(((لقراءة الفصول والأعداد السابقة والقادمة اضغط هنا)))
غسلت وجهي بالمياه وأعددت لنفسي كوباً من القهوة ثم جلست
على مقعد مكتبي أتأمل هذه القطة التي
تبادلتُ معها النظرات بصمت...
ليس بروداً مني أو أن ما شاهدته لم يرعبني، فقط لأنه لم
يغادر حيز الأحلام، إن ظهر هذا الشيء أمامي
الآن ولوح لي بيده قائلاً بسذاجة: هاي أنا حقيقي.
لفزعت وتقلصت حول نفسي أبكي في الزاوية لكن الأمر لم يكن
سوى مجرد حلم.
أو هذا ما أقنعت نفسي به متناسياً حروق صدري وإستيقاظي
لأجد نفسي بالفراش بعد أن كنت جالساً على
هذا المقعد، أو هذه القطة التي أيقظني فرائها وأنفاسها
رغم أنني وجدتها على بُعد مترين مني حينما
أفقت...
تنهدت ورشفت من القهوة ثم شرعت في تدوين هذه القصة
الشيقة التي نسجها خيالي، فيا لها من حلقة ملتهبة
تلوح في الآفاق؛ القطة هي جنية هاربة و قد حضر سجانوها لأخذها
وأنا من آويتها.
يا له من خيال ساذج لا يمت للواقع بصلة...
دأبت على الكتابة لثلاث ساعات كاملة وأرسلت المقاطع التي
كتبتها إلى فريق العمل، ثم فرغت لهذه القطة
التي لم تعد تموء أو تهز ذيلها أو تلعق مخالبها كأي قطة
حمقاء...
وضعت ما تبقى من شطائر ال(شاورما) أمامها وجلست بجوارها
أراقبها وهي تقضم قطع الدجاج ثم ترمقني
بنظراتٍ لها معنى و إن كنت لا أستنبطه...
إنتابني النعاس مرة أخرى رغم كوب القهوة الذي تجرعته،
فنهضت لأعد لنفسي كوباً آخر....
وسط إرهاقي غفلت عن أنني أضع من البُن ذو النوع الرديء
الذي أستخدمه حينما أكون في ضائقة مالية،
فصفعت جبهتي وعدت بغتة لأُحضر البُن الفاخر.....
و كانت المفاجئة؛ القطة تقف على قائمتيها كالبشر، ترمق
السقف و تحرك شفتاها كأنها تتحدث سراً بينما
صوتها يخترق أذناي اختراقاً.....
كلمات لا أفهمها وليس بعقلي طاقة لفهمها، فلم يستطع هذا
المسكين تدارك أن هناك قطة سوداء أمامه تقف
على قدميها الخلفيتين و تتحدث...
إنتبهت لوجودي فعادت إلى وضعية القطة البريئة ولعقت
مخالبها بينما تموء بوداعة...
حدث كل شيء في ثوان معدودة لكنه ترك تأثير الدهر على
مفاصلي؛ فقد إصطكت ركبتاي و خفق قلبي
وإرتعدت فرائصي، فأنا لا أحلم بل أنا مستيقظ للغاية وللأسف
لن أستطيع أن أُعطي لنفسي حججاً أخرى، إنه
وقت الرعب و
الإنهيار والصراخ كالفتيات والولولة كنساء الجنائز...
لكن نظرة أخرى من هذه القطة ذات الأعين البشرية أخرستني
وجعلتني أتابع طريقي لأحضر البُن؛ فأنا لا
أريد إستفزازها بعد هذه النظرات المتوعدة...
أتممت صنع القهوة بأصابعٍ مرتعشة وعدت حاملاً الكوب لأتابع
جلسات التأمل في وجه القطة...
وكعادة المصائب؛ لا تأتي فراداً أبداً فها ها هي
الكهرباء تُقطع والإضاءة تختفي وملمس فراء القطة يداعب
قدمي...
صرخت فزعاً ورعباً و انفلت الكوب من بين أصابعي ليصدر
صوت تهشمه أرضاً ومع هشيمه سمعت
صوت حشرجة قوية كشخصٍ حانق، فهرعت إلى النوافذ لأفتحها
فسبقني ضوء البرق من خلالها لأرى
إنعكاس القطة يكبر و يتمدد بدرجة كبيرة...
صُعقت والتفت إلى حيث تقبع ليسقط نظري على هذه الكتلة
السوداء الضخمة وسط الظلام، والعينان
اللامعتان التان تشعان شراراً.
الحرارة والشلل الذان أشعر بهما للمرة الثانية هما من
أكدا لي أن كل شيء رأيته في أحلامي لم يكن محض
أدغاث أحلام بل الحقيقة بعينها؛ فها أنا أُشل مرة أخرى و
أشعر بحرارة أغسطس بينما نحن في خضم
الشتاء، جسدي صار ثقيلاً أو أن هناك من يسحقني سحقاً لأنثني
على ركبتي و أجثي أرضاً....
ألسنة البرق تطرق مرة أخرى لأرى كل شيء بوضوح؛ شعرٌ أسود
غزير يُغطي جسداً بشرياً منتصباً على
قدمين معتدل القامة.....
توهج البرق مرة أخرى لأرى الشعر ينسلخ عن هذا الجسد كأنه
جلدٌ متساقط.....
دعوت الله أن يتوقف البرق و أن أظل جاهلاً بما يتكون
أمامي لكن دعائي كان متأخراً؛ فعلى ضوء البرق
رأيت هذا الشيء الذي كبلني بالسلاسل سابقاً يثب على
الحائط لينقض على ظل القطة التي باتت تمتملك
جسدًا بشريًا منسلخ الشعر.....
أثاث الشقة يتحطم و إن لم يكن بها الكثير، صرخات وعواء
كعواء الكلاب الذي استمع إليه قلبي قبل أذاني،
شعور بوجود العديد من هؤلاء الأشخاص لكن الظلام
يعميني.....
شيئاً ما تشبث بقدمي في استجارة له صوتٌ يتأوه ولغة لا
أفهمها لكن الصوت الذي ينطقها كان مبللاً به
شيء من الاستجداء....
تمزق بنطالي اثر سحل من كان يتشبث به وجره بعيداً عني...
باب الغُرف يُطرق بقوة، وقرعات صاخبة على الجدران كأن
المبنى سيسقط بالكامل على رأسي، صرخة
مستغيثة شبيهة بصرخات البشر قادمة من دورة المياه....
كانت صرخة فتاة تترجاني لكنني كنت مكبلاً بالأغلال وملصقاً
بالأرض، لكن شيئاً ما صاح بوجداني بقوة
قائلاً: تحدث، أعلمهم بوجودك، أرجوك تحدث لتنقذني.
هكذل صحت بقوة قائلاً بجسارة لا أعلم مصدرها: فلتبتعدو و
لتدعونا وشأننا، سأحرقكم جميعاً، سأتلوا الآيات
لأذيب جلودكم.
لا أدري كيف نطقت بهذه الكلمات أو كيف نطقت بها لكنها آتت
أُكلها سريعاً؛ فقد صمت كل شيء كأنهم
إنتبهوا لوجودي حقاً، وخيم الهدوء المريع الممزوج برعب
الجهل الذي لم يدم كثيرًا؛ فسرعان ما عادت
الإضاءة مرة أخرى لأجد القطة السوداء ذات الأعين البشرية
جالسة بهدوء في مكانها كأن لم يحدث شيء،
بل على وجهها
بعض علامات الراحة و الامتنان...
ملأت رئتي بالهواء قبل أن يغلبني الغثيان لأهرع إلى دورة
المياه وأُفرغ ما في معدتي...
كنت ألهث بشدة والعرق يتصبب على جبهتي منذراً بمرضٍ وشيك،
ربما الحمى أو نزلة برد، لكنني سأمرض
بالتأكيد، لكن الطريف في الأمر أن القطة قد أتت خلفي
لتتمسح بقدمي و تتدلل كأي قطة عادية، ربما هذا
تمثيل متقن تقوم به هاربة من الجن أوت إلى بشري لحمايتها
فالعهود بيننا وبين الجن صارمة كما تعلمون،
وربما هي مجرد قطة حمقاء أتت في الوقت الخطأ والمكان
الخطأ، لكن دعني أخبرك أن هذه القطة ظلت
برفقتي إلى أن
صرت أشيباً...
ليست هذه النهاية بالطبع فقد صادفت العديد من المواقف
المشؤومة مع هذه القطة، ربما أقص لك بعضها
يوماً ما إن لم تتركني الذاكرة كما هجرني الجميع...
لكن على أي حال دعني أذكرك بنفسي مرة أخرى...
أنا يوسف نور الدين؛ عجوز لكن لا أعلم كم بلغت من العمر
بالضبط.
تساقطت شعراتي وما تبقى منها إلتهمه الشيب لكن لا أدري
أيضاً كم عشت من السنوات.
فلعنتي هي التيه في الزمان و المكان و التنقل بين
الأشخاص.
فلست بالذئب المتوحد بل لي علاقات و أبناء لكن لا أعلم
عنهم شيء؛ فلعنتي تأسرني و تحرمني من أي شيء.....
لكن رغم مرارة الأمر فقد صار لدي وقتٌ كافٍ لأبعثر في
صندوق ذكرياتي العتيق لأقص لكم بعضاً من شبابي الطائش.
فأنا شخص خُلق من طينة الفضول فلا أرى بابًا مزدان
بالتحذيرات إلا طرقته.
كسول كدُب الباندا فيكفيني كوب القهوة و الجلوس في
الشرفة و تأمل الأمطار حتى تكف.
أو إحتضان أمواج البحر بمقلتي دون كلل لساعات قد تصل إلى
يومٍ كامل فأنا أُفضل الابحار في الخيال و الغوص في أعماقه عن التعامل مع هذه
البشرية الخرقاء التي أنا منها للأسف....
لا أدري من أين أقص لكم مشاكلي مع البشرية بالضبط؛ فقد
رُفضت في عديد الوظائف و رُكلت من باب الشركات كجروٍ أجرب بسبب لساني اللاذع.....
لكن هذه هي طبيعتي على أي حال، لا أستطيع أن أظل في
وظيفة واحدة لأكثر من أشهرٍ قليلة.
ولا أستطيع أن أمكث في مكانٍ واحد لأكثر من أيامٍ معدودة،
يُمكنك أن تقول أن روحي كطائرٍ مهاجر نبذه سربه ليتيه في السماء بلا توقف.....
على أي حال فلتُحضر كوب القهوة ولتُقلّب هذه الصفحات لتستمتع
معي، ولتعش كل لحظة فحتماً ستجد نفسك بين هاته الأسطر المليحة....
تمت
العدد القادم: بين قطرات الدماء
العدد القادم: بين قطرات الدماء
(((لقراءة الفصول والأعداد التالية اضغط هنا)))
بجنن
ردحذفبالتوفيق 🥰
ردحذف