(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
في
مكتب المحافظ..
تصبب
وجه نائب المحافظ قلقًا من الوضع الملتهب في نابولي؛ فقد جاء بديلًا لمحافظٍ تم
اغتياله في بثٍ
مباشر،
والآن أُخذت نابولي بالكامل.
لم
يجد أمام هذا الضغط المهول سوى إطباق راحتيه على رأسه كمن هو مُثقل بهموم الدنيا،
وسأل آسيا:
-ماذا
كان يفعل المحافظ كونتي في هذه الأوضاع؟
وضعت
آسيا القهوة أمامه، ثم اتخذت مجلسًا على المقعد مقابله وهي تتظاهر بإنعاش ذاكرتها،
ثم أجابت:
-سيهبط
للتفاوض معهم، فنحن جميعًا نعرف طبيعة المافيا هناك.
المحافظ
الجديد بانهيار:
-كيف،
كيف أفعل ذلك، نزولي لهم وتلبية مطالبهم يعني استسلامي لهم وليس تفاوضًا.
تأملت
آسيا ملامحه الباهتة بُرهة، ثم أمسكت بيديه تزيحهما عن وجهه بلطف وهي تقول بنبرتها
العذبة التي
تأسر
الوجدان:
-ستنجح
أنا واثقة من ذلك..
ثم
همت مغادرة بهدوء وهي تجره بسلاسل شعور الأمان الذي مدته إليه، ليسألها:
-ماذا
يجب أن أفعل؟
هنا
برقت عينا آسيا بوميض الظفر وقد حصلت على مرادها في لف طوقها حول رقبة المحافظ
الجديد،
فتظاهرت
بالتفكير قبل أن تتساءل ببراءة الشياطين:
-ماذا
إن رددت أولًا على المذبحة التي ارتكبوها في حق رجال الشرطة هناك؟
المحافظ
باستنكار:
-أنا
رجل مدني؛ لا خلفية عسكرية لي لأقود حربًا طاحنة مع الوريث الهجين، لقد..
تردد
قليلًا قبل أن يردف:
-لقد
قتل المحافظ السابق على مرأى ومسمع من العالم، التواصل الاجتماعي يُمجده لأجل ذلك،
ألا ترين
المقاطع
القصير له كأنه أحد الأبطال؟
آسيا
وهي تعاود الجلوس على المقعد مقابله:
-الأمر
لا يحتاج إلى استراتيجي ماهر، فقط حصار لمخارج ومداخل المدينة، منع الامدادات عنهم،
وإقتلاعها
من النظام المصرفي، امنع عنهم الماء والطعام والهواء ان استطعت، سيمضي أسبوعان
فحسب ثم
تجد
شعب نابولي الجائع يسحق الوريث الهجين ورفاقه.
لمعت
الفكرة في ذهن المحافظ المؤقت، لكن التردد لازال مسيطرًا عليه، فأرادت آسيا محو أي
وجل يتسرب
إلى
قلبه؛ فقالت بصوتٍ شبيه بفحيح الأفاعي:
-الرد
الرسمي سيأتي عاجلًا أو آجلًا؛ فصورة السُلطة والحكومة مشوهة لما حدث في نابولي
وسيسقطون
قريبًا،
السؤال هنا من سيُنسب له الفضل، ومن ستزيد شعبيته الانتخابية لدحره هؤلاء
المجرمين؟
تسرب
فحيحها إلى ذهنه؛ فحتمًا من سيقود الرد على المافيا سيكسب صيتًا وشعبيه يكفيانها
لتولي رئاسة
الدولة
بأكملها.
هكذا
نهض قائلًا بحسم:
-استدعي
الضابط أريوزولا إلى هنا..
همّت
آسيا لتنفيذ الأمر، لولا أن المحافظ المؤقت أوقفها مضيفًا:
-أيضًا
فلتُرسلي مرسومًا لوزارة الدفاع بطلب الضابط العجوز ألبيرتو.
***
في
الليل كانت آسيا في منزلها، ترتدي المثير من الملابس الخيطية سهلة التمزيق؛ فهي تعلم
من سيأتي
لزيارتها
قريبًا.
جعلت
المنزل في أبهى حلة، وضبطت الإضاءة لتكون مريحة للعين، وأعدت المشروبات شديدة
المفعول حتى
يسترسل
ضيفها في الحديث.
كل
شيء بدا جاهزًا لمجيء ثائر، لكن إنتابها بعض الشعور المقيت الذي يزور بائعة الهوى
حينما تُصيبها
نفحة
من الشرف.
تذكرت
سنواتها الجامعية وأهلها الذين يترقبون نجاحها، وثوب العفة الذي ترتديه أمام
الجميع، ثم جال في
خلدها
اجتياح ثائر لها في المرة السابقة.
لم
يكن رحيمًا أو ودودًا بل كان يُفرغ جل غضبه وغيظه فقط لا غير.
هي
من دعته من البداية فلا يحق لها الشعور بالذنب الآن؛ يجب أن تصل، يجب أن تُحقق
النجاح ولو قتلت
عائلتها
وإبنها الذي لم يُلد في ميدانٍ عام.
أتاها
نداء أمن المجمع السكني يُبلغها بمجيء ثائر، فأخبرتهم بموافقتها، ثم هرعت لتتأكد
من أن الطعام لا
زال
ساخنًا والمشروبات باردة وكل شيء في مكانه.
بادرت
بفتح باب منزلها قبل أن يقرعه أو يضغط جرسًا، رآها ترتدي هذا الثوب الخيطي الأسود
الذي يفضح
جسدها
ذو القوام المرمر المائل للامتلاء قليلًا.
لكنه
ليس هذا الوحش الهائج الذي زارها في السابق، بل مد لها يده بهدية قائلًا بفم يشغله
التبغ:
-أحضرت
لكِ هذا.
تناولته
فتجاوزها إلى الداخل غير ملتفتٍ، تفحصت ما في الغلاف، فوجد ثوبًا أنيقًا
أرستقراطيًا ذو لون أخضر
طبيعي
كأنه جلد تمساح لا زال ينبض بالحياة.
في
حين صب ثائر لنفسه بعض الشراب وهو يُشير إلى غرفتها قائلًا:
-فلتجربيه.
أدركت
آسيا الرسالة التي يُريد ثائر بثها لها من خلف هذا الثوب، كأنه يُخبرها متحديًا لا
نقطة ضعف لي يا
فتاة؛
فلن نمارس شيئًا بغيضًا إلا حينما أريد ذلك.
فابتسمت
وهي تنزع ملابسها الخيطية الغير مريحة إطلاقًا لترتدي هذا الفستان وتتفحص نفسها
بالمرآة لتُصاب
بالدهشة
وتدمع عينيها.
فلم
ترى نفسها في هذا القدر من الرُقي من قبل، ليس لقلة مالها فقد إرتكبت من الفساد ما
يُبقيها غنية حتى
تشيب،
لكن لأن أحد لم يُفكر في رؤيتها هكذا.
ففقدت
التعلق بهذه الأشياء ووجدتها لا قيمة لها في دربها لتحقيق غايتها، فالرجال لا
يهتمون بالثوب بل ما
هو
أسفل منه.
هكذا
خرجت من غرفتها، على وجهها بسمة صادقة أعذب من مياه الأنهار الصافية، لم يرها ثائر
أو ترها
هي
على محياها من قبل وهي تقول بشيء من الخجل:
-أشكرك.
كان
ثائر خبيرًا في التعامل مع النساء، فقد جرب كل شيء مع مارتينا حتى صار محنكًا.
لكن
هذه الفتاة كستنائية الشعر جميلة الطلة كانت شيء مختلف عن من سبقوها.
فوجد
نفسه يقول بشيء من اللين المفاجئ الذي يتنافى مع شخصيته الحادة:
-هذا
ما يتناسب مع رئيسة الوزراء القادمة.
إتسعت
عينا آسيا ولمعت مقلتيها بوميض الامتنان، ثم أشارت صوب طاولة الطعام المُعدة
بأناقة والمزدانة بالقناديل الفضية، قائلة برقة:
-نتاج
يدي، فلتجربني في الطبخ دون ثائر.
تبسم
ثائر لتحول آسيا فجأة إلى الطبقة الأرستقراطية التي تعتني بالأناقة وتهتم
بالمظاهر.
في
حين ملأت آسيا الطاولة بما طاب ولذ من الطعام الشرقي الأصيل والايطالي الغربي،
الأمر الذي جعل
ثائر
يُصدر صفيرًا متعجبًا ثم يقول:
-كيف
عرفتِ أنني مغرم بهذه الأطباق الشرقية؟
أجابته
آسيا وهي تصب النبيذ الفاخر في كأسه ذهبي اللون:
-درست
كل شيء عنك منذ كنتَ طفلًا مشردًا إلى أن صرت الوريث الهجين.
ثم
جلست قبالته وتناولت قطعة لحم بشوكتها ومدت بها إليه مردفة:
-فلتقبل
هذه مني.
رمق
ثائر قطعة اللحم بنظرة تشكك واضحة، فمطت آسيا حاجبيها بتفهم أنه يظنها مغموسة في
السم قبل أن
تُضع
له، ثم تناولتها وأقحمت شوكتها بأخرى ثم مدت بها إلى ثائر لتُذهب شكوكه.
فتناولها
ثائر بطيب خاطر، ومضغها باشتهاء، ثم قال بجد:
-كشفت
سر هذا المذاق الذيذ.
رمقته
آسيا بنظرة تساؤل واهتمام لجديته، فقال بذات الجدية:
-شفتاك
اللتان مستا الشوكة قبل أن تلج إلى فمي.
طرفت
عينا آسيا برهة، ثم انفجرت ضاحكة قبل أن تقول:
-حقًا
لم أتوقع ذلك.
هز
ثائر رأسه متفهمًا وهو يقول:
-لستُ
هذا الوحش الهائج المشتهي للنساء، يا لها من مفاجأة.
بادرت
آسيا في استدراك الأمر قائلة بلهجة اعتذار:
-لا،
لم أقصد دون ثائر، الأمر فقط أن..
بتر
ثائر عبارته بإشارة من يده ثم قال باسمًا:
-لا
تعتذري؛ فأنا كائن معبأ بالشهوات القذرة والضغائن الدفينة.
ثم
تناول هذه المعكرونة الشرقية التي تُعد في الأفران باشتهاء دون أن يمنع نفسه من إظهار
شوقه لهذا
الطعام
ومدى لذته.
فقالت
آسيا بعذوبة:
-يُسعدني
أن الطعام أعجبك دون ثائر، عسى أن لا يكون هذا آخر عشاء بيننا.
ثائر
بتلقائية:
-بالطبع
لن يكون الأخير؛ فلا يوجد مكان في ايطاليا يُعد مثل هذه الأطباق.
ثم
ارتشف من النبيذ الفاخر وسألها:
-ألن
نتحدث في شؤون العمل مزمازيل آسيا؟
كافأته
آسيا بابتسامة تخلب الألباب لفتونها، ثم أجابته:
-لقد
صار لنابولي محافظ مؤقت كما تعلم دون ثائر.
ثائر
بسخرية:
-بالطبع
أعلم، فأنا من قلده بهذا المنصب.
هزت
آسيا رأسها في توقير كأنها تخاطب ملكًا، ثم تابعت:
-هذا
المحافظ يهدف لكسب المزيد من الأصوات الانتخابية؛ فلديه الطموح للوصول لمنصب رئاسي.
ثائر
وهو يتجرع النبيذ:
-كيف
سيكتسب هذه الأصوات الانتخابية يا تُرى؟
ردت
آسيا لتُلبي غروره رغم معرفتها أنها يعلم الإجابة مسبقًا:
-بالثأر
من نابولي دون ثائر.
ثائر
مستهزئًا:
-كم
هذا مخيف.
ثم
أردف متسائلًا:
-كيف
ينوي أخذ ثأره؟
تجرعت
آسيا النبيذ لأول مرة؛ في إشارة لثائر أنها باتت ذات فضلٍ عليه الآن لمده بمعلومة
يجهلها، ثم
أجابت:
-بحصار
نابولي لتجويعها، حتى ينقلب أهلها عليك.
تبسم
ثائر من واقع كلماتها، ثم هم واقفًا بغضب وهو يصيح:
-أيظن
أن شعب نابولي سيثور ضدي، أهذا الشخص مجنون، لدي ميزانية تُجابه دولًا، ولدي
الموانئ، كيف
ينوي حصاري هذا الأحمق؟
ارتعدت
آسيا من ثورتها المفاجئة، وشخصت عينيها في تحفز، لاحظ ثائر ذلك، فأعاد البسمة إلى
وجهه.
وتحسس
وجنتها الناعمة كنعومة خدود الرُضع، وهو يقول بابتسامة واسعة:
-لا
تخافي يا هرّتي الفاتنة؛ فأنتِ تبلين حسنًا إلى الآن.
ازدادت
دهشة آسيا من هذا الشخص المجنون الذي تتبدل ملامحه في ثوان معدودة، وآثرت الصمت في
انتظار
قوله.
في
حين عاد ثائر إلى مقعده، ورفع كأسه بمرح قائلًا:
-فلنشرب
نخب المحافظ المؤقت.
آسيا
متصنعة الدهشة والاستنكار:
-أستقتله؟
هز
ثائر رأسه نفيًا وهو يُجيب:
-بالطبع
لا يا هرّتي؛ الجميع يتمنى أن يصنع اسمًا له عن طريق مقارعته للوريث الهجين، سأدعه
ينال هذا
الشرف،
فليأتِ بحصاره، وسآتي أنا لأهل نابولي بالطعام والوظائف ولنرَ من بيده مقاليد
الشعب.
عضت
آسيا شفتها بحنقٍ خفي؛ فما دفعت المحافظ المؤقت لاتخاذ هذه الخطوة الحمقاء إلا
ليقتله ثائر فيصير
الطريق
ممهدًا لها.
لكن
الآن فشلت خطتها وصارت مصدر غير موثوق للنصح لدى المحافظ المؤقت؛ فقد حوّل ثائر
الحصار
لصالحه
في لحظات معدودة.
في
حين تابع ثائر بعد تناوله قطعة أخرى من طعامه:
-فلتفرحي
يا هرتي، ستصيرين المحافظ الجديد في القريب العاجل.
أومأت
آسيا برأسها متصنعة السعادة؛ فرغم معرفتها بالقوة الهائلة التي يملكها الوريث
الهجين إلا أنها فقدت
مركز
الذراع الأيمن الذي يهمس في أذن المحافظ الآن.
((ماذا
بشأن المشاريع الاستثمارية المُعلقة في مكتب المحافظ؟))
كانت
هذه البطاقة الأخيرة التي يُمكن لآسيا التلويح بها؛ فكل شيء سيصير معلقًا بفعل هذا
الحصار.
فصمت
ثائر برهة مفكرًا، ثم سرعان ما برقت عينيه بوميض الذئاب وهو يُجيب:
-إذًا
ستعمل الصحافة على أوجها..
ثم
أشار بيده كأنه يُطالع مقالًا صحفيًا وهو يواصل:
-محافظ
يمنع ملايين الدولارات عن أهل محافظته ليبقيهم في الجوع والفقر.
أدركت
آسيا في هذه اللحظة أنها ضئيلة للغاية أمام ثائر، هرة في عرين الأسد؛ فلم ولن تستطع
مقارعة مثل
هذا
الشخص ذو العقل الحاسوبي الذي يجد الثغرات والمنافذ مهما كثرت الأقفاص.
فتبسمت
باستسلام وقد قررت بيع نفسها بالكامل له وعدم الانغماس في مقارعته مرة أخرى، فرفعت
كأسها تحية له قائلة:
-هذا
النخب لأجلك مولاي ثائر.
ثائر
بتساؤل:
-مولاي؟
انحنت
له آسيا برأسها قائلة:
-أنت
ملك متوج لا يستطيع أحد المساس بك ولو كان الشيطان نفسه.
استساغ
ثائر كلماتها الفاتنة، وثارت شهوته الجائعة للسلطة والعظمة، فجفف فمه قائلًا:
-الملك
يريد الاستمتاع بجاريته الآن.
بإذعان
وخنوع أومأت آسيا برأسها وهي تصرخ في قرارة نفسها:
-الويل
كل الويل لكم يا أهل الأرض ان تجرأ أحدكم على معارضة الوريث الهجين، هو الحاكم
الأوحد الذي لا حاكم بعده، ونحن جميعًا عبيد له.
أنزلت
ثوبها الأرستقراطي، فأخرج ثائر من جيبه طوقًا لفه حول رقبتها، مربوطٌ بحبلٍ حريري،
ثم جرَّها خلفه
إلى
غرفتها وهي تحبي خلفه على أربع.
في
الداخل امتطاها بلا رحمها وجذبها من عقالها كما يُفعل مع الخيل الهائجة، حتى تدلى
لسانها واستسلمت
للمهانة
بنفسٍ راضية.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة