(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
مشاعر معقدة
في مقهى ملحق بالجامعة، بعد انتهاء المحاضرات اليومية، بدأت الشمس رحلتها في الغروب ليقل الضوء المنعكس على زجاج المكان، جلس عمرو وهيثم في مواجهة يمنى ومريم يتجاذبان أطراف الحديث .
نظرت مريم إلى هيثم في اندهاش:
-غير معقول، سئمت من الإسكندرية، كيف؟
في رأيي لا توجد محافظة أجمل منها.
ابتسم هيثم قائلًا في بساطة:
-تقولين هذا، لأنك لم تعيشين فيها من قبل.
نظر أمامه ثم قال في جدية:
-إسكندرية كأي بلد، بمجرد أن تعتادين عليها تشعرين بالملل، والرغبة في التغيير.
تدخلت يمنى قائلة:
-لكن، ماذا عن أهلك أصدقائك، ذكرياتك كلها، هل كان من السهل أن تفارق كل ذلك؟
تبادل عمرو النظرات معه، فقرأ ما رغب أن يقوله بعينيه، سرعان ما ترجمه لهم:
-نحن غيركن.
وضع يده على كتف هيثم ثم استطرد:
-يمكننا بناء ذكريات جديدة بكل سهولة، بل نتشوق إلى ذلك.
قطبت يمنى حاجبيها، وتبادلت ابتسامة سخرية مع مريم قبل أن تقول:
-تقصد لا يوجد لديكم غالٍ.
نظر لها هيثم لحظات في إعجاب، قبل أن يقول:
-لماذا لا تقولين، إنكم عاطفيون أكثر من اللازم.
نظرت له في تحدٍ واستنكار: لا، لا أعتقد.
صمتت... ثم ألقت نظرة على صديقتها، كأنها تأخذ الإذن منها قبل أن تتحدث، ثم استطردت:
-في اعتقادي، الأمر يختلف من شخص لآخر.
أشارت إلى عمرو ضاربة به المثل:
-فلنأخذ عمرو كمثال.
نظر لها عمرو باهتمام فنظرت له سريعًا، فتساءلت:
-هل يمكنك بسهولة التخلي عن كل البنات التي تعرفهم والبدء من جديد في مكان آخر؟
تفاجئ عمرو من سؤالها وقبل أن يجيب، أشارت بيدها إلى هيثم مستطردة:
-الإجابة، نعم بالطبع.
نظر لها عمرو باستنكار فاستطردت في ثقة وهي تشير ناحيته:
-لأنهن لا يُمثلُن أي أهمية له سوى التعدد، إذن لا مانع لديه أبدًا أن يستبدلهُن بأخريات.
نظر لها هيثم بفضول، في حين علق عمرو في استياء:
-كم انتي ظالمة! لست بهذا السوء.
نظرت له مريم قائلة، محاولة فرض نفسها في المحادثة لجذب أنظار هيثم.
بينما هو لم يبعد عيناه عن يمنى طوال حديثهم:
-لكنها حقيقة، لا تستطيع إنكارها.
نظر لها عمرو في عتاب، بينما لم يحرك هيثم عيناه بعيدًا عن يمنى بل تساءل في اهتمام:
-أكملي، أشعر أن المثل لم ينتهي.
نظرت له ثم ابتسمت لاهتمامه.
فعلى الرغم من تدخل الآخرين في المحادثة إلا أن ذلك لم يشتت تركيزه بعيدًا عنها، مما أعطاها الثقة فقالت:
-أما إذا سألت شخص آخر، ولنفترض هذا الشخص..
لديه حبيبة واحدة لا يقوى على الاستغناء عنها، لديه أصدقاء حقيقين يحب قضاء الوقت معهم.
صمتت قليلًا ثم وزعت نظراتها على ثلاثتهم، مبتسمة وهي تستطرد:
-لديه استقرار في حياته وبيته، يرى مستقبله ويتطلع إليه.
سكت الجميع تأثرًا بحديثها، في حين شعرت هي بالانتصار في توضيح مقصدها للجميع، بالأخص هيثم الذي لمعت عيناه من التأثر، أو أنها توهمت ذلك.
