عملت
مبردات الهواء على أوجها في مجلس ادارة ثمرة الجنة؛ فهناك جلسة حارقة على وشك
الانعقاد.
كالعادة
حضر الجميع على رأسهم خالد الذي بدا في حالة مزرية؛ تُحيط الهالات السوداء بعينيه
ذات المقلتين
الحمراوءين
يتشققهما دم السهر.
في
حين حضر أحمد في مقعده المعتاد، وألصق عينه بتقارير العمل دون أن يشيح بنظره اتجاه
أحد من
الحضور.
بعد
دقائق طوال من الانتظار، حضرت ماريا إلى المجلس، ترتدي سُترتها الرسمية، وقد جدلت
شعرها وزينته
ببعض
الضفائر الصغيرة ليظهر فتونها العاتي، بينما مجلسها على رأس الطاولة خالٍ لها، بل
مهذب أكثر
من
المعتاد.
في
حين اختفت الهمسات الشيطانية التي كانت تُنشد لها كلما وطأت قدمها المجلس.
الجميع
يرسمون قناع البسمة على وجوههم، كما يفعلون عادة حينما يحضر شخص ذو قوة وبطش إلى
المجلس.
كانت
ترى هذا القناع على وجوههم دائمًا في وجود ثائر، الآن بات هذا القناع موضوعًا
لأجلها، وقد أضفى
إليها
ذلك النوع من السعادة والانتشاء الذي ظهر في هيئة ابتسامة علت شفتيها.
النظرات
محيطة بها، على رأسها نظرات خالد الذي ذاق من الهزيمة أمامها كؤوسًا ودنانًا من
المذلة.
وقد
كان ذلك كافيًا ليفقد الجميع الثقة به، لكن رغم ذلك لا زال يجلس على رأس الطاولة
كأنه لا زال متحكمًا
بالأمور.
تبادلت
ماريا النظرات المتحدية مع خالد، قبل أن يتدخل أحمد قائلًا:
-عملية
ترميم ثمرة الجنة تجري على قدمٍ وساق، بالإضافة إلى مشاريع جديدة أرسلها لنا قسم
ال..
بتر
خالد عبارته قائلًا بحقدٍ مكبوت سرعان ما فُضح:
-قاتلة.
ماريا
بتهكم:
-لا
أسمعك، ماذا قُلت؟
نهض
خالد عن مقعده وأشار لها بأصابع الاتهام وهو يصرخ:
-لقد
قتلتِ جميع من في هذه المشفى أيتها السفاحة اللعينة.
تعالت
الهمهمات وازدادت الهمسات، في حين التفت أحمد إلى ماريا بقلقٍ أبوي دفين يتناقض مع
نظرات
الجمود
على وجهه.
فوجدها
تبتسم بهدوء بينما تُخرج جهاز التسجيل من جيب سترتها وتضعه على سطح الطاولة وهي
تقول
باستفزاز:
-اتهام
آخر بتشويه سمعتي من قبل السيد خالد، فلتُزد من حدة صوتك حتى يسمعك العالم بأثره.
جز
خالد على أسنانه بحنق، ثم قال:
-الحقيقة
ستظهر عاجلًا أم آجلًا وسيقول القضاء الشامخ كلمته.
كلمات
مرسلة دبلوماسية، نطقها خالد حتى يتفادى اتهامٍ آخر، فقابلته ماريا بالابتسام
قائلة بودٍ خبيث:
-بالطبع
سيد خالد، جميعنا ثقة بالقضاء، الآن هلّا نتطرق إلى أعمالنا رجاءًا؟
لكن
ما لبث خالد حتى ابتسم قائلًا:
-بالطبع
سيدة ماريا، لكن ألا تتذكرين أن التسجيل في مجلس الادارة يُعد تجسسًا وتسريبًا
لأسرارها؟
إنعقد
حاجبا ماريا وهي تهتف:
-من
نص هذا القرار، لا أتذكر أنني وضعت إمضتي على شيء كهذا؟
قهقه
خالد مجيبًا:
-أجل
سيدتي، لكن المجلس وضع امضته وتم توثيقه بالفعل بتاريخ الحادي عشر من شهر ديسمبر
من العام
المنصرم،
أي قبل تسجيلك هذا المقطع اللطيف لنا، وهذا يجعلكِ مذنبة، أتمنى من كل قلبي أن
ينال التسجيل
مسلكًا
هينًا حتى يصل ليد القضاء.
همت
ماريا واقفة في لحظة ذعر متجردة من كل ما قرأته في مفكرات والدها، وعادت إلى ماريا
الصبية
الطائشة
وهي تصيح:
-كيف
تمررون شيئًا لم أضع امضتي عليه ولي ثلثي هذه الشركة؟
خالد
بشماتة مستخفة، مستهزئة:
-بل
بصمتِ عليه سيدتي، ألا تتذكرين حينما هددتِ المسكين أماند وأمسكتِ بظهر مقعده،
قليل من مسحوق المغناطيس وفرشاة جعلتنا نصل إلى الكنز الثمين.
لقد
سرق خالد بصماتها ونسخها من الموضع الذي أمسكت به المقعد وإستخدمها في الايقاع بها
في فخاخه،
ضربة
قاسمة جعلت ماريا تكاد تبكي، وقلب أحمد يكاد يثب من حلقه، فقد خيبت ماريا ظنه ولم
تتحول
بالكامل
لتصير ريان، بل ربما طفرة طفيفة منه، أو..أو هي بدايته التي تعثر بها وذاق الأمرين
حتى وصل
للقمة.
في
حين صاحت ماريا بصوتٍ مُبلل موشك على البكاء:
-أيها
السارق المزور الوغد.
انكسارها
ونبرتها الذليلة جعلت كل من بالمجلس يُشهر ضحكاته في وجهها، شماتة، احتقار، نفور
منها
جعلها
تشعر أنها مجرد ورقة ذابلة تزروها الرياح.
اغرورقت
عينيها وخارت أعصابها، وكادت تسقط مغشية عليها، حتى أتت كلمات خالد قائلة:
-فلتجلسي
سيدتي ماريا، فقد بصمتِ لي على تنازلٍ بإدارة ثمرة الجنة.
ثم
رمق أحمد بطرف عينه مردفًا:
-لولا
أن والدكِ وكّل هذا الشخص بالوصاية عليكِ حتى تبلغين الحادي والعشرون لكانت ثمرة
الجنة بالكامل
تؤول
لمن يستحق.
سقطت
على مقعدها، جسدها يرتعد بقوة من الهزيمة النكراء التي هشم بها خالد أضلاعها
وأيقظها لترى
الحقيقة
التي خدعت نفسها لتهرب منها.
وقد
نطقها خالد حينما قال:
-حتى
والدكِ أيقن أن ابنته لن تكون سوى طفلة خرقاء، لهذا جعل الوصاية عليها تمتد إلى
الحادي
والعشرين،
وكما تعلمين فأي شخص آخر ينالها من الثامنة عشر.
صفعات
متتالية تلقتها ماريا من طرف خالد جعلنها تبكي وهي تُتمتم بصوت لا يسمعه سواها:
-أبي،
أرجوك أنقذني.
((فلتذهبي
إلى بيتكِ أيتها الطفلة، فلا أحد بالمجلس يريدكِ، ولا تقلقي سيستلم وصيكِ عوائدكِ
شهريًا وبيده
القرار
إما يحتفظ بها أو يضعهم في يد طفلة مغفلة))
تعالت
الضحكات الساخرة الشامتة مرة أخرى، والجميع ينظر إلى بكاء ماريا بتلذذ حتى أن
المندوب
الصيني
نطق متهكمًا:
-لا
تكن قاسيًا لهذه الدرجة سيد خالد..
تعلق
ناظرا ماريا به بحثًا عن طوق نجاة، لكنه أعطاها أكثر ابتسامة صفيقة لديه وهو يضيف:
-جناح
فرميت للعاهرات يحتاج إلى من يديره، ولا أجد أنسب من سيدتنا ماريا؛ فالجميع هنا
يرغب في ادارتها
لهذا
المكان وأقسم أنني سأكون أول الزائرين له.
احترق
قلب أحمد من تمادي هؤلاء الأوغاد ونعتهم ماريا بالعُهر، فلم يتمالك نفسه وهم
واقفًا ولكم سطح
الطاولة
بيده وهو يصيح:
-سُحقًا
لكم جميعًا، لقد تماديتم أيها الأوغاد، أقسم أن آخذ بثأرها منكم جميعًا.
كان
أماند هو من أجابه قائلًا بتهكم:
-سيكون
ذلك بعد توليها جناح فروميت سيد أحمد؛ فالسيد خالد سيضع إمضاءه الآن على تعينها في
هذا
المكان
وبصمتها على الأوراق كما تعلم.
((هذا
يكفي.))
نطقها
خالد بشيء من الضيق، فشيء ما بداخله لم يرضَ برؤية هذه الفتاة الذابلة يُنهش في
عرضها بهذه
الطريقة
المهينة ولا حول لها ولا قوة.
ثم
أشاح بيده مضيفًا:
-فلتذهبي
لبيتكِ فلا مكان لكِ في ثمرة الجنة بعد اليوم.
تعالت
اعتراضات الأوغاد في المجلس، في حين نهضت ماريا مُطرقة الرأس، وغادرت ذليلة كفتاة
عذراء
عارية
تهرب لتواري سوءتها.
في
حين تهتك قلب أحمد على حالها وكادت عيناه تدمع هو الآخر؛ فلحق بها، فقد تضوعت
رائحة دنس
وقذارة
هذا المكان.
***
فرت
من القاعة، بل من المبنى بأكمله، لا تريد أن يراها أحمد أو دينا أو أي شخص آخر
تشدقت بالثقة
أمامه.
قادت
سيارتها تكاد تبكي دمًا، لا تستطيع العودة إلى فيلاها فهي تعلم أن أحمد سيلحق بها
إلى هناك،
وستأتي
دينا لاحتضانها كطفلة صغيرة.
ضغطت
على دواسة الوقود بكل قوتها، حطمت أي حواجز مرورية وتجاوزت الطُرقات دون أن تعلم
لنفسها
ملاذًا.
استمرت
في السير ساعات حتى نفد منها الوقود في منطقة نائية.
فهبطت
من سيارتها تركض وهي تصرخ لتُخرج ما بداخلها من عارٍ لا يلتئم.
توقفت
عند نقطة ما، وأخرجت مفكرة والدها بغيظ من جيب سترتها وهي تصيح بها كأنها تخاطبه:
-أخبرتني
أن أتوقع كل شيء، لكن ماذا ظننتني، ساحرة أم مشعوذة لأعلم هذه الخطوة اللعينة..
ثم
ألقتها أرضًا بغل وأتبعتها ببعض الدمعات التي اختلطت بغبار الرمال، ثم خارت قدماها
وهي تهمس
لنفسها:
-ظننت
أنني جاهزة، ظننت أنني أخيرًا هذه الفتاة التي حان عصرها، لقد قتلت العشرات من
الناس وأحرقت
مشفًا
لأجل كلماتك اللعينة التي قرأتها، ثم على ماذا حصلت؟
رمقت
المفكرة باتهام مرددة:
-على
ماذا حصلت؟، لقد طُردت هناك وفقدت كل شيء بسبب كلماتك.
ثم
انتشلت مفكرته وألقتها بكل قوتها في الهواء لتسقط على بُعد عدة أمتارٍ منها، وهي
تصرخ:
-لازلت
في العشرين من عمري، من في مثل هذا العمر قاد كيانًا عظيمًا كثمرة الجنة، لقد
خدعتني يا أبي.
بعد
أن أفرغت غيظها، همت للعودة للسيارة لكنها وجدتها خاوية من أي قطرة وقود.
فلم
تجد بُدً من الاتصال بدينا حتى تأتي لتصطحبها، إنتظرت في صبرٍ ثقيل وتُركت لعقلها
الذي أثقل
همومها
أكثر فأكثر حتى إنفجرت صرخاتها عدة مرات.
تستثغيث
بالله وبجدها وبوالدها وبكل من يمتلك سلطة لينجدها لكن لا يغيثها أحد.
روادتها
فكرة الموت في هذه اللحظة لتتخلص من آثامها ومن العار الذي لحق بها، ومن كل شيء
لعين
يلاحقها.
بحثت
عن أي شيء يُبقيها متشبثة بأحبال الحياة لكنها لم تجد سببًا؛ فإن نجت اليوم ستلحق
بها المعاناة غدًا.
لكن
حينما إرتكبت هذه المذبحة رفقة ذئابها البرية كان الناس يهربون للحفاظ على حياتهم.
تساءلت
ما الشيء السعيد الذي يدفعهم للمحاربة لأجل حياتهم حتى الرمق الأخير، ماذا في
حياتهم لا
تمتلكه؟
المال
لديها الكثير منه، الحب تلقت منه الكثير من دينا وأحمد، كل شيء تتمناه تحصل عليه،
ما الشيء
الناقص
في حياتها؟
بطرف
عينيها لاحظت الوميض الذي صدر من إنعكاس آشعة الشمس على صفحات مفكرة والدها.
أرادت
تجاهلها والنظر بعيدًا لكن الفضول أخذها؛ فربما تكون إشارة من نوعٍ ما أو طوق نجاة
ينتشلها من هذا
الجحيم.
سارت
تجرف الرمال بساقيها حتى وصلت إلى الصفحات المهترئة التي تمزق بعضها.
انتشلتها
بغيظ وبُغض، وسارت عينيها بين الأسطر بعناد حتى وصلت إلى هذه الجملة:
-عند
مرحلة ما كان الرحيل واجبًا؛ فلم أُرد أبدًا أن أكون الرجل الثاني خلف إمبراطور
الأعمال آدم، ولك أن
تتخيل
يابني كم ذاق والدك من الموبقات في هذه الرحلة، وكم تمنى لو يعود ليترجى آدم حتى
يُعيده إلى
كنفه،
لكن الكبرياء والكرامة منعاني من ذلك، فغوصتُ في الجحيم حتى أصل لمبتغاي، في طريقي
نشبت
الشياطين
أظفارها في جسدي حتى مزقت لحمي تمزيقًا.
حينما
ذكر والدها الشياطين تذكرت كل وغدٍ لعين في مجلس ادارة ثمرة الجنة، ثم تابعت
القراءة لتسقط عينيها
على
هذه الكلمات:
-كان
الجوع طاغيًا أثناء رحلتي فتغذيت على اللحم الذي مزقه الشياطين من جسدي، حينها فقط
أدركت أنني
بتُّ
غير قابل للكسر؛ فما تحطم لن يعود أبدًا، فلملمت حطامي وارتديته درعًا لأُكمل دربي
المستقل عن
امبراطور
الأعمال آدم بحثًا عن مقارعته والتساوي معه.
((ماريا،
أنا هنا.))
انتشلتها
جملة دينا من غوص عقلها بين الكلمات، وقد أراحها بعض الشيء اعتراف والدها أن
الجحيم كان
جزءًا
من الرحلة.
بل
كان هو الرحلة التي خاضها ليصل إلى ارثه، لكن شيئًا واحدًا فقط أرادت أن تعرفه
بإلحاح غير موجود
في
المفكرات.
فنهضت
سريعًا وحثت الخطى إلى دينا تسألها:
-كم
كان عمر أبي حينما انشق عن جدي آدم؟
دُهشت
دينا أن هذه هي أولى كلمات ماريا بعد ما لاقته في مجلس ادارة ثمرة الجنة، لكنها
سعدت بذلك؛ فلا
يبدو
عليها الهزيمة والانكسار، بل الفضول وبصيص خافت من الأمل.
أجابتها
دينا بهدوء:
-في
السيارة عزيزتي ماريا، سأخبركِ بقصة مثيرة لكن بالسيارة.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة