BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مجرم أربكان-الفصل الأول (محمد بهاء الدين)

 



ما قبل أربكان

 

لم تكن الحياة أبدًا باليسيرة أو السهلة على آزر، ذاك الفتى البدين الذي لا يجد في الحياة جمالًا؛ فالمجتمع

لفظه بشدة وتركه حبيس غرفته الغارقة في الظلمات.

 

فلن يغامر بالخروج لمدرسته ليرَ هؤلاء الفتية الملاعين ذوي الأجساد الرياضية ليتنمرون عليه وينعتونه

بالخنزيرة الحبلى.

 

لن يقوى على الصمود أمامهم ولن يحاول ذلك؛ فربما هو بدين الجسد خائر القوى إلا أنه يمتلك عقل لا بأس

به.

 

إلى أن جاء هذا اليوم الذي قرر به أن يحاول للمرة الأخيرة تغير حياته وواقعه الأليم، فذهب إلى صالة

الألعاب الرياضية واتبع نظامًا غذائيًا وخرج للحياة بابتسامة مشرقة.

 

إلا أنه فجئ بهم في الصالة الرياضية أيضًا، سخروا منه وجعلوا منه خادمًا لهم يحمل الأثقال ويجلب لهم

المياه ويحمل ملابسهم المفعمة بالعرق.

 

لم تتوقف المهانة عند هذه النقطة فحسب، بل أجبروه أن يدفع أجر استخدامهم الصالة الرياضية.

 

مرت على حياة العبودية هذه عدة أشهر حتى امتنع آزر عن الخروج وانزوى في غرفته.

 

من خارج الغرفة المظلمة استجدته والدته:

-ماذا حدث يا بني أرجوك أخبرني؟

 

أجابها آزر في قرارة نفسه:

-أأخبركِ أنني أُجبرتُ على الركض بالممر بلا سروال، أم أخبركِ أن ابنكِ صار عبدًا لا يتأخر ليلًا للهو مع

رفاقه كما تظنين، بل أعمل حتى أدفع لهؤلاء الأوغاد ليكفوا عن إهانتي؟

 

لكن ما خرج منه كان الصمت، فألحت أمه عليه قائلة:

-أقاربك هنا، ألا تريد أن تراهم، ألا تريد أن ترى ابنة عمك دانا؟

 

كانت دانا هي الصديق الصدوق لآزر، فتاة كئيبة ذات ميول انتحارية، إلا أنها تصير خفيفة الظل حينما

تكون رفقة آزر البدين.

 

خرج آزر وتلقى عبارات أعمامه المقيتة من شاكلة:

-يجب أن لا تُفرط في الطعام فالأوضاع الاقتصادية باتت صعبة، لن ترضى فتاة بالزواج بك، كم يبلغ

عمرك بالضبط فحجمك يقول أنك في الثلاثين؟

 

هنا نهضت دانا تهتف بهم موبخة:

-أخبرتني أمي أنك كنت تمتلك مؤخرة عملاقة كانت تحسدك عليها يا أبي.

 

امتقع وجع عم آزر في حين تابعت دانا موجهة حديثها إلى عمها الثالث:

-أنت أيضًا أيها العم ليث، لازلت تداعب أنفك إلى الآن وهذا يبدو مقززًا للغاية لكن أحدٌ لن يخبرك بذلك

لأنهم يقدّرون مشاعرك فلا تجرح مشاعر الآخرين.

 

حاول والد آزر تهدئتها لكنها صاحت بوجهه قائلة:

-أي أبٍ أنت؛ تترك المجال لهؤلاء الملاعين حتى يتنمروا على ابنك ولا تحرك ساكنًا بل تضحك بكل حماقة.

 

وميض من العشق أصاب آزر لكنه أيضًا أصابه بالسخط على نفسه؛ فهو لم يقوَ يومًا على التفوه بهذه

الكلمات والذود عن نفسه.

 

بينما تنحنح والده وأشار له بالجلوس جواره قائلًا:

-فلتصافح أعمامك يا آزر.

 

صافحهم بفتور وهو يرى في أعينهم النظرات المتنمرة التي تتفحص جسده البدين، لكن أحدٌ لم ينطق بشيء

خوفًا من لسان دانا الحارق كالنيران.

 

نقلت والدة آزر دفة الحديث إلى الدراسة وهمومها قائلة:

-لم يعد هذا النظام التعليمي يصلح لأحد، فقط ننزف الأموال دون أن يتعلم أبناؤنا.

 

رد عليها والد دانا بابتسامة متهكمة قبل أن يقول:

-لا يجب أن نلصق فشل أبناءنا دائما في المجتمع والنظام التعليمي، الاعتراف بالمرض أول وسيلة للعلاج

كما تعلمين.

 

هنا انتفضت دانا ونهضت مغاضبة لتصطحب آزر من يده وهي تقول:

-لا مكان لنا وسط هؤلاء العجائز الذين لا يفقهون شيئًا.

 

حاول والدها نعتها ببعض عبارات التوبيخ لكن نظرة واحدة من دانا أخرسته وجعلته يتمتم:

-افعلي ما يحلو لكِ.

 

فتبسمت والدة آزر بخبث وهي تقول:

-يبدو أن ولدي ليس الوحيد الذي يعاني بقصورٍ في التربية.

 

بحنق رد عليها والد دانا:

-هذه الفتاة غير سوية إطلاقًا، أحيانًا أظنها ساحرة لعينة أرسلها الشيطان لتحتل جسد ابنتي البريئة.

 

والد آزر:

-لا تقل ذلك؛ على الأقل تستطيع الدفاع عن نفسها لكن آزر لا فائدة منه،

 

تجرع بعضًا من شرابه ثم أردف:

-صديقي في العمل أخبرني أن الفتيان الآخرون يستعبدونه في المدرسة وفي الصالة الرياضية وينعتونه

بالخنزيرة الحبلى.

 

كممت والدة آزر فمها بجزع وهي تهتف:

-لا يُمكن، بني!!

 

أومأ والد آزر برأسه في حسرة وهو يقول:

-أجل، تمنيت لو لم يكن لدينا ولد حينما أحرجني هذا الوغد في العمل.

 

تسرب وقع هذه الكلمات إلى أذن آزر، فدمعت عيناه واحترق قلبه ليصدر قشعريرة في بدنه الضخم شعرت

بها دانا وهي تجذبه خلفها إلى العلية.

 

((أشكرك، لكن لا تحرجي والدي ثانية يكفي ما سببته له.))

 

دانا بضيق:

-هؤلاء الأوغاد الحمقى يحتاجون إلى من يذكِّرهم بحقيقتهم بين الفنية والأخرى.

 

ثم أخرجت من حقيبتها حجرًا جيري وقنينة مياه وهي ترف:

-أحيانًا أتمنى أن أراهم يحترقون في الجحيم، يرقصون هذه الرقصات المُعذبة بينما الشياطين تصفق لهم

بحرارة.

 

ارتسم بصيص من البسمة على ثغر آزر قائلًا:

-أتمنى أن أرى أهل الأرض كلهم يتعذبون في الجحيم، فالشياطين لم تؤذني، البشر فعلوا.

 

انهمكت دانا في رسم شيء بالحجر الجيري بينما تسأله:

-لمَ لا تدافع عن نفسك، أعني ما الصعب في جذب سكين وطعن أحدهم به، في النهاية سيكون دفاعًا عن

النفس، لن تدخل السجن.

 

على قناع الخزي وجه آزر وهو يُجيب:

-ربما لم تُخلق في الجسارة لفعل ذلك، ربما هذا قدري المحتوم الذي لا مفر منه.

 

دانا بسخرية لاذعة:

-أهذا ما تخبر به نفسك حينما يجردونك من ملابسك ويلتقطون لك الصور؟

 

آزر بذهول:

-أنّى لكِ معرفة ذلك؟

 

أنهت دانا رسم مجموعة من النقوش العشوائية التي تُعطي معنًا لكن آزر لا يفهمه، ثم أجابت:

-وسم الخنزيرة الحبلى يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد لك حياة هنا بعد اليوم.

 

انفجر آزر باكيًا ليهرق دمعًا أشد حرارة من حممٍ بركانية، وهو يردد بيأس وسخط على نفسه:

-ماذا أفعل، كيف أنجو، لقد سئمت هذا الوضع، سئمت من جلب الخزي والعار لوالديّ.

 

جذبت دانا ذراعه بيدها الدامية فنفر آزر بالتياع، رمقته بنظرة صارمة مخيفة وهي تقول:

-فلتكف عن التصرف كخنزيرة حبلى ولتتشجع لتعطني يدك.

 

سحقت كرامتها سحقًا، فمد لها يده متسائلًا:

-ماذا تفعلين؟

 

((أقتلك.))

 

آزر بذهول:

-ماذا تقولين؟!

 

أجابته دانا بينما تمزق أوردة يده:

-ألم تسأم من هذا الوضع، ألا تشعر باليأس لأنك ولدتَّ هكذا،

 

بدأت دماء آزر تزحف كالثعابين في الخطوط التي رسمتها دانا وهي تردف:

-لم نجد لنا حيّزًا في هذا العالم، ربما في عالمٍ آخر قد تبتسم الحياة لنا.

 

لامست أذن آزر أصوات قرعات الطبول وتضارب الأمواج مع الصخور، وصوت الأبواق يعلو بشدة بينما

صوتٌ عميق يتحدث بلغة قديمة عتيقة لن يفهمها أحد سوى آزر:

-لقد جئت إلى مائدة المحاربين يا بني، فلتكن سيفي الذي أطعن به ودرعي الذي أذود به حينما تسحقنا

القيامة، أهلا بك على مائدتي في أربكان أيها المحارب الصلد.

 

في هذا اليوم تعالت صرخة والدة آزر، وهرع إليه أباه حينما وجده ممدًا على الأرض وقد فقدت عينيه بريق

الحياة.

 

فاجهش ببكاء الندم والحسرة حينما لا يُجدي الندم نفعًا؛ فلم يتحمل آزر ودانا قبح هذا العالم واختارا الفرار من

أجسادهم ليمن عليهم الإله بأجسادٍ أخرى وحياة مختلفة.

***

 

((أين أنا؟))

 

نطقها آزر وهو يفتح عينيه ببطء ليرى السماء وقد باتت أقرب له من المعتاد.

 

اعتدل في جلسته ليستشعر تربة الشاطئ أسف منه، بينما رزاز البحر المالح يداعبه بين الحين والآخر.

 

جال بعينيه في أرجاء المكان ليجد الخضرة تحيط به من كل جانب، والتلال شامخة والجبال تتطاحن مع

السحاب لتسقط مطرًا.

 

بدهشة وذهول تساءل مجددًا:

-يال الهول أين أنا؟

 

نهض بفزع ثم هرع إلى مياه البحر ظنًا منه أن برودته ستوقظه من هذا الحلم.

 

لكنه لم يجد سوى الحقيقة المطلقة؛ فهو يستشعر برودة البحر كأي برودة، فردد بعدم تصديق:

-لا، لا، لا، أأنا في عالمٍ آخر حقًا!!

 

((أهلًا بك في أربكان أيها المحارب الصلد.))

 

التفت آزر إلى مصدر الصوت فلم يجد سوى هذا الغراب الذي يقف على رمال الشاطئ.

 

لم يصدق أن هذا الغراب هو من نطق بهذا الصوت الأنثوي، فتساءل بصوتٍ عالٍ:

-من هناك، أين أنا، فلتخرج إليَّ؟

 

أتاه الصوت من الغراب مرة أخرى يخبره بذات النبرة الأنثوية:

-أنت في أربكان على مائدة الآلهة أيها المحارب.

 

طرف آزر بعينيه ليستوعب الأمر، ثم تساءل باستنكارٍ ذهل:

-غ..غ..غراب، غراب يتحدث!!

 

أتاه الصوت من الغراب قائلًا:

-يجب أن لا تظل عاريا هكذا أيها المحارب.

 

امتقع وجه آزر وهو يتمتم:

-الغراب، لقد تحدث للتو، أقسم أنه تحدث.

 

حلّق الغراب ليصير على مقربة من آزر ثم قال:

-الآلهة لا تظهر بهيئتها دائمًا أيها المحارب.

 

بصوتٍ متحشرج مكتوم ردد آزر:

-آ..آلهة!!

 

لم يتحمل وطأة الأمر فأُغشي عليه ليخر ساقطًا في المياه.

***

 

لم يدري كم مر من الوقت حتى فتح عينيه ببطء، فرأى السماء ذاتها قريبة كما كانت، رزاز المياه المالحة لازال يداعبه، لكن هناك شيء مختلف هذه المرة.

 

هذه الفتاة الشقراء بارزة المفاتن لم تكن بين قدميه من قبل.

 

انتفض فور رؤيته وفرك عينيه ليراها بوضوح فلم يجد سوى الغراب بجواره يقول:

-استيقظت أخيرًا.

 

جال آزر بعينيه بحثًا عن هذه الفتاة وهو يسأل الغراب:

-أيتها الغراب أكنتِ عارية منذ لحظات، أعني هل ريشاتك كانت تعتليكِ طيلة الوقت؟

 

حلّق الغراب بأجنحته ليصير مقابلًا لوجهه، ثم نقره في جبهته وقال:

-أيها المحارب الأحمق يجب أن تركز الآن في الحصول على ملابس.

 

تأوه آزر ألمًا وهو يفرك جبهته متسائلًا:

-من أين أحصل عليها في هذه الجزيرة النائية؟

 

الطائر بسخرية:

-جزيرة نائية!!

 

ثم صاح موبخًا:

-أنت في أربكان حيث مائدة أودن؛ أكثر الأماكن اكتظاظًا بالمحاربين.

 

هم آزر واقفًا وهو يقول:

-حسنًا حسنًا، عرفتُ أنني في أربكان حيث المحاربين وهذا الهراء، ماذا أفعل أنا هنا بجسدي هذا؟

 

تحولت نبرة الطائر إلى خجلٍ أنثوي وهو يسأله:

-جسدك، ماذا به؟

 

رمق آزر يده متسائلًا:

-ألا ترى هذه الدهون وهذه الأرداف ال..

 

شُل لسانه حينما رأى ساعده العريض وكفه الغليظ الخشن، فتحسس وجهه ليجده صلبًا وليس بمترهل مليء

بالدهون كما كان.

 

فهرع إلى البحر ليرى انعكاسه به، فوجد رجلًا ألحي أبيض البشرة، ذهبي الشعر، تنسدل خصلاته إلى ظهره،

ذو أعين زرقاء وأنف مدبب.

 

فسأل الغراب بعدم تصديق:

-من هذا الوسيم هناك؟

 

الغراب بنفاد صبر:

-أأحمقٌ أنت، لا وقت لدينا لهذه الترهات يجب أنت تحصل على ملابس وسلاح للمشاركة في تصفيات

الآلهة.

 

كان واقع الأمر أثقل من أن يتحمله آزر من الوهلة الأولى، فتبع الغراب دون أن يتفوه بأي كلمة أخرى.

 

تأكد الآن من أنه بُعث من جديد في جسدٍ آخر وبعالمٍ آخر، تُردد بذهنه هذه التساؤلات:

-أسيجد ذاته هنا حقًا، أأربكان هي هبة الله له ليبدأ كل شيء من جديد؟

***

مواعيد النشر: الأربعاء

#محمد_بهاء_الدين

#مجرم_أربكان

تعليقات