BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

 




(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))


"جبر الخواطر"

 

جرى عمرو مسرعًا ليلحق نورا التي سقطت فاقدة الوعي، شعر بمسؤولية كأنه المتسبب في الحادث.

حاول أن يجعلها تفيق، مستخدمَا قطرات ماء من زجاجة ألقاها له أحد زملائه.

صاح آخر:

-فلنحملها إلى وحدة الرعاية الصحية بالكلية.

 

نظر له عمرو مذهولًا كأن عقله لم يستوعب الصدمة بعد، بينما صاحت إحدى الفتيات:

-الوحدة مغلقة، لا يعملون في أيام الاختبارات.

نظر لها عمرو في انفعال، وقال في حزم:

-إذن فلننقلها إلى أقرب مشفى..

 

 رد الشاب مرة أخرى:

-يوجد مشفى على بُعد ثلاث شوارع من هُنا.

صاح شاب أخر:

-معي سيارة، يمكنني المساعدة..

 

أومأ له عمرو برأسه موافقًا، كان بين الجميع سابق معرفة سطحية على أثر تواجدهم في نفس الجامعة طيلة الأربع سنوات الماضية، هَم الشاب الأول بمساعدة عمرو على حمل نورا، لكن الأخير استوقفه بنظرة حازمة من عينيه، ثم قام بحملها وحده. 

 

كان حجمها يُماثل عُشر الأثقال الذي اعتاد حملها.

فسار بها في خفة الى جوار الشاب الذي تطوع بالتوصيل.

شعر عمرو بالقلق البالغ على نورا، فهي رغم ملاحقتها المستمرة له ومحاولته الدائمة في الهروب منها.

 

لكنه يكنّ لها في أعماقه التقدير والمعزة نظرًا للعشرة التي جمعت بينهم

كما أنه يعلم جيدًا، أن والدها منفصل عنهم وغير متواجد في الصورة..

 

في مثل ذلك الموقف تحتاج  إلى وقوفه بجوارها، فوالدتها وأخواتها البنات لن يستطيعوا أن يقوموا بهذا الدور الآن.

نفض أفكاره حينما وصلا إلى المشفى،  قام بحملها مرة أخرى حتى قابلته إحدى الممرضات التي قامت بإحضار سرير نقال وقامت بنقلها عليه، بعد ان استفهمت الحالة من عمرو.

 

جلس عمرو على أقرب مقعد يلتقط أنفاسه، بعد أن شكر الشاب الذي قام بتوصيلهم..

حاول أن يستوعب ما حدث في الدقائق الاخيرة،  لكنه تذكر شخصٍ هام كاد أن ينساه في غمرة الاحداث، فأخرج هاتفه في سرعة وطلب رقم مريم بعد مرور قرابة الساعة على اختفائها من مقهى الجامعة.

*************************

تحسنت حالة شهد الصحية وكاد الدكتور المُتابع أن يسمح لها بالخروج، لكن الطبيب النفسي المختص أخّر مغادرتها حتى يطمئن على حالتها النفسية والمزاجية؛ فمعظم المرضى بعد خروجهم من المشفى يتهاونون بضرورة متابعة العلاج النفسي على الرغم من أهميته، مما يُساهم في تدهور الحالة خاصة اذا كانت مماثلة لحالة شهد.

 

جلست شهد في غرفتها بعد مغادرة دكتور أنس، لتستعيد كلماته التي بعثت فيها الثقة من جديد.

شعرت أنها في حاجة إلى تسجيل كلماته في عقلها لاستعادتها وقتما احتاجت.

 

تذكرت كلماته الأخيرة.

حينما حاول دفعها للاهتمام بموهبتها، التي طالما ترددت في التحدث عنها:

-شهد.....من الواضح أن لديكِ موهبة الكتابة.....فلماذا لا تحاولين تطويرها؟

يَسهل ذلك الآن...يوجد الكثير من الورش التي تُدعم الكاتبات الصغار وتنمي مواهبهم بالدراسة.

يمكنك الاستعانة بهم، لكن الأهم من ذلك.

 

نظر لها باهتمام وقطع حديثه، كعادته ليُكسب صوته نبرة ثقة وتوكيد:

-ألا تنتظري رأي مَن حولك...

يجب أن تؤمني بموهبتك من داخلك وتتمسكي بالحُلم بها....هذا حلم يسهل عليكِ رسمه وتحقيقه...

 

تذكرت غمزة عينيه في محاولة منه لمحاكاة سنها، عندما استطرد بصوته التي اكسبه تلك المرة  نبرة حنان:

-كما يمكنك نقله إلى عالم أحلام اليقظة خاصتك أيضًا.

ابتسمت رغمًا عنها وشعرت بالأمل يتجدد بداخلها....

 

تذكرت محاولاتها في الكتابة التي تحدثت عنها مع والدتها لكنها لم تلقَ ترحيبًا منها...فأهملت الموهبة نتيجة لذلك..

بحثت حولها عن قلم وورقة ولشد ما ادهشها أنها وجدت دفتر في رفٍ بجوارها يشبه دفتر دكتور أنس كما وجدت قلم إلى جواره أيضًا، فأخذتهم محاوِلة ان تكتب.

 

لكنها توقفت لتتذكر كلماته الداعمة:

-سنقوم بتغيير الواجب اليومي إلى الآتي 

نظرت له وهو يقوم بفتح دفتره ويدون ملحوظة ثم يعود ليستدرك في اهتمام:

- أُريدك أن تَكْتُبي.....عن أي شئ ترغبين في التحدث عنه.. ولنبدأ بالمشاعر.

 

تذكرت نظرة عيناه وحماسه وهو يستطرد بابتسامته الودودة:

-إحساسك.....أو فلنقل إحساس أي شخصية ستقومين برسمها من خيالك....

ولكن بشرط.....ستقومين بقراءة ما تكتبين ليّ بنفسك.

 

فتحت شهد الدفتر وتملكُها روح جديدة ترغب في التعبير عن ما بداخلها برؤية مختلفة.

رؤية حملت طابع الثقة المستوحى من طبيبها النفسيّ..

***********************************

خرج آسر من منزله متجهًا إلى الجامع لأداء صلاة المغرب، دخل بقلبٍ مكلوم....وخرج بنفسية أفضل بعض الشيء،  تقابل مع صديقه أثناء خروجه فحياه بابتسامة:

-أين كنت؟! لم أراك منذ فترة....

 

أومأ صديقه برأسه وقال:

-شاركتْ في معسكر تنمية وعي الشباب الديني والوطني في جامعة السويس.

لمعت عين آسر معجبًا بما سمعَ:

-ما شاء الله......مجهود نافع بإذن الله.

 

-اللهم أمين، لكني عدت لبدء امتحانات نهاية العام....نسأل الله التوفيق.

ابتسم له آسر وشعر بالغيرة، سأله صديقه في اهتمام:

-كيف حالك؟....وما أخبار اختباراتك؟ هل بدأت؟

 -نعم، منذ أسبوع...

 

-وكيف كان حالها؟ 

-جيدة أعتقد.....

نظر له آسر بعد انتهائه من اجابته وبدا عليه التردد، فاستحثه صديقه قائلًا:

-أشعر برغبتك في التحدث، لا تتردد...أسمعك....

 

شعر بالحرج لكنه حاول انتقاء كلماته، لعله يبحث عن الراحة في ردود أفعال صديقه الهادئة التي تنير له الطريق وتًريح ضميره.

-يتملكني الشعور نحوها، وأحاول الاقتراب منها لكن....

نظر له صديقه، فاستطرد:

-اشعر بأنها لا تبادلني نفس المشاعر...

 

لم ينقل الصورة كاملة.

لم يتحدث عن وجود عمرو في الصورة، كما اختار من قبل أن يتجاهل وجود محمود.

خوفًا من حكم صديقه على مريم بالخطأ...نظر له صديقه وهز رأسه في عدم رضا، قائلًا:

-ما بالك تتحدث عن المشاعر كأنك ارتبطت رسميًا بها....

 

نظر له آسر مستنكرًا، فاستطرد صديقه:

-يا أخي ربما تبتعد عنك لتصون نفسها، وفي ذلك هي محقة....

 

نظر له مطولًا، ثم قال كأنه ينهي حديثًا يغضبه:

-فلتستخير الله...وسيرشدك للصواب....

نظر له آسر واستكمل سيره وقد نوى أن يمتثل للأمر.

 

تجاهل إحساسه بوجود شخص بينه وبينها.

صدّق قلبه حديث صديقه الذي لم يتلقى منه الصورة الكاملة.

جعله العشم يتغافل إحساسه الأول بالشك، كما لم يسمح لعقله بتقييم الموقف بشكل منطقي.

 

ودعه عند المنزل وصعد، وما آن دخل غرفته، حتى قام بمحاولة الاتصال بها، لم تجيب في أول محاولة.

لكنها أجابت حينما عاود الاتصال،  فابتسم متحدثًا:

-مريم، كيف حالك؟!

 

بدا صوتها مرحًا لم يتبين نبرة الانفعال به، فاستكمل في مرح:

-وأنا أيضا، رغبت في الاطمئنان عليكِ....فقد رحلت مسرعة مع عمرو..

استمع إلى صمتها قبل أن تجيب وقد بدا له تأسفها واضحا...

 

صمت قليلًا مترددًا، ثم قال وقد فشل في كبح جماح فضوله:

-خير.....هل حدث شئ يستدعي القلق؟

استمع في اهتمام وقد راقت له الإجابة وبساطتها. 

 

 فابتسم قائلًا محاولًا خلق فرصة جديدة:

-أتمنى أن تسنح ليّ الفرصة للتحدث معك المرة القادمة...

 

بدا له صوتها مرتاحًا ومختلف عن تجهمها معه في صباح نفس اليوم....فشعر بسعادة داخله....لكنه أطال الصمت على أثر تفكيره بها وشعوره بالراحة لوجوده معها، انتبه إلى محاولتها لإنهاء الإتصال

بكلماتٍ مقتضبة خجولة، فحاول اطالته بعض الشيء... 

-مريم....

 

صاح باسمها مناديًا ليستوقفها، بحث عن كلمات تعبر عن ما يشعر به لكنه لم يجد سوى الصمت والرد على طلبها، فقال بحنان اعتادت أذنها عليه:

-وأنتِ أيضًا اعتني بنفسك.....من أجلي...

 

قال كلمته الأخيرة بصوت خافت لم تستمع هي إليه، أغلق الهاتف حين فعلت هي ونظر إلى شاشته مبتسمًا، وقد شعر بعشم بداخله.

تجدد كما يتجدد دومًا على أثر أمل زائف...

عشم دفعه دفعًا إلى تغافل الامتثال لطلب صديقه بأداء صلاة الاستخارة.

فقد عاش الوهم وبات ليلته يستعيد حديثهم القصير مرارًا وتكرارًا ليزداد عشمًا وتعلقَا بها.

وغاب عقله عن التفكير أو تدبر حالته كما اعتاد.

**********************************

قبل ذلك الوقت بقليل....

التفتا الصديقتان حينما رن جرس هاتف مريم، ليتأملا الشاشة في لهفة.....حركت مريم رأسها في أسف وبدا على يمنى الاستياء حينما لمحت اسم آسر.

تجاهلت مريم الرنين، بينما قالت يمنى تستكمل حديثهم في لوم:

-أنت لا تعلمين ما الذي حدث؟!

 

ردت مريم في سرعة وبعصبية:

-ما الذي حدث؟ مؤكد أنه شعر بحنين فذهب لمصالحتها، كان يبدو عليه الأسف. 

-مريم، لا تكونِ ظالمة وانتظري حتى تستمعين إليه....

 

سادهم الصمت قليلًا قبل أن يرن الجرس مرة أخرى.

تنهدت مريم والتقطت الهاتف لتُجيب أمام عين يمنى اللائمتين:

-ألو؟!

 

حاولت أن تكسب صوتها بعض الود، فحدقت يمنى بوجهها باستنكار، وعقدت ساعديها وهي تتابعها في غضب:

-بخير، كيف حالك أنت؟! 

 

 ظلت محدقة بوجهها تتابع تغير نبرة صوتها المفتعل وهي تتحدث إلى آسر وتحاول إكساب صوتها بعد الود الذي ظهر ليمنى مفتعل وغير طبيعي، استمعت مريم في تململ وظهر على وجهها الانكسار وهي تُجيب:

- نعم، أعتذر....فقد بدا أنه في حاجة إليّ...

 

استمعت إلى صوت محدثها، ثم شعرت بالضيق وهي تُجيب في لهجة لم تستطع إخفاء الحزن بها لكنها أضافت نبرة لامبالاة في نهايتها:

- لا، أتضح أنه أمرًا تافهًا....

 

تنهدت وابتسمت في ألم وقالت بلهجة خالية من المشاعر:

- بالتأكيد....ولم لا؟...أراك في الاختبار القادم...

 

شردت بتفكيرها تتساءل، لماذا لم تسمح لآسر بالاقتراب منها كما فعلت مع عمرو؟، لماذا يهوي قلبها دومًا الشخص الخطأ؟، ما عيب آسر سوى أنه شخص طبيعي لا يوجد به تعقيدات مثل من سبقه....

أزاحت تفكيرها بعيدًا عندما شعرت بأنفاسه مازالت تتردد عبر الأثير.

فقالت في حرج لتُنهي المكالمة:

- أعتني بنفسك....أراك على خير.

كادت أن تغلق الخط لكن استوقفها صوته وهو ينطق باسمها، فانتبهت لكلماته المودعة، فقالت ببساطة:

-بالتاكيد

 أنهت الحديث ثم أغلقت الخط.

 

ظلت يمنى محدقة في وجهها بصمت، ثم قالت لها في حيرة:

-هلا تخبريني ماذا تفعلين؟ 

حركت مريم رأسها في لامبالاة، ثم قالت:

-لم أفعل شئ، كنت فقط أجيب على هاتفي.

 

-وهل هذا وقت مناسب لاستقبال مكالمة من آسر...

تأملتها للحظة ثم استطردت في تساؤل:

-ماذا يُريد؟!

-لا شئ، أراد الاطمئنان عليّ، فقد غادرته بأسلوب غير لائق..

 

تركتها مريم وتظاهرت بالانشغال بممارسة الألعاب الرياضية بينما ظل عقلها شاردًا حائرًا قلقًا...

أما يمنى فقد أحست بالقلق على صديقتها، فهي تعلم جيدًا أنها أقدمت على الرد على مكالمة آسر لغرض ما تنشد إليه.......

تأملتها من بعيد وتنهدت في صمت، ثم أخرجت هاتفها لتتفقده لعلها تجد رسالة من عمرو.....

*******************************

 

بعد مرور بعض الوقت.

جاء والد شهد في موعده كالعادة

لكن قبل أن يخطو داخل غرفتها قابله الضابط المختص بمتابعة قضية شهد في طريقه خارج غرفتها، تفاجئ به مصطفى فانتبه، وما آن رآه الضابط حتى قام بتحيته بأدب:

-السيد مصطفى آهلا بك، كيف حالك؟!

 

أجابه مصطفى في حيرة، ولم يستطع أن يمنع نفسه من سؤاله:

-سيادة المقدم، لماذا لم تخبرني بأنك قادم؟!

أجاب المقدم ببساطة:

-كنت أرغب في مقابلتها بشكلٍ منفردٍ، أعتذر لك.

 

هَم بالمغادرة، لكن استوقفه والد شهد ثم سأله:

-كيف حالها؟ وماذا قالت؟....

تردد المقدم في قص ما حدث، لكنه تذكر إنها قاصر فعاد إلى والدها وقام بإخباره بما حدث بكلمات مقتضبة، فما أن أنهى حديثه حتى بدا على وجه السيد مصطفى كل أمارات الحيرة والاستنكار. 

********************************

خرجت يمنى ومريم من صالة الألعاب الرياضية، وفي أثناء طريقهم إلى المنزل، رن هاتف يمنى الجوال، فترددت قبل أن تجيب.....حتى انقطع عن الرنين، فنظرت لها مريم بتساؤل، فقالت في حرج:

-أنه هيثم.

 

رن الهاتف مرة أخرى فأشارت لها مريم كي تجيب، قائلة:

-أجيبِ على هاتفك، وكفى تضييع الوقت معي.

بادلتها نظرة استياء ثم أجابت في رقة:

-ألو، آهلا هيثم كيف حالك؟!

 

صمتت قليلًا لتستمع إليه، ثم قالت:

-ماذا؟! الآن.....لكن لم تؤكد أنك ستسافر اليوم.

اضطربت نظراتها وظهر على صوتها القلق:

-لا، لم أصل إلى المنزل بعد...

 

التقت عيناها بمريم التي بعثت نظرة لامبالاة وخطت تسبقها إلى الأمام،  لتتيح لها حرية التحدث دون رقابة..

فقالت يمنى في خفوت:

-يمكنك التحدث الآن، على ما اعتقد. 

 

جاءها صوته عبر الهاتف مضطربًا:

-شعرت بالرغبة في أن أخبرك اولًا، بأنني سأقابلها اليوم.

صاحت باستنكار:

-لم؟ وما دخلي أنا بهذا الموضوع؟

 

أجاب ببساطة:

-ماذا؟! أنتِ شريكتي في هذه الخطة...

شردت ببصرها تتساءل، لماذا يوليها الاهتمام بالإلمام بتفاصيل حياته كأنها شخص مهم...رغم عدم اعترافه لها بذلك....استمعت لكلماته بشعور ممتزج من الحيرة والنشوة: 

-لا أشعر بالراحة حين أخطو خطوة دون أن تكونِ على علمٍ بها.

 

ابتسمت ثم قالت:

-هل تحتاج إلى دعمي لاستكمال هذه الخطوة ومقابلة زوجة والدك التي تعشقك؟!

قالت سؤالها بتهكم واضح، كأنها ترغب في توصيل شعورها بصعوبة أداء هذا الدور،  فابتسم هو نافيًا:

-لقد تقمصت الدور أثناء طريقي إلى هنا، ولكن...

 

قطع حديثه وصمت لحظات، ثم قال في تأثر:

-لكني رغبت في استرجاع شعور البراءة والنقاء بالتحدث إليكِ قبل أن اصعد لمقابلتها.

شعرت بالغبطة لمقارنته لها بهذا الشكل، فابتسمت قائلة:

-احذر، فأنت تخاطر بعودة هيثم الرومانسي الحالم...

 

صمت حائرًا بينما وصلت هي إلى منزلها تلاقت عيناها بعين مريم، فاعتذرت له لتتهرب بإنهاء المكالمة:

-هيثم، سأذهب الآن، وفقك الله.

 

أغلقت الخط بسرعة قبل أن تنجرف في الشعور باللحظة، فقد باتت كلماته المبهمة تمثل هاجسًا يستدعي أحلامها به دون داعي ويجعل مقاومتها لشعورها بحبه تخور وتضعف رغمًا عنها.

 

نظرت لها مريم باستنكار، متأملة ملامح صديقتها التي أظهرت مزيج من الفرح والحزن معًا، فقالت في دهشة:

-ماذا بكِ؟ هل اعترف أخيرًا؟ هل ترغبين في التحدث؟!

 

حدقت يمنى بوجهها، ثم قالت:

-نعم أرجوكِ...عن أي شئ سوى هيثم.

قالت جملتها وخطت داخل البناية لتتهرب من نظرات شك صديقتها لها.

********************************

دخل والد شهد غاضبًا متأمل ملامحها الساكنة لحظات، شعر بالحيرة لما سمعه لتوه فاقترب يسألها في فضول:

-شهد.....كيف حالك؟!

 

فتحت عيناها في بطء وابتسمت له في حنان قائلة:

-بخير،  كيف حالك يا والدي العزيز....

لم يجيبها، بل تنهد قائلًا في انفعال:

-لماذا فعلتِ ذلك؟!.....وتنازلتِ عن القضية؟!

 

انتبهت شهد لسرعة تناقل الأخبار،  فمطت شفتيها في ضيق وقالت في هدوء:

-لأنني الوحيدة المخطئة....

-ماذا؟!......كيف ذلك؟!

أخذت نفس طويل قبل أن تقول له:

-كُنت أسير شاردة ولم انتبه عند مروري الطريق....لم يكن ذنبه.

 

تأمل ملامحها محاولًا أن يستشف الحقيقة، فأغمضت عيناها وأومأت برأسها:

-اطمئن يا والدي.....لم أكن لأُضيّع حقي...لكن ما ذنب الشاب الذي صدمني في أن يُسجن وتضيع سنة دراسية عليه.

 

تأمل ملامحها وشعر بالشفقة على حالها، قال في اهتمام:

-لقد كدت تفقدين حياتك بسببه..

 

حركت رأسها نافية:

-كنت احتاج إلى بعض التركيز وقتها...

-هل أنتِ واثقة من ذلك؟!

-نعم، لا تقلق.

 

صمت قليلًا ثم تساؤل في حيرة:

-كيف تشعرين اليوم

اشرق وجهها بضحكة صافية، ثم قالت:

-بخير....أشعر بأنني ولدت من جديد.

 

ابتسم لها ابتسامة واسعة تشبه ابتسامتها كثيرًا، ثم قال في مرح:

-إذن سأطلب من الطبيب أن يأذن بخروجك.

تجهم وجهها ولم يشعر بتحمسها لاقتراحه....كأنها لم تفتقد المنزل أو تشتاق إلى العودة إليه. 

 

بالفعل لم تشعر بالأمان كما شعرت به هنا، مع الدكتور أنس وجلساته التي كانت تخشاها في البداية لكنها أصبحت تنتظرها بفارغ الصبر.

تذكرت منزلها.

لم تشتاق إليه....تحكُّم والدتها....دروسها المتراكمة وقرب اختباراتها النهائية.. 

 

كل ملامح حياتها تدفعها دفعًا لتطيل البقاء في المشفى ومتابعة العلاج.....فعلاجه النفسي يُثمر الكثير 

من الأمل بداخلها....أمل افتقدت الشعور به من قبل وشعرت بالخوف من إن يتلاشى بداخلها مجددًا.

******************************

خطى هيثم إلى داخل الشقة الفاخرة يتأملها ثانية في حسرة، ارتمت في أحضانه المرأة الجميلة التي فتحت له الباب، مرتدية ملابس تُظهر أكثر ما تخفي بألوان صريحة فاقعة.

حاول افتعال الاشتياق إليها، في البداية شعر بصعوبة ذلك...لكن بمرو الوقت استطاعت هي بمهارة إذابة تحفظه وتماسكه، فهي في النهاية امرأة جميلة تعرف جيدًا كيف تُغري أي رجل.

 

جلسا أمام منضدة بها الكثير من الملذات المختلفة، بينما اقتربت لتلتصق به في جرأة...

ثم مدت يدها لتتمسك بيده قائلة في هيام:

-افتقدتك كثيرًا.....لا أصدق أنني أخيرًا أراك أمامي.

 

-وأنا أيضًا....كيف تزدادين جمالا وحسنًا هكذا؟!.

طبعت قبلاتها على وجهه، فحاول ردعها قائلًا بضعف زائف:

-تمهلي، فأنا لا استطيع المقاومة أرجوكِ.

 

-وما الداعي لذلك، فلتفعل ما يحلو لكِ...أنا لا أراك كل يوم...

بادلها القبلات وهو يشعر أن مقاومته تنهار تدريجيًا، فحاول إبعادها برفق، ثم قال:

-فلنتحدث أولًا....كيف حالك؟! هل أنتِ بخير؟!

 

نظرت له تتأمل ملامحه في إعجاب، ثم قالت:

-لا أدري....

 

سألها في سرعة ليُفرض حديثًا قد يمهله بعض الوقت:

-ماذا بكِ؟!

نظرت بعيدًا ويدها لاتزال تلمسه، ثم استكملت:

-لقد بدأ زوجي يشعر بتغير حالي معه...

 

نظر لها هيثم ولمعت عيناه لكنها لم تلاحظ، فاستمع في لهفة:

-لا استطيع إخفاء مشاعري بعد الآن...

 

نظرت له فجأة فتظاهر بالقلق وهي تستطرد:

-فأنا أعشقك حقًا....لم أعد قادرة على التمثيل وأرغب في الانفصال عنه.

تنحنح هيثم وقال في حيرة لم يستطع إخفاؤها:

-وهو؟! هل شعر بشيء؟

 

أومأت برأسها قائلة وهي تنظر اليه:

-نعم، يشعر بالشك.

يجب أن نأخذ حذرنا.....إذا قام بمراقبتي...حتمًا سيؤذيك.

 

نظرت له وبدا عليها الخوف، بينما شرد هو بعيدًا وقد شعر أنها تتحدث عن شخص آخر.

والده يؤذي....كم تغيرت صورته كثيرًا في عينيه!...نظر من بعيد إلى صورتهم معًا...يحاول تخيل أنه شخص آخر مختلف عن والده الذي رباه...شعر بصعوبة إحساسه المُربك.

 

ففي هذه اللحظة هو يقاوم أمرأه جميلة تتحين الفرصة للاستفراد به، كما أنها تتحدث عن والده الذي بات يشكل خطرًا يجب عليه أن يحذره.....أغمض عيناه محاولًا استحضار صورة يمنى لعلها تُذكره ببعض النقاء..

 

فشعر بأنه يزداد نضجًا كما تزداد إرادته لمقاومة امرأة شديدة الجمال تعرض نفسها عليه بكل جراءة ودون حذر؛ فأبعدها برفق بعد أن طبع قبلة على وجنتها، ثم قال:

-إذن.....لن أستطيع أن  أطيل البقاء معكِ....

 

نظرت له وهو يقف مغادرًا وحاولت ردعه، لكنه استطرد في حزم:

-غانيا، فلتحسمي موقفك معه أولًا حتى يتبين لنا حياتنا سويًا....

-لن يتركني بسهولة كما تتخيل.

قالتها بنبرة خوف وقلق لم يعهدها بها من قبل، وقد غابت ابتسامتها تمامًا.

 

أما هو على النقيض.

شعر في تلك اللحظة أنه يرغب في مواجهته وجهًا لوجه دون خوف، وبقوة لم يعهدها بداخله من قبل، أو يتصور أنها موجودة في أعماقه...لكنه شعر بالغضب والعجز. 

غضب من خيانته لوالدته ولصورة الأب الذي اعتاد عليها منه.....ولسمعة الدكتور التي لم تلطخها شائبة من قبل.


***

مواعيد النشر: الثلاثاء

((لقراءة الفصل الثاني والعشرين إضغط هنا))

تعليقات