BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

زيارة إلى وادي الغيلان-الفصل الخامس (محمد بهاء الدين)

 




(((لقراءة الأعداد والفصول السابقة اضغط هنا)))


أتذكر هذه الحقبة المظلمة المفعمة بالضباب؛ حيث كانت الشرطة منتشرة في أرجاء القاهرة للبحث عن هذا

السفاح الشره الذي يُمزق أوصال ضحاياه ويمثل بالجثث كفنانٍ يرسم لوحاته بالأحمر فقط.

 

رغم الجهل بهويته إلا أن الاتهام بالطبع لذكرٍ ما فدائما ما يكون الذكور خلف الكوارث، لكن فعلياً لم يتم

تأكيد أذكرٍ هو أم أنثى؛ فلم يره أحد ولم تنجح كاميرات المراقبة في إستشفاف تضاريس جسده ولم يُوجد شهود

عيان لوصف ملامحه، فقد كان يقتحم المنازل و يتسلق مواسير الصرف كبرصٍ مجتهد في عمله....

 

كيف أعرف ذلك؟

 

ببساطة لأنني رأيته....

 

في هذا اليوم الأغبر من شهر ديسمبر، كان الشتاء أشد و طأة من المعتاد، وهذا ما أسر الناس في منازلهم

و حرمهم من إحتفالات رأس السنة، ليس البرد القارس فحسب بل أيضاً تشديدات الشرطة و حظر التجول في

القاهرة برمتها للقبض على هذا السفاح.....

 

لا أحتاج أن أخبرك أنني طُردت من عملي مرة أخرى وجلست في آخر اليوم أكتب هذه الحلقة لأحد برامج

الرعب.....

 

لم تكن أجواء الحظر الليلي مظلمة وكئيبة كما تظنونها، بل كانت مبهجة و سعيدة جداً بالنسبة لي؛ فهذا

الهدوء الجميل نادراً ما تجده في باحات القاهرة الصاخبة، لهذا قررت أن أرتدي سترتي و أقف في الشرفة

لتأمل هذا المشهد البديع الخالي من البشر....

 

في طريقي وجدت قطتي السوداء ترمقني بأعينها البشرية، فإتخذت القرفصاء لأدنو منها وأداعب فرائها....

 

قد تكون أميرة من الجن، أو بشري مسخوط، لكنها تمتلك فراءًا ناعمًا يستحق المداعبة.....

 

عندما فرغت من التمليس عليها تابعت طريقي إلى الشرفة، وقفت أرشف القهوة الساخنة بينما أتأمل هذه

الطرقات الفارغة عدى من هذه الفتاة التي لطخت اللوحة الفنية الفاتنة....

 

ليست فتاة ربما فتى....

 

لم أميز جنسه ولا إن كان شاباً أم كهلاً؛ فنحافته لائقة لكل الأجناس، ومعطفه الأسود الطويل يخفي قسمات

جسده، علاوة على غطاء الرأس الذي لا يُبدِ من ملامحه شيئاً......

 

تجاهلته فغيوم السماء أحق بالتأمل، وربما يصيبني إكتئاب ديسمبر المحبب أو إكتئاب من طردي من العمل

أو إبتعادي لفترة طويلة عن أهلي، أي شيء المهم أنني سأكتئب.....

 

لكن هذا الوغد مجهول الجنس لم يمهلني فرصة للاكتئاب؛ فحركاته البهلوانية تجذب إنتباه الأعمى، فهاهو

يتسلق مواسير الصرف الخاصة بالمبنى السكني الذي أمكث به، ثم يتحرك صعوداً لأعلى كأنه أدرك انتماءه

للزواحف فجأة....

 

اشرأببت بعنقي، وتعلقت به أبصاري، وأدركت أن هذا ليس بالشخص الجيد بالتأكيد، لابد أنه لص أو قاتل

مادام يرفض طَرقْ الأبواب كالأشخاص المحترمين.....

 

تجاهل الدور الأول ثم الثاني وبات يقترب من الثالث، سُحقاً أنا في الدور الرابع، لقد قلّت الاحتمالات و

أدركت أنني أحد المستهدفين.....

 

تمسحت قطتي بقدمي لتُقظني من شرودي، ثم ركضت إلى الداخل، قليلاً ما تفعل ذلك فكان الأمر مدعاة

للفضول حقاً، فهي لا تتصرف كباقي القطط عادة....

 

هكذا تبعتها و أغلقت أبواب الشرفة جيداً، ثم هرعت إلى الهاتف و شرعت في الاتصل بالخط الساخن الذي

أعدته الشرطة للاستغاثة السريعة.....

 

دعني أعترف لك أن الخط الساخن كان في غاية البرودة؛ فقد مضت دقائق حتى أتاني رد يسألني أضحية

حقيقية أنا أم مدعٍ آخر، ثم بات الطرف الآخر يوبخني وينذرني بالعقاب الغليظ الذي سأناله إن كنت أمزح

معهم.....

 

فكرت في التراجع خوفاً من السجن لكن صوت الإحتكاك القادم من الشرفة جعلني أصيح بعجل ليصل صوتي إلى أذن هذا المتسلق:

-أقسم لك أن هذا السفاح الذي تبحثون عنه الآن في شرفتي.

 

لم أكن متيقناً أكان هو أم لا لكنني قصدت إسماع المتسلق بذلك حتى ينتابه الخوف و يتجاهلني ويرحل،

لكن عوضاً عن ذلك دوت عدة طرقات خافتة مهذبة للغاية على باب الشرفة....

 

إنتصبت شعيراتي وخفق قلبي وأخذت ما يعنيني من الشقة وتركت المكان وهربت.....

 

قطعت درج السلم لاهثاً، أتخبط في الظلال فأي شيء أصادفه ولو كان مجرد ممسحة تافهة سأراه سفاحاً

متعطشاً للدماء، وقد لاحقني الخيال وطاردني بضراوة حتى هبطت إلى مخرج المبنى....

 

إلتقطتُ أنفاسي و هرعت لأنظر إلى المواسير لكي لا أجد شيئاً عليها، فلا يوجد برص أو سحلية هناك، ولا

حتى شخص غامض يرتدي غطاء رأس....

 

لكن مادام لم يتسلق مواسير الصرف هبوطًا فهذا يعني أنه في شقةٍ ما، ربما هو في شقتي الآن يبعثر في

أساسها الفقير فيصاب بخيبة الأمل لعدم وجود شيئاً ذا قيمة سوى قطتي ذات الأعين البشرية التي ستصيبه

بالعقم من فرط رعبه فور رؤيتها....

 

إنتظرت عدة دقائق لأرى شيئًا يُقذف من الشقة في الطابق الذي يعلو شقتي....

 

كان يهبط سريعاً تسبقة قطراتٍ لطخت وجهي.....

 

ما إن تحسستها حتى سقط هذا الجسم المستدير على أحد صناديق القمامة ثم ارتد ليسقط أرضًا ويتبعثر حتى يستقر أمامي...

 

فتبدى لي بوضوح ماهية هذا الشيء الذي لم يكن سوى رأس الحاجة (نحمده).....

 

إذاً هذا السائل على وجهي هو قطرات دمائها!!

 

أُصبت بحالة من الجفول لعدة ثوان؛ فما حدث يصعب تصديقه على الفور، حتى أطل لي برأسه من

شرفتها....

 

له ملامح غاضبه ناقمة ملفوفة بالأربطة الطبية فلا يظهر من قسماته شيء.

 

لوح بسكينه بإستهتار كأنه يتعمد أن يُسقط عليّ بقعاً أكثر من الدماء.....

 

حسناً إنه السفاح الذي حير قوات الشرطة لأسابيعٍ عدة قد تصل لعدة أشهر، ها أنا أراه الآن بوضوح يلوح لي

من الأعلى بينما جمجمة جارتي ترقد أمامي تكسوها كل علامات الفزع و الخوف، ماذا يُفترض بي أن أفعل؟

 

لم ينتظر إجابتي بل عاد بهدوء إلى الداخل، فإستطعت التخمين أنه سيهبط الدرج، لماذا الدرج؟

 

لأنه أسرع و أأمن، وأنا أقف في نهايته.....

 

بالطبع صرت أركض مبتعداً كل البُعد تاركاً رأس الحجة (نحمده) وحيدة؛ فحياتي أهم الآن ولستُ أعبأ بأمرها

على أي حال، فلم أنتقل إلى هنا سوى منذ أسابيعٍ قليلة لم أرى فيهم منها سوى سوء الجيرة، لكن ليس بالدرجة

التي تجعلني أشعر بالشماتة أو عدم الاشفاق عليها بالطبع.....

 

تشققت السماء بألسنة البرق تتبعها طرقات الرعد، ثم أمطارٍ غزيرة و شوارع فارغة من أي شخص.....

 

لا أدري إلى أين أذهب؛ فجميع المقاهي والمحال مغلقة، وحينما ضاق الحال لم أجد سوى إحدى

الصيدليات للجوء إليها فبها شخص أو إثنين على أي حال....

 

هكذا إقتحمت بوابات الصيدلية مسرعاً، ألهث كجرو تشقق لسانه من العطش، وقد أضفى المطر على شعري

المبعثر شيئًا من ملامح التشرد حتى كاد أحد الصيدليين يعطيني جنيهاً وقرص (إسبرين) ثم يصرفاني من

هنا......

 

تبادلت النظرات معهم ثم إبتسمت ببله قائلاً:

-أريد فيتامين ج وكوب من المياة من فضلك.

 

رمقني أحدهم بتشكك وإمتعاض ثم هم لتلبية الأمر، في حين تساءل الآخر وهو يُشير إلى الخارج بإرتياب:

-أهذا الشخص معك؟

 

نظرت إلى حيث يشير خارج بوابات الصيدلية، لتدب القشعريرة بجسدي وينفغر فمي على آخره حينما رأيته

يقف في الخارج، يلصق وجهه في الزجاج وينظر إليّ.....

 

اللعنة لما يسعى هذا الشخص خلفي بالضبط، ألا يقتل السفاحون عشوائياً؟


***


مواعيد نشر الفوصل: الجمعة


(((لقراءة الفصول والأعداد التالية اضغط هنا)))

 

#زيارة_إلى_وادي_الغيلان

#بين_قطرات_الدماء

#الباحث

#محمد_بهاء_الدين

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شاركنا رأيك في هذه التجربة