(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
إتكأ
على سطح سكن رفاقه يُطالع دقات ساعته بينما يُدخن لفافة التبغ بهدوء.
لازال
يرتدي الأسود الجنائزي، يحمل صورة نورينا بين أصابعه، لا ينظر إليها بل إلى أرض
نابولي الهادئة أكثر من المعتاد هذه الليلة.
عد
الثوان حتى دقت الثانية عشر منتصف الليل، فقبّل صورة نورينا قائلًا:
-حينما
تموت الأم، سيبقى الصغار ينتحبون لأجلها حتى يستمع العالم لعويلهم.
في
هذه اللحظة بالضبط، علت الإنفجارات في شتى أرجاء نابولي، وتصاعدت الأدخنة السوداء
لتدهن السماء
بشؤمها،
وعلت أنغام الطلقات في لحنٍ حزين يشد الموت في أذياله.
حتى
ان أمير الكريستال أخرج رأسه من بين فخذي كاترين، وهرع بجسده العارٍ إلى النافذة
في هلع، ليجد
عددًا
مهولًا من الرجال ذوي السترات الجنائزية السوداء يتدفقون بالأسفل.
فهتف
برعبٍ ممزوج بالإعجاب:
-سُحقًا،
كأن شعب نابولي بالكامل يُلبي نداء قتال المعسكر المنعزل.
كاترين
وهي تتحسس سلاحها على طاولة قريبة من الفراش:
-لم
يعودوا المعسكر المنعزل بعد الآن؛ فالجميع يلتف حول الوريث الهجين.
بينما
في الخارج، كان رجال الشرطة يفرون في ذعر من أمام الحشد المسلح الهائل الذي يقوده
فدريكو.
فخرج
قائد شرطة نابولي أريوزولا بنفسه على رأس قوات الشرطة للتصدي لفدريكو ورفاق
الزقاق.
لكن
المواجهة لم تكن أبدًا بالعادلة؛ فهجوم الوريث أتى من الداخل حيث رجال الشرطة من
أهل نابولي الذين
تركوا
سلاحهم ورفضوا قتال بني شعبهم.
فعض
أريوزولا شفته بحنق وتوعد الجميع بالعقاب الأليم، ثم ارتدى سترته الواقية من
الرصاص وخوذته،
ثم
هبط من السيارات المصفحة على رأس رجاله.
فاصطدموا
بفدريكو المجنون، يقاتل حاملًا مدفعين آليين ويُغرق الجميع بطلقاتٍ لا تنفذ.
بينما
الزجاجات الحارقة تُلقى من أعلى أسطح المباني والرصاصات تأتي من مداخل المباني السكنية.
بعناد
أجبر أريوزولا رجاله على مواصلة القتال، وصرخ طالبًا الدعم، فباتت سيارات الشرطة
المصفحة تفوق
الثماني
سيارات في شوارع نابولي.
فانسحب
الحشد من أمامهم واتجهوا للزقاق حيث يبرعون.
لحق
بهم أريوزولا وأكثر من مائة رجل من قوات الأمن، لكن ما إن وطأت أقدامهم الزقاق حتى
أُغلقت
حافتيها
بسيارتين رباعيتي الدفع لتمنعهم من الفرار، ثم صب رفاق الزقاق عليهم الطلقات
النارية صبًا من
النوافذ
والسطوح والمداخل ومن كل حدبٍ وصوب.
سقط
العشرات من رجال الأمن وهرع بعضهم للفرار، لكن فدريكو كان ينتظرهم بمدفعه الآلي
فوق سيارته،
وأمطرهم
بالنيران بلا شفقة.
بينما
في الخارج إحترقت مقار الشرطة وتفجرت سياراتهم واقتحمت المصارف والمصالح الحكومية
قاطبة
لتسقط
جميعها راكعة تحت سيطرة الوريث الهجين.
إستمر
أريوزولا في القتال بضراوة، رائحة البارود والنيران تفتك برئتيه، والدماء تتفجر
أمام عينيه ورجاله
يتساقطون
واحدًا تلو الآخر.
لكن
في لحظة واحدة توقف كل شيء كأن عجلة الزمان تعطلت حينما صدر صوت ثائر عبر مكبرات
الصوت:
-أنا
هنا أتحدث باسم شعب نابولي وشرفهم، من سيلقي سلاحه فهو آمن، لا نريد قتل المزيد.
كأن
رجال أريوزولا تمنوا هذه اللحظة بفارغ الصبر، فركعوا أرضًا وتركوا أسلحتهم، في
مشهدٍ مذل مهين
لأريوزولا
ولشرطة إيطاليا قاطبة.
من
بين النيران والغبار تجلى ثائر بخطواته الهادئة الرزينة، وهو يُردد:
-أحسنتم،
يا رجال، أحسنتم يا رجال، أنتم رجال مخلصون لشعب نابولي حقًا.
أدرك
أريوزولا سخريته واهانته لشرفهم؛ فلم يُسقط أحدهم سلاحه بدافع ولائه للشعب، بل
الخوف والفزع من
الموت
المتمثل في هذا الرجل هو ما دفعهم للركوع.
فصوب
سلاحه صوب ثائر، وراودته فكرة أن يقتله قبل أن يتحول جسده إلى مصفاة، لكن طلقة
صاخبة
عالية
الصدى أطاحت بسلاحه بعيدًا وثقبت راحة يده.
أصدر
صرخة ألم عالية وقد تفجرت الدماء من يده، وتقلص حول نفسه أرضًا.
رفع
هذا الشخص الذي يرتدي منظار الرؤية الليلة بندقيته ليُخرج الطلقة الفارغة ويُعد
سلاحه مرة أخرى
للإطلاق.
تقدم
ثائر صوب أريوزولا، يضع يداه في جيبه، يسير بخطى ثقيلة بطيئة للغاية، تحرق الأعصاب
وتزيد من
وطأة
الانتظار.
حتى
توقف أمام أريوزولا الذي تفصد وجهه عرقًا من شدة الألم.
نزع
ثائر الخوذة عن رأس قائلًا بتهكمٍ مرير:
-مرحبًا
أيها الزوج الصالح، أكان شهر عسلكما جيدًا؟
أريوزولا
بمشقة:
-ماذا
تقصد؟
اتخذ
ثائر القرفصاء ليدنو منه قائلًا بوعيدٍ خافت:
-أحذرك
من تَصَنُّع الغباء أيها الشرطي؛ فجميع من حولك من رجالي ليسوا سوى حفنة من
الحثالة سفاكي
الدماء.
ثم
جذبه من تلابيبه بغلظة هامسًا:
-لقد
جربت متعتك هذه عشرات المرات، لهذا أستطيع من واقع خبرتي أن أخبرك أنه كان شهر عسل
بديع
الجمال.
إنفلت
جماح أريوزولا اثر إهانة ثائر، فجذب صاعقًا كهربائيًا من جرابٍ حول ساقه، وألصقه
بثائر وهو يصرخ
بجنون.
تلقف
ثائر يده الواهنة ببرود وهو يقول بلهجة مميتة:
-إياك
ثم إياك أن تُفكر في مس طرفٍ من الوريث الهجين.
رأى
أريوزولا الجحائم السبعة في عيني ثائر وهو يتلفظ بهذه الكلمات، فشخص ناظراه بذهول
وشعر كم هو
ضئيل
أمامه.
انفلت
الصاعق من بين أنامله ونكث رأسه في استسلام كبقية جنوده الذين توعدهم بالعذاب اثر
إلقائهم
السلاح.
في
حين تبسم ثائر وهو يعدل من هندام أريوزولا قائلًا:
-الآن
أيها الضابط الشريف، أين أجد بائعة الهوى التي أنجبت طفلك الوحيد.
سهمت
عينا أريوزولا اثر ذكر ثائر لولده، فعض شفته في نقم وسخط على نفسه، متمنيًا عشرات
الرماح تهبط
من
السماء لتطعن صدره وتُريحه من هذه الذلة.
أمام
صمت أريوزولا، نهض ثائر واقفًا وهو يقول:
-نحن
لسنا بالإرهابيين أو قطاع الطرق حتى نأسر مدينة بأكملها، لكن شعب نابولي سيلفظكم كالقمامة
حتى
تسلمني
هذه اللعينة.
ثم
ولاه ظهره وذاب في الظلام كما جاء، تاركًا فدريكو يهتف برفاقه:
-هيا
هيا هيا، فلتسعفوا من يُمكنه النجاة من رجال الشرطة أسرعوا.
رآى
فدريكو رفاقه يُسعفون رجال الشرطة الذين
أسقطوهم جرحى منذ لحظات وينظمون حركة سيارات
الإسعاف
باحترافية وهدوء كأنهم ليسوا بمجرمين مكانهم الطبيعي هو الجحور.
بحلول
الصباح كانت نابولي لشعبها خالصة؛ فلم يتبقى سوى رجال الشرطة من أبناء المدينة
فقط، يُدخنون
التبغ
على أطلال مراكز الشرطة.
وقد
ملأت سيارات المطافئ المكان لتُخمد ألسنة اللهب اثر ليلة عاصفة أسكنت في أذهان
الجميع الخوف
والتربص
من الوريث الهجين من جديد.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة