(((لقراءة الفصول والأعداد السابقة اضغط هنا)))
الهاربة
أكتب هذه الكلمات حينما كنت شاباً يافعاً؛ فتاً عشريني
كسول، له عينان ذابلتان كأوراق الشجر في الشتاء،
وشعر ثائر مبعثر، و ذقن رثة و قامة معتدلة و جسد نحيف.
لا أتعاطى شيء لا تقلق و كبرهان لك فإن بشرتي البيضاء لا
يبدو عليها الشحوب أو علامات الادمان، فقط
هذه الملامح الذابلة جزء مني لا أرغب في تغيره ولو توشح
الجميع بلباس الحكماء و نصحوني بالإعتناء
بنفسي قليلاً، فأنا مرتاح هكذا.....
لكن هذا لم يكن مريحاً بالنسبة لمديرتي البدينة في
العمل؛ هذه المرأة المكتظة بالدهون كانت تعاملني بإزدراء
ولا تكف عن تذكيري كلما تقابلنا بأنها مديرتي في العمل وأنا
مجرد جرذ ذليل خاضع لسلطتها.
لكنها كانت مخطئة بشدة؛ فإن كبحت لساني اللاذع عدة مرات
فلن أستطيع تكبيله للأبد.
وقد كانت تستفز هذا اللسان المتنمر اللعين بمختلف الطرق؛
فلم تكف عن الصياح في وجهي والضغط
عليّ وهي تأكل حبَّات السوداني المملح خلف مكتبها،
فإنفلت هذا الوغد من فمي و سألها بتؤدة:
-أتدرين بما تذكرني إدارتكِ الحكيمة لنا؟
أخذتها الخيلاء وتهللت أساريرها وهي ترفع رأسها متسائله:
-بماذا؟
فأجبتها بكل جدية:
-بفيلٍ ولوه إدارة الغابة، فرفع خرطومه عالياً وصاح
بالجميع للإسراع في العمل بينما جلس هو يتناول
السوداني ليزداد وزناً، فسألوه بإعتراض عن ما يفعل
فأخبرهم بإزدراء أن هذه وظيفته.
هبّت واقفة فتراقص المقعد من أسفلها طرباً لإزاحة هذا
الثقل الوبيل عنه، بينما كشرت عن أنيابها و إحمر وجهها و هي تصيح بي:
-سأريك كيف يدهس الفيل السمين هذا الجرذ بذيء اللسان و
يجعل منه عبرة لباقي الحيوانات.
هكذا خرجتُ من مكتبها منتصراً، في حين رمقني الجميع
بنظرات السخرية والحسد؛ فإنفلت لساني مرة أخرى ليلدعهم كالأفعى قائلاً:
-الرئيسة تناديكم لتجعلني عبرة لكم.
أدركوا أنهم المقصودين بالحيوانات فلم يتعاطف معي أحد،
بل حرقوني بأعينهم في غفلة عن أنني لست من
سبهم وحط من قدرهم.....
هكذا قابلت صديقي سمير في هذا المقهى الشبه مهجور، لأحصل
على بعض الضوضاء الجميلة.
فسمير من أكثر الأشخاص المريحين الذين يُمكن أن تقابلهم؛
فهو مستمعٌ جيد، لا يُسدي لك النصائح
كفيلسوفٍ يوناني، ولا يُحمسك دون أن يُفيدك بشيء كمحاضري
التنمية البشرية.
فقط يستمع إليك ويبتسم على نكاتك ويحاول أن يجد لك بعض
الحلول المنطقية إن كانت لمشكلتك حلول؛
فهو من أخف الناس على قلبي و إن كان سمين الجسد هو
الآخر.....
أخذَنا الحديث عن هذه المديرة ذات الزلوم الطويل، فسألته
بلا مبالاة لمشاعره:
-ماذا إن أخبرتك بمزحة عن الأفيال هل سيضايقك الأمر؟
قطب جبينه مجيباً بتساؤل:
-لماذا سيضايقني الأمر، فهم ليسوا أقاربي كما تعلم؟
إبتسمت من بساطته قائلاً:
-كما أنني لا أمت للجرذان بصلة، فليست لدي هاتان
القاطعتان البارزتان في أسناني.....
ثم برقت عيناي بشرار الشر و أنا أتابع:
-ليتهما كانتا لدي؛ لكنتُ غرزتهما في......
قاطعني سمير ضاحكاً:
-أين؟
أنهيت مشروبي و هممت للذهاب مجيباً بسخرية:
-في الكابوس الضخم الذي يعتلي هذا المقعد المسكين
يوميًا؛ فلم ترى و جنتاه وهما يتوردان طرباً لنهوضها
عنه.
ثم تململت و فردت جسدي كالقطط وأنا أضيف:
-غداً بداية حياة جديدة و البحث عن عملٍ جديد ، أتمنى أن
أجده سريعاً فأموالي على وشك النفاد.
كانت هذه كذبة لا داعي منها؛ فشخص متذبذب في عمله مثلي
لا يجب أن يكتفي بمصدر واحد للأموال بل
يجب أن يكون هناك مصدر آخر إحتياطي وإن كان أقل من دخل
عملي لكنه يفي بالغرض.....
لكن يالا العجب أنا سعيد؛ فقد حصلت على مستحقاتي و
سأستطيع أن أُحضر لنفسي وليمة عظيمة على
شرف حياتي الجديدة....
هكذا إبتعت شطائر (الشاورما) التي أعشقها وأُنشد لها
شعراً، ثم تناولتها بينما أطالع احدى الروايات التي غصتُ بأعماقها ونسيت كل شيء
لعين مررت به اليوم، و سرعان ما وجدت نفسي أغط في نومٍ عميق.....
***
صراع محتدم بين إمرأتين، أو للدقة رجلين لهما مظهر
النساء، أو شيء آخر ليس برجلٍ أو امرأة.....
لهما قامات فارعة قد تصل إلى السقف طولاً، وأجساد نحيفة،
وأظافر بارزة كالسكاكين يمزقون بها بعضهم
البعض بلا هوادة......
كان بجسدي شلل يمنعه عن الحركة، وعيناي نصف مغلقتين
كأنني لم أستيقظ بعد، أو في مرحلة ما بين
النوم و اليقظة، لكن الرعب كان شديدًا و الخوف كان
ضاريًا، بالأخص حينما اقترب أحد هذان الشخصان
مني و رمقني بعينيه الموحشتين المتفرستين كأنه
يتفقدني.....
كانت عيناه جاحظتين مليئتين بالشعيرات الدموية المتنافرة.
مد أظافره نحوي، فارتعدت فرائصي وشعرت بهذا الشعور من
الرعب المميت حينما كنا أطفالاً نتأمل الظلام
في خوف كأن هناك من يترقب اللحظة المناسبة للإنقضاض
علينا، لكن ها هو يقف أمامي الآن، يدنو مني
بحرارته التي كادت تحرقني و تحولني إلى رماد...
((إنه ليس لكِ))
بمجرد أن إستمعت إلى هاته الجملة دار كل شيء في ذهني و
تبعثرت حواسي بين الحرارة و البرودة،
الصرخات المُعذبة المشؤومة القادمة من كل حدبٍ وصوب و
الغناء الذي لا ينقطع، الأجراس التي تدق
بصخب، مواء..
هناك صوت مواء خرج من بين كل هذا لأستيقظ عليه لاهثاً
بقوة كأنني كنت أركض أميالًا...
العرق يتصبب من كل شبرٍ بجسدي كأنني ناجٍ من أعماق
المحيط.....
شعرت ببرودة شديدة تعصف بي فلازلنا في الشتاء البارد، وهذا
دلالة على أن هذا العرق ليس منطقياً، ما
كنت لأعرق هكذا إلا لو دنت الشمس مني دوناً عن باقي أهل
الأرض لتحرقني، أو كان بجواري فرناً على
أوجه......
المواء الجريح المستنجد مرة أخرى، إنها قطة بائسة في
حاجة إلى المساعدة....
هكذا إرتديت سترتي الثقيلة و هرعت إلى الدرج لأتفقد أمر
هذه القطة.....
كانت ممددة الأرض كمن يحتضر، شديدة السواد متفحمة لدرجة
أنني كنت لأدهسها في غقلة لو لم تكن تموء
بصخب.
كبيرة الحجم في دلالة على أنها قطة بالغة، تسيل الدماء
من فخذها الخلفي الأيسر كأن كلباً متحرشاً قد نشب
أسنانه الشهوانية في ساقها.....
ترقرق لها قلبي فأنا عاشق بدرجة الافتنان للحيوانات،
أعلم أن الاعتناء بهذه القطة يتعارض مع تشبيه المديرة
لي بالجرذ النحيف، لكن ربما أنا جرذٌ طيب في النهاية....
هكذا إلتقطتها وأهرقت على قدمها بالمطهرات، ثم قطبت
جرحها وأطعمتها مثلثات الجبن التي أحتفظ بها في
الثلاجة.
ثم جلست جوارها أراقبها في فضول؛ فهذه القطة لها عينان
غريبتان شبيهة بالبشر في إتساعها كأنها بشري قد
سُخط ليكون قطًأ، وفرائها أكثر دكنة و ظلاماً من أي شيءٍ
آخر قابلته في حياتي.
لهذا كنت فضولياً للغاية معها، ولهذا عزمت على
تربيتها.....
تركتها تتناول طعامها و هرعت إلى الحاسوب لأكتب الحلقة
الجديدة لبرنامجي الاذاعي المسمى ب(الباحث) على منصات التواصل الاجتماعي......
دأبتُ على الكتابة لساعتين تقريباً ثم غطت في النوم مرة
أخرى، ربما هو الارهاق، لكن لما يريني الارهاق
هذا الشخص المقيت ثانية يقف إلى جواري......
لا أعلم لماذا أنا موقن أن هذا ليس بحلم وأنني لستُ
بنائم، ربما لأنني أشعر بكل شيء بوضوح؛ فهذا الشيء
ذو الشعر المتفحم الغزيرة يشرئب برأسه إلى الأعلى كأنه
يرمق شيئاً ما بسقف الغرفة....
مواء القطة ثانية يختلط بصوت الصرخات المُعذّبة التي
تصدر من شتى أركان المنزل كأنني سقط في حفرة
بأعماق الجحيم.....
على حين غرة شعرت بهذه اليد المثلجة تمسك بقدمي.
إنتصبت شعيراتي و تمنيت لو أستطيع الفرار لكن جسدي لم
يقتنع أنني مستيقظ بعد....
يد أخرى ترفعني من على المقعد كطفلٍ رضيع، وتُلقيني على
الفراش لأسقط عليه بوضعية المصلوب....
سلاسل غليظة تكبل أطرافي بها حرارة قد أحرقت جلدي، كل
هذا ولازال هذا الشيء واقفاً هناك متعلق ببصره
صوب سقف الغرفة.....
وددت لو أنظر إلى ما ينظر إليه لكن حتى عيناي لا تستجيب
سوى لرؤيته هو وحدة.....
مواء القطة مجدداً كأنها تنادي عليّ.
لا أدري أكان هذا بسبب حالة اللاوعي التي أعيشها أم أنني
استمعت إلى نبرة موائها تقترب للغاية من نطق
إسمي
(يوسف).......
ظلَّ جسد هذا الشيء جامداً متيبساً على وضع النظر للأعلى،
إلا أن رأسه استدارت بقوة وخشونة مُصدرة
صوت تهشمٍ عنيف وهو ينظر إلي.....
شعرت بجسدي يرتعش، والدماء تفر من أناملي رعباً و كرهاً
لهذا الشيء الذي تصرخ أركان الشقة
لوجوده....
((لا تحمي الملعونة التي فرت))
ظلت هذه الكلمات تتردد في أذني مراراً و تكراراً، في حين
حوَّل هذا الشيء جسده ليصير بإتجاهي، ثم سار
بخطواتٍ مترامية ثقيلة بها من الترنح ما يجعله شبيها
بالموتى الأحياء الذين يجرون سيقانهم....
دنى مني حتى صار بجواري مباشرة......
سقطت رأسه على صدري فجأة كأنها خُلعت من مكانها، فصرخت
بقوة لكن لم يخرج من فمي أي صوت....
كانت هذه الرأس تتلوى كسلحفاة سقطت على ظهرها فضربت
الهواء بأقدامها لتحاول النهوض.....
كان ملمس الشعر الأشبه بفراءٍ خشن كالأشواك يقبض القلب،
والأنين الصادر من محاولة الرأس للإعتدال
يحبس الأنفاس.
حتى إعتدلت الرأس أخيراً وصار وجهها إلى صدري، حينها
شعرت بعشرات السكاكين التي تنغز صدري
بقوة، كأنني أُلتهم من قِبل كلبٍ جائع و جد ضالته بعد
جوع السنين.....
شعرت بلحمي يُنهش وبدمائي المختلطة بلعابه تسيل، رائحة
منتنة مشؤومة تخترق أنفي كالجثث المحترقة.
الألم مهول لا يُحتمل؛ كأنك فريسة يتم إلتهامها حية
فتتمنى أن يلطف بها الصياد ويقتلها قبل إلتهامها لكنه
يتلذذ بتعذيبها.....
حتى توقف كل شيء بغرز الرأس لأنيابها في جسدي، ثم قام
هذا الشيء بجذبها بقوة ليتمزق الجلد وتتناثر
دمائي و أشعر بروحي وقد سُحبت من جسدي.....
مواء القطة من جديد يناجيني لأستيقظ، ملمس فرائها الناعم
يداعب وجهي، أنفاسها الحارة تلامس أذني...
هكذا إستيقظت لأجد نفسي ممدداً على الفراش، لا شيء
بجواري حتى القطة في مكانها حيث تركتها، ترمقني
بثبات ثم تعود لتناول الجُبن مرة أخرى.....
تحسست صدري فوجدت ملابسي سليمة و لم تتمزق، إذاً الجلد
لم يتمزق كذلك، لكن ما ألم الحروق هذا الذي
أشعر به؟
هرعت إلى المرآة ونزعت ملابسي لأرى هذا الجلد المحترق في
صدري قرب القلب في اليسار، وبوسط هذا
الجلد المحترق كلمات أعرفها جيداً فقد ترددت مراراً و
تكراراً في أذني (لا تحمي الملعونة التي فرَّت).
***
(((لقراءة الفصول والأعداد التالية اضغط هنا)))
جميلة
ردحذفأنتم من مصر؟
ردحذفبالتوفيق 🥰
ردحذف