذي فوقه وقد آلم الضوء عينيه، عاد إلى إغلاقهما من جديد، يريد أن
يعود إلى كوهندار، نظر بالقرب منها إنها هي ولكن بهيئة حبيبة.
نظر إلى المحاليل المتصلة
به، أزعجه صوت الجهاز الذي بالقرب منه، الذي أخذ يصدح في أرجاء الغرفة وصوته يتكرر
من الصدى:
_أين
أنا الآن؟!
إنه السؤال الذي لم يجد
له إجابة، شعر أنه نام كثيرًا، حتى ذهب جزء من عقله، أراد أن يرفع المحلول عن يده،
قدمت الممرضة من الخارج، لم تصدق عينيها:
_هل
استيقظت سيد فرناس؟!
تحسس جسده بيده:
_هل
أنا فرناس أم الزبير؟!
هناك شيء لم يفهمه، خرجت
الممرضة وعادت ومعها عمه وزوجة عمه، والجميع يبكي ويقول:
_الحمد
لله على سلامتك يا ولدي.
_أين أنا؟! من أنا؟!
اعتقدت الممرضة أنه فاقد
للذاكرة:
_أنت
فرناس، وأنت في المستشفى منذ أشهر في غيبوبة.
كاد أن ينطق ويقول
لها" بل أنا الزبير وتلك حبيبتي كوهندار"
لكنها عادت لتقول:
_هذه
زوجتك حبيبة، قد تعرضتما لحادث سير مروع، ألا تتذكر؟!
هز رأسه إلى الأسفل؛
بمعنى نعم، لم ينطق بعدها، أراد أن يستوعب ما حصل معه وأين هو الآن؟!
نظر إلى الوجوه التي
يتوسمها الخوف والفرح معًا:
_هل
لي أن أرتاح قليلًا.
شعرت الممرضة بمعاناته،
فكل من يعود من الغيبوبة يحتاج وقت ليعود إلى رشده.
هزت رأسها، وهي
تقول:
_تفضلوا معي إلى الخارج،
سأعود بعد قليل لأطمئن عليه.
تذكر ما مر معه من أحداث،
مرت أمام كشريط من الفيديو، باللون الأبيض والأسود، إنه يشتاق لكوهندار، تحدث مع
نفسه:
_هل
كل ما رأيته كان حلم؟!
نظر إلى جسده، إلى يديه
وقدميه، زفر بحنق وهو غير مصدق، نظر إلى جواره:
_كوهندار،
من المستحيل أنني أتوهم.
اقترب من حبيبة، نظر إلى
أصابعها، أثار الدماء والكدمات ما زالت متجمعة على أصابعها، تحسس يدها، تذكر عندما
قال لكوهندار:
_إن
جمال الكون مجتمع في أصبعك الصغير هذا.
_ترى هل كوهندار، أقصد
حبيبة ما زالت هناك؟! إن اليوم عرسنا!
عاد من جديد يكلمها:
_لن
يصدقني غيرك، فلو أخبرت أحد بما مررت به لقال إنني مجنون، وليس غريب أن يضعوني في
مصحة نفسيه.
إن يديه وقدميه تؤلمانه
من الحركة، مشى بصعوبة ووهن شديد إلى أن فتح الباب صديقه ماهر:
_فرناس،
لا أكاد أصدق عيني.
أخذه في أحضانه، وهو
يقول:
_كدت
أفقد الأمل في عودتك يا عزيزي، الحمد لله على قيامك سالم معافى.
كاد أن يقول له:
_ماهر
ماذا تفعل هنا، ألست مساعد الأمير الزبير؟!
لكن عندما نظر إلى بنطاله
السميك وكنزته الصوفيه وقبعته الممتدة إلى الخلف، ولباسه المختلف تمامًا عن هيئة
الملوك، عاد للصمت.
جلس ماهر بجوار صديقه، لم
تعجبه هيئته، يشعر أنه فقد قدرته على التواصل مع المحيط به:
_فرناس
هل أنت بخير؟! هل أنادي الطبيب؟!
أشار بيده بمعنى لا، لا.
_ما حال حبيبة؟! لا أذكر
شيء مما حصل معنا.
_لقد تعرضتم لحادث سير
أليم، حبيبة أخذت الجزء الأكبر من ضربة الشاحنة.
