BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الثامن (محمد بهاء الدين)

 



(((الفصل التاسع متوفر الآن على مدونة كيان العراب)))



(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



انعكس ضوء القمر على وجهها، ولازالت مطمورة أسفل الجثتين للرجال السود.

 

بؤرتي عينيها متسعتين كأنها مغيبة عن الوعي، وقد سالت دماء جرح رأسها المختلطة بدم الرجلين على

وجهها كألسنة من الأنهار الحمراء.

 

لا تدري كم ظلت في هذا الوضع؛ فلم تستفق سوى على صوت زمجرة خافتة تقترب منها.

 

لم تخف أو ترتجف بل راقبت بصمت هذا الذئب وهو ينتشل إحدى جثتي الرجلين من فوقها ليشرع في

التهامه.

 

شقيقين أو شقيقتين، الأول رمادي اللون، يبدو أصغر حجمًا من الآخر ذي اللون الأسود الذي انتشل جسد

الرجل الصلب من فوقها، لتنهض ماريا وتلتقط أنفاسها.

 

راقبتهم حتى أنهوا طعامهم ثم مدت لهم يديها المبللتين بالدماء، فدنو منها بتحفز وشيء من الخوف؛ فقد

رأينها وهي تنحر عنق الرجلين في طرفة عين.

 

لعقا الدماء عن أناملها، وهم يصدرون لهاثًا ويداعبون ذيولهم، فتبسمت ماريا وملّست على أعناقهم بلا خوف

أو وجل.

 

ثم نهضت وقد كسا الجمود والهيبة وجهها، وسارت رفقة الذئبين عائدة إلى الحفل الراقص حول النيران.

 

تشبثت الأعين بها وعلت الهمسات وسط زمجرة ذئبيها المتوعدين لأي شخص تسول له نفسه الاقتراب من

ملكتهم.

 

في حين وقف مامورا وقد اتسعت عيناه بذهول، وتراجع للخلف في فزع حينما رآها تقترب منه رفقة ذئبيها.

 

تبادل النظرات مع عينيها الباردتين كسماء حالكة بلا نجومٍ أو قمر، ثم أصدر ذئبها الأسود وعاءً مفاجئًا سقط

على اثره مامورا أرضًا وهو يصرخ ويلوح بيده مرتعدًا.

 

لكن ماريا لم تعره اهتمامًا، بل حولت ناظريها إلى أحمد الذي سيطر عليه الشدوه وعدم التصديق، وبعض

القلق من هيأتها ككل؛ فما هذه الدماء التي تخضبها، أهي دماءها أم دماء شخص آخر، والأهم من ذلك ما

هذان الذئبان اللذان يرافقنها؟

 

دون أن تنطق بكلمة، ولت ظهرها للجميع مغادرة، فجرّت هيبتها أحمد وحراسها كأنها تمسك بسلاسل في نهايتها أطواق حول رقابهم.

 

واتجهت للعودة إلى وكر الذئاب لتروض ذئاب البشر بعد أن صارت ملكة لذئاب الأحراش.

***

ظهيرة غائمة ملبدة بالغيوم، كنيسة مهترئة الجدران، رجال يحرقون التبغ عند أبوابها.

 

رهبان يتلون صلواتهم خلف قسيس يتضرع إلى إلهه في القداس، فتاة تتدلى من حول عنقها قلادة تحمل رقمًا

ورموزًا ذات معنى، يقابلها من الجهة الأخرى فدريكو حاملًا بندقيته الآلية على كتفه.

 

تبادلا النظرات برهة أمام بوابة الكنيسة، كلٌ محاط برجاله.

 

حتى أخرج فدريكو علبة تبغ من جيبه، تناول منها لفافة وألقى بالعلبة إلى كاترين التي تلقفتها بيسراها ذات

القفاز ممزق الأنامل.

 

أخرجت لفافة لنفسها ودستها بين شفتيها، في حين راقب فدريكو جسدها اللامع إثر طلاء لاعبي كمال

الأجسام الذي تضعه على جلدها دائمًا، لكن الخاص بها كان ذو رائحة شهية جميلة تُشبه السكاكر والحلوى.

 

فدنى منها ليملأ رئتيه بالمزيد من هذه الرائحة التي اشتاق إليها بحجة سؤاله عن موعد قدوم زعيمها، فتبسمت

كاترين بفهم لنيته الخبيثة قائلة:

-كنت لأرتدي سترة إن كنت أعلم بمجيء ذئب شهواني إلى هنا.

 

مط فدريكو حاجبيه وانفجر ضاحكًا بطبيعته المرحة، ثم قال بصوته الغليظ:

-لقد أمسكتِ بي.

 

نفثت أدخنة التبغ ثم قالت:

-وكيف لا أفعل وقد أمضينا سنوات معًا في الجحور والخنادق اللعينة قبل أن تهجرني.

 

ابتلع فدريكو احتراق التبغ في حلقه؛ فهي لم تنسَ كما قال ثائر، بل تبدو غاضبة تقد نارًا، فأسند ظهره إلى

الجدار قائلًا:

-لقد كان عملًا علي إنجازه فاضطررت ل..

 

بترت كاترين عبارته باقتضاب:

-أي عميلٍ هذا الذي دفع لك لتهجرني، كم دفع لك ها، دولار، اثنين؟

 

ثم ألقت لفافتها أرضًا ودهستها بحنق مردفة:

-انتهى الأمر، لستَ آخر الرجال ولستُ آخر النساء، ثمة مليارات البشر حولنا.

 

لا يُنكر فدريكو شعوره ببعض الحسرة لتخليه عنها بعد كل ما لاقاه برفقتها؛ لقد كان يتغمدهما هذا الحب

المفعم بالأدرينالين والجنون؛ قُبُلات على أنغام الرصاص وأحضان على زئير المدافع، وعشق باركته غارات

الطائرات، لقد خسر حقًا بتخليه عنها.

 

لكن في الجهة المقابلة أتى سباليتي بحُلّته الأنيقة التي جعلت منه أقرب ما يكون إلى رجل أعمالٍ مرموق،

وتخلل الوقوف بينهم وهو يسأل فدريكو:

-متى سيأتي زعيمك يا فتى؟

 

كان فدريكو بشوشًا مريح الوجه كثير المرح، لكنه كان أيضًا قصير الفتيل سريع الغضب؛ فانتصب في وقفته

مرددًا بجمود:

-فتى!!

 

سباليتي باستفزاز:

-أأخطأتُ في تحديد النوع؟

 

على فورها سحبت كاترين سلاحها، ورفع فدريكو بندقيته، وتوترت الأجواء في لوهلة من الزمن.

 

((ليس صديقي من يجب أن تُشكك في نوعه، أنظر لمفتولة العضلات بجانبك.))

 

نطقها ثائر وهو يتقدم بهدوء مداعبًا خاتم أُصبعه، فرمق سبالتي ملابسه الشبابية الجامحة كأنه محض شاب

يافع قادم من الزقاق، لكنه تبسم قائلًا:

-الوريث الهجين؟

 

أومأ ثائر برأسه وهو يتجاوز الجميع ليدفع أبواب الكنيسة ويدلف إليها واضعًا يديه في جيبي سرواله، ولفافة

التبغ تتدلى من فمه.

 

كانت هذه المرة الأولى التي ترى بها كاترين ثائر، فتبادلت مع فدريكو النظرات المستنكرة، لكن الأخير تبع

صديقه متجاهلًا نظراتها.

 

في حين قال سبالتي بحماس:

-أنا وأنتِ يا كاترين فقط، فلينتظرني البقية بالخارج.

 

بسرعة تقنية متمرسة، جذبت كاترين زلاقة مسدسها الآلي وأعدته للإطلاق ثم أومأت برأسها موافقة.

 

دلف أمير الكريستال إلى الكنيسة، وجلس في الصف الأول جوار ثائر وقد أخلى الرهبان المكان لهم.

 

ثم قال وهو يراقب أدخنة التبغ المتصاعدة من لفافته:

-يبدو أنك رجل مؤمن.

 

هز ثائر رأسه نفيًا وهو يقول:

-لا، فقط أردتُ بعض الخصوصية والهدوء..

 

ثم التفت إلى سباليتي متبسمًا بشراسة وهو يضيف:

-إن قتلتك أنت وهذه الغوريلا معًا، فلن يُدرك من بالخارج إلا بانبعاث رائحة تعفن جثتيكما.

 

اتسعت عينا سباليتي الذاهلتين، وتحسست كاترين سلاحها بإلحاحٍ من غريزة البقاء، لكن سرعان ما استرخى

ثائر في جلسته مضيفًا:

-لكنني تعلمت في مصر أن أعطي دائمًا الفرصة للأعمال الناجحة، وقد رأيت تجارتك مزدهرة حينما أتيت،

لهذا أخبرني يا أمير الكريستال، ماذا سيكون مصير تجارتي في وجودك؟

 

خيم الصمت المتحفز لهجمات ثائر الكلامية، قبل أن يبتسم سباليتي هاتفًا بحماس:

-النجاح والازدهار دون ثائر، فلستُ من يحتكر السوق لنفسه، أنا رجل أعمال متفتح.

 

هز ثائر رأسه موافقًا قبل أن يسأل فدريكو:

-كيف كانت بضاعة أمير الكريستال؟

 

بانتشاء أجابه فدريكو:

-رائعة.

 

ثائر:

-ماذا عن بضاعتنا؟

 

أشار فدريكو بإبهامه إلى الأسفل مجيبًا:

-أكثر ثمنًا وأقل جودة، قذارة لم يعد يبتعها أحد.

 

أشار ثائر إلى فدريكو هاتفًا:

-بالضبط..

 

ثم حول ناظراه إلى سباليتي مضيفًا:

-لا تحتاج إلى احتكار السوق يا أمير الكريستال، فقد احتكرته بضاعتك بالفعل.

 

حافظ سباليتي على صمته وتنهد بعمق قبل أن يُشبك بين أصابعه كأنه سيصلي لإلهه وهو يقول:

-لولا قتلك لجدي بيترو وذريته منذ سنوات، ما كان ليُنظر لرجل غير شرعي مثلي، أنا مدين لك أيها الوريث

الهجين لهذا لا أريد العداء بيننا، بل التحالف المتين، ونابولي تتسع للجميع، لكن لدي رجال سيموتون جوعًا

إن لم أدفع لهم، وإن لم أبع بضاعتي لن أملك المال، حينها لا أضمن ما قد يفعله رجل صار ظهره ملتصق

بالحافة.

 

استوعب ثائر تهديد سباليتي المبطن، فأخذ نفسًا عميقًا من لفافته، ثم نفث الدخان قائلًا بنبرة عميقة هادئة

للغاية:

-أتظن أنني الوريث الهجين من فراغ، لقد مات عند أقدامي أجدادك يا فتى، فلستُ رجل أعمال بل أنا

الشيطان في ثوب رجل أعمال.

 

بمجرد أن أنهى عبارته أخرج سلاحه بسرعة البرق وأقحم فوهته في فم سباليتي بغتة.

 

فتحركت كاترين سريعًا وأخرجت سلاحها، لكن فدريكو سبقها بقوله:

-تعلمين ما قد أفعله، أليس كذلك؟

 

عضت كاترين شفتها الرفيعة بحنق وبرزت قاطعتي أسنانها في إشارة بيّنة لغضبها كما اعتادها فدريكو،

فتبسم لذكرى الماضي.

 

في حين داعب ثائر سلاحه في فم سباليتي قائلاً بتهكم:

-أيستمتع أمير الكريستال بمذاق البارود وصدأ الحديد؟

 

ثم تعالت ضحكاته الجنونية وهو يردف بتلذذ شيطاني:

-كل شيء سينتهي هنا، أعلم أنك مسيحي مخلص لهذا سأجعل موتك جوار الإله.

 

كست ملامح سباليتي أمارات الوجوم، وتعلقت عيناه الغاضبتين بثائر، وتفصد العرق من جبينه ليسيل بغزارة.

 

في حين تحسس ثائر زناده بأنامله وهو يلوح بيده مودعًا:

-مت بسلام يا أمير الكريستال؛ فسيعتني صديقي بحارستك جيدًا، ولن يجوع رجالك إن كان هذا ما تقلق

بشأنه.

 

ثم برقت عيناه بلمعان الظفر واتسعت ابتسامة النهاية على وجهه وهم بالضغط على الزناد.

 

***


مواعيد النشر: السبت

(((لقراءة الفصل التاسع اضغط هنا)))

#مائدة_الشيطان

#محمد_بهاء_الدين


تعليقات