ساد الصمت قليلًا فيما بينهم، ثم قال هيثم كلمة انتبه إليها الجميع، بينما تأثر نصف الجالسين بمشاعر سلبية مختلطة بخوف مطلق:
-هذا إذا كان هذا الشخص يؤمن بالحب.
ألقى كلمته ثم عاد لاحتساء مشروبه ببساطة، كأنه لم يقل شيئا.
تبادلت مريم مع يمنى نظرات قلقة، دفعت يمنى أن تتساءل في اهتمام:
-ماذا تقصد؟
نظر لها، ثم نقل بصره إليهم جميعًا، فقال:
-الحب هراء، وهم.
تجمدت ملامح مريم فجأة متابعة حديثه في اهتمام:
-أنا شخص لا يؤمن بوجوده، الحياة أبسط بكثير من الحب وتعقيداته، فلنعشها ببساطة، لماذا التعقيد؟
نظرت له نظرة طويلة، ثم نقلت بصرها إلى مشهد ذكّرها بما تشعر به، إلى مغيب الشمس.
ففي نفس اللحظة بدأت الشمس في الاختفاء وهبط الليل فجأة كوقع كلماته على قلبها.
************************************
في صباح اليوم التالي، اقتربت مريم ويمنى من مبنى المحاضرات فتباطأت حركة مريم وهي تنظر من بعيد، فألقت يمنى سؤالها في حيرة:
-هيا بنا، فلتسرعي لن نتمكن من الوصول قبل الدكتور.
توقفت مريم في مكانها بالفعل ثم أجابت:
-لا أرغب في الحضور اليوم.
حدقت يمنى في وجهها لحظات قبل أن تقترب متسائلة :
-إذًا ماذا ترغبين أن تفعلي.
هزت مريم كتفها في قلق:
-لا أعلم.
دارت بعينيها في أرجاء الجامعة كأنها تبحث عن شخص بعينه، فسألتها يمنى في فضول:
-هل تبحثين عن أحد؟
انتبهت مريم لصديقتها، فنظرت لها نافية:
-أنا؟! لا لا أبدًا.
وقعت يمنى بعيناها على الشخص المراد من بعيد فاقتربت من صديقتها، فهمست في أذنها:
-أنه خلفك، على يسارك...استمتعي بوقتِك.
ابتسمت يمنى لصديقتها التي شعرت بالحرج وقد تلفتت تبحث عنه، ثم عادت لتسأل يمنى:
-إلى أين؟
قالت يمنى أثناء توجهها إلى المبني:
-سأحضر من أجلك، فلتتذكري تلك التضحيات.
قالتها يمنى ثم اختفت، بينما وصل هيثم بالفعل ليلقي التحية على مريم:
-أهلًا مريم، كيف حالك؟
التفتت مريم لترد التحية في سعادة:
-أهلًا هيثم أنا بخير.
تساءل هيثم وهو يشير إلى اتجاه اختفاء يمنى:
-هل كانت هذه يمنى؟
أشارت برأسها موافقة:
-نعم....ذهبت لتدخل المحاضرة.
قطب جبينه ثم قال في استنكار:
-من الواضح أنها لم تلاحظ وجودي.
هوى قلب مريم عندما خص يمنى بالحديث.
تأملته لحظات، فعاد متسائلًا في فضول: لماذا لم تذهبين معها؟
هزت كتفها قائلة:
-لم أشعر بالرغبة في الحضور اليوم.
هز رأسه وقال مبتسمًا أثناء توجهه لدخول مبنى المحاضرات :
-سعيد برؤيتك، عن إذنك.
نظرت له بدهشة وجمود ثم نطقت بعد تردد: إلى أين؟
نقل بصره إلى المبنى مشيرًا إليه:
-أليست هذه المحاضرة خاصة بنا؟
قالت في حرج:
-نعم ذلك صحيح لكن.
كنت أفكر في طريقة للترحيب بك، لم نقم بواجب الضيافة معك بعد.
ابتسم لها مفكرًا بتردد، وهو ينقل بصره بينها وبين مبنى المحاضرات ثم تراجع قائلًا:
-ولم لا؟ هيا بنا أين ستستضيفني؟
أشارت إلى المقهى المعتاد: للأسف لا يوجد سوى مقهى واحد هنا، أسمح لي.
قالتها ثم أشارت أمامها فتقدمها، تبعته بشعور من الخوف والترقب.
فإحساسها به بات مختلطًا، فهو أعلن بصراحة رأيه في الحب، لكنها لم تستطع منع خفقان قلبها كلما رأته يتجسد من وحي خيالها، لذا لم تجد بداخلها القدرة على رفض الفرصة التي ظهرت أمامها، فانتهزتها دون تفكير.
لكنها لم تستطع منع شعور الخوف الداخلي الذي بات يتملكها في قوة كلما خطت خطوة تجاه هذا الشخص، أغمضت عيناها واستسلمت للقدر وتدابيره.
*************************************
في منزل مريم.
يوجد جزء ملحق بغرفتها تم تقفيله ليناسب استخدامها له كمرسم، به كل أدوات الرسم واللوحات المستخدم منها والفارغ.
من هاتف يمنى الخلوي تنبعث أغنية _مريام فارس_ التي تتناسب مع حالة مريم العاطفية:
" إنت مين هواك بقلبي يدوب، أنت مين لحظة ما بنساك، انت مين لو عني غايب يوم على الحنين بيعيشني هواك"
جلست مريم على مقعدها تستكمل رسمة مُبهمة لم تتضح ملامحها بعد،
تأملت يمنى اللوحة في حيرة، ثم صاحت :
-ليست واضحة، هل هذا وجه شخص؟
نظرت مريم إلى لوحتها في حيرة لا تقل عن حيرة صديقتها، ثم أشارت في خفوت:
-لا أعلم، أنا فقط أُحاول أن أفرغ ما بداخلي.
تركت أدوات الرسم وقامت مع صديقتها؛ ليجلسوا بعيدًا تنهدت قبل أن تقول:
-لا أعلم يا يمنى، فمشاعري مختلطة بين الانجذاب له والخوف منه.
نظرت لها مريم صامتة، فاستطردت:
-فعلى ما يبدو أنه يعيش ليومه فقط لا يأبه لمشاعر مَن حوله.
قالت يمنى بأسف واضح:
-نعم، ظهر ذلك جليًا من حديثه سابقًا.
قالت مريم بعصبية واضحة:
-لا ألومه، بل الملام هو من تحرك قلبه لإنسان، فور خروجه من تجربة حب فاشلة.
أشارت مريم إلى نفسها وهي تتحدث، كما شعرت يمنى بالذنب لتشجيعها على الإحساس به
وعدم إحجامها عن ذلك رغم تخوفها في البدء.
قالت يمنى محاولة بث الأمل الزائف بقلب صديقتها:
-لا تتسرعي، قد يكون يقصد بحديثه معنى آخر.
نظرت لها مريم في استنكار، ثم حركت عيناها في أرجاء المرسم الضيق، قائلة في حيرة:
-الأغرب من هذا.
أنني أعجز عن فهم إحساسي به؛ فعندما أراه أشعر بأن الكلام يهرب من لساني.
فأشعر بالوجوم.
نظرت أمامها في عدم فهم مستطردة:
-لا أفهم هل هذا شعور بالإعجاب المفرط، أم أنه تنافر من شخصيته؟
شعرت يمنى بعدم استيعاب تلك المشاعر المعقدة، فاستفسرت:
-ماذا تقولين؟ وما كل هذه المشاعر المعقدة؟ لم أعهدك هكذا من قبل؟
مريم هل جننتِ يا حبيبتي؟
نظرت لها مريم شبه باكية ووضعت يدها على رأسها وهي تحركها بحيرة:
-لا أفهم، أقسم بالله أنا لم أعد أفهم شعوري، لكن
توقفت فجأة فنظرت لصديقتها وألقت سؤالًا مفاجئًا، هوى له قلب يمنى:
-وأنتِ؟ ما هو شعورك نحوه؟
نظرت لها مريم باستنكار؛ فأوضحت سؤالها المباغت متذكرة حديثهم السابق في مقهى الجامعة:
-أُعني....رأيتك تتحدثين معه ببساطة وكأنك تعرفيه جيدًا، لم اعتاد عليكِ تتحدثين إلى شخص بالكاد نعرفه بهذه البساطة.
ابتلعت يمنى ريقها في اضطراب:
-ماذا؟ لا هذا شعور كاذب،فأنا أتحدث إليه بطريقة طبيعية، وكما تعودتِ عليّ بخجلي المعتاد.
ألقت عليها مريم نظرة شك، فقد لاحظت اضطرابها المشكوك في أمره:
-إذن فلتهدأي، فأنا لا أتهمك بشيء.
قامت يمنى من مكانها فجأة ثم قالت في فزع:
-وهل وصلت بيننا الأمور للاتهام، لا
نظرت أمامها واستكملت في حزم:
-سأتوقف عن التحدث إليه إذن، إذا كان في ذلك راحة لكِ.
نظرت لها مريم وتأملت ملامحها قليلًا، قبل أن تقول:
-لا...تعاملي بطبيعتك، أنا من يحتاج إلى لجم مشاعره، كان يجب ألا انساق من البداية، وراء شعوري باستباق معرفته.
هدأت يمنى قليلّا، لكن ظل سؤال مريم معلقًا بداخلها.
لماذا شعرت بالاتهام موجه إليها، هل في تفاعلها معه ما يدعو للشك والقلق، هل لاحظت مريم نظراته إليها أم أنها توهمت ذلك .
في هذه اللحظة، شعرت يمنى لأول مرة، أنها ترغب في الاختلاء بنفسها.
اعتذرت من مريم واستأذنت الرحيل....وفي بالها ألف سؤال وسؤال؛ فحيرتها لا تقل أبدًا عن حيرة مريم.
********************************
في صباح اليوم التالي، ما أن دخلت يمنى من بوابة الكلية، حتى قابلها هيثم.
فصاح باسمها عاليًا:
-يمنى....
تظاهرت بالانشغال، لكنها لم تجد مفر من الاستجابة له، استدارت مبتسمة رغمًا عنها في حرج، ثم قالت:
-مرحبًا هيثم، كيف حالك؟
وصل إليها هيثم مبتسمًا: مرحبا بكِ، أنا بخير وأنتِ؟!
ابتسمت وهي تنظر حولها في قلق:
-بخير.
همت بالمغادرة والابتعاد، لكنه استوقفها قائلًا:
-إلى أين؟
عادت تنظر إليه قائلة في بساطة:
-لدى محاضرة بعد عشر دقائق.
نظر لها في اهتمام: تقصدين لدينا؟
أشار بيديه عليهما معًا متسائلًا:
-أليس كذلك؟
أومأت برأسها دون أن تنطق، فاستكمل حديثه:
-سأذهب معكِ، فرصة جيدة للتعرف على دكاترة الجامعة.
تحرك في طريقه إلى مبنى المحاضرات، فتابعته هي بعينيها دون أن تتحرك، فعاد لينظر إليها قائلًا:
-ماذا بكِ؟
نظرت له بتساؤل فاستطرد موضحًا:
-سأحتاج إلى مساعدة منكِ؛ فأنا لا أعلم أين يقع مبنى المحاضرات.
شعرتْ بالحرج، لكنها تحركت رغمًا عنها، بدأ حديثه معها:
-عمرو لم يأتي اليوم.
ردت تتجاذب أطراف الحديث:
-نعم، كذلك مريم.
نظر لها مبتسمًا:
-يبدو أنكن أصدقاء مقربين.
اتسعت ابتسامتها بصدق:
-صحيح، أنا ومريم أصدقاء وجيران منذ طفولتنا.
ابتسم لها فاستطردت:
-هي أغلى إنسانة لديّ.
نظر لها ثم قال في إعجاب:
-كم هي محظوظة!
تجمدت ملامحها للحظة، ثم لانت عندما شرعت في الحديث عنها:
-من يعرف مريم جيدًا، يذوب عشقاً فيها.
شخصيتها مرحة، ما أن تألفها حتى تعتاد عليها فتتخذها أقرب صديق.
نظر لها باستغراب قليلًا:
-لم أسمع فتاة تتحدث عن صديقتها بهذا الحب من قبل.
ثم مال على أُذنها مستطردًا:
-ألم أقل لكِ أنها محظوظة؟
نظرت أمامها في حرج وصمتت قليلًا، فألقى سؤاله في حيرة:
-ماذا عنكِ؟
حاولت تلافي النظر إليه، حتى لا يتبين حمرة وجهها وخجلها الذي ظهر جليًا:
-ماذا تقصد؟
وقف قليلًا عندما شعر باقترابهم من مبنى المحاضرات:
-أخبريني شيئًا عنكِ،
فلم تتواجد فرصة لنا للتحدث سويًا من قبل، وأنا أرغب في معرفة المزيد عنكِ.
نظرت له بعينين متسائلتين فأجاب :
-أنتِ أيضًا تمتلكين شخصية مميزة مثل صديقتك.
صمتت مرة أخرى وأشاحت بنظرها بعيدًا، ثم أشارت إلى مبنى المحاضرات قائلة:
-لقد وصلنا.
تردد قليلًا قبل أن يتساءل: هل هي محاضرة هامة؟
تفاجأت من السؤال؛ فقالت في اهتمام:
-نعم.. إدارة أعمال.
صاح في ثقة:
-يخيل إلي أنها مادة نظري.
تحركت بسرعة وهي تقول محاولة التملص منه:
-إذا كنت لا ترغب في الحضور، فأنا
قاطعها بإشارة من يده:
-لا تحاولي، لقد سرنا معًا كل هذا الطريق، فلن تتخلي عني الآن.
نظرت له وابتسمت عيناها، حدثت نفسها في حيرة
( ماذا يريد بالضبط، لماذا يصر على فرض نفسه بهذا الإصرار)
فاقت من شرودها على صوته:
-أما أن تقنعيني، أو العكس.
تحرك بالفعل مبتعدًا عن مبنى المحاضرات متخذًا قراره بحزم:
-فأنا أعرض عليكِ اصطحابي إلى مقهى الجامعة.
ابتسم ثم أشار بأصبعه مستطردًا:
-وعلى حسابي.
قبل أن تهم بالاعتراض، قال في حزم:
-لن أقبل الرفض، فأنا مستجد هنا وواجبك الترحاب بي.
كما أننا جيران الآن وأنتِ مدينة لي بذلك.
سار متجهًا إلى المقهى بالفعل واثقًا أنها تتبعه،
أدهشتها ثقته في حاله، فنظرت حولها تشعر أنها تسرق عَرض ليس من حقها،
لكنه عُرض عليها في سخاء، فكرت في الاعتراض.
لكن شيئًا ما بداخلها لم يطاوعها.
استحضرت صورة مريم في ذهنها لكنها استرجعت حديثه من قبل، فشعرت أنه لا يوجد أي احتمال أن يحدث بينهم شيئًا، فسارت معه مطمئنة وأغفلت شعور بداخلها.
قادها إلى ما يخالف تفكيرها المنطقي العاقل بشكل لم تعتاد عليه من قبل.
*********************************
في نفس الوقت.
في منزل مريم جلست تتأمل لوحة مختلفة عن لوحة الشخص المرسومة سابقًا.
اللوحة تُظهر مشهد طبيعي لحدائق وسحاب وفتاة نصف مكتملة، نظرت إلي لوحتها فتنهدت، حركت رأسها يمنة ويسرة في إرهاق.
ثم تنبهت إلي صوت يأتي من الخارج؛ فاقتربت من باب المرسم تُلقي بأذانها في ترقب، لتستمع إلى خلافات والدها مع والدتها المعتادة، فأغلقت الباب وظهر على ملامحها الغضب.
تأملت اللوحة في إحباط، حاولت أن تعود لتمسك فرشاة الرسم لكن خانتها يداها التي لم تجد بهم الشغف.
سمعت طرقات خفيفة على الباب، ثم دخلت فتاة صغيرة تبدو في أوائل سن المراهقة، ما أن رأتها مريم حتى تساءلت في حيرة:
-شهد؟ أنتِ أيضًا هُنا؟
ابتسمت في تهكم مستطردة:
يُخيل إلي أنه يوم الجمعة!
دخلت شهد وأغلقت الباب خلفها ثم التفتت إلى مريم:
-ما الذي يحدث؟ لقد أيقظوني من نومي.
قطبت مريم جبينها في ضيق