زفر بضجر وهو يكمل:
_الأطباء
إلى الآن لم يجزموا بعودتها للحياة، إصابتها أعمق من إصابتك.
_ماذا تقول يا ماهر؟!
ابنة عمي ستكون بخير أنا متأكد، عليها أن تكره تلك الأرض حتى تعود إلى هنا.
_لم أفهم عن أية أرض
تتحدث؟!
_ أرض الزبير.
_أرض الزبير؟!
_حديث مطول سأخبرك به
فيما بعد، أو لعل كوهندار من يخبرك.
_كوهندار! لم أفهم شيء
مما تتحدث به.
قدم أحد الأطباء من
الخارج:
_وصلتنا
الأخبار الطيبة، السيد فرناس استيقظ من غيبوبته.
وضع السماعة على صدره:
_الحمد
لله صحتك جيدة جدًا.
_لكن ألم يدي لا يطاق.
_نعم، ذلك بسبب الكسر
والصفائح التي كانت موجودة فيها، سأرسل حالًا في طلب الطبيب الفيزيائي المعالج،
ستتلقى علاج مكثف حتى تعود لحركتك السابقة.
خرج من الباب وهو
يقول:
_الحمد
لله على سلامتك يا سيد فرناس، نأمل أن تستيقظ المريضة حبيبة.
نظر إلى حبيبة مجددًا،
عصفت به رياح الكره لنفسه، نظر لماهر وهو يقول بحزن:
_هل
أنا السبب؟!
_لا يا صديقي إنها مقدرات
من الله عز وجل، أنت مؤمن أن كل ما يحصل مع الإنسان خير له.
_قربني من حبيبة، قرب
السرير لجانب سريرها.
أمسك يدها بحب، تعجب ماهر
من تصرفه وهو يقول:
_حبيبة
هيا عودي إلي، لن أستطيع أن أعيش دونك.
دخلت زوجة عمه إلى داخل
الغرفة تسأله:
_ألا
تتذكر ماذا حصل معكما؟! لماذا حبيبة قالت إنها تريد الطلاق؟!
أشاح بوجهه عنها فهو لا
يريد أن يخبر أحد عن حبيبته السابقة إيمان، الآن علم حقيقة مشاعره لحبيبة.
الآن علم أنه لا يستطيع
أن يتنفس دون حبيبة، لعل أمه كانت محقة.
لا تزال حبيبة تقبع في
حلمها، أو لعلها لا ترغب أن تعود من تلك الأرض.
عادت زوجة عمه للبكاء وهي
تقول:
_إن
حبيبة فقدت رغبتها في الحياة، لا ترغب أن تعود.
_بل ستعود، لن أسمح لها
أن تتركني وحدي.
لم يسمح الطبيب لماهر وأم
حبيبة أن يبقيا أكثر، أما فرناس رفض مغادرته غرفة حبيبة لغرفة أخرى:
_بل أريد ان أبقى بجانب
زوجتي حتى تستيقظ.
مرت الليلة على فرناس
الدقيقة بساعة، والساعة بيوم، واليوم بدهر، وهو يناظر السقف بعض الوقت ووجه حبيبة
لوقت آخر، استحال وجهها للون الأصفر الشاحب، لم تعد المحاليل تجدي نفع معها.
مسك يديها ونام لبعض
الوقت، حلم بكوهندار مجددًا، تقف في منتصف الساحة، تبحث عنه تصرخ وتبكي وهي
تقول:
_أين
ذهبت أيها الزبير؟ من اختطف حبيبي؟!
نادى بصوته الأبح:
_أنا
هنا بالقرب منك ألا تريني، كوهندار يا ريحانة قلبي أنا بالقرب منك.
غرقت الدموع عينيها، نزل
الكحل على وجنتيها، تجلس على الأريكة وتبكي على حبيبها المفقود.
مهما صرخ الزبير لا تسمع
صوته، جلس بالقرب منها، هبت نسمات الهواء القوية على غرفتها ففتحت النافذة، وقفت
أمام النافذة وهو بالقرب منها لكنها لا تراه.
فتح فرناس عينيه، شعر أن
حلقه جف من الصراخ، نظر إلى النافذة فوجدها مفتوحة على مصراعيها،
عاد ليتسائل:
من أنا؟! وأين أنا؟!
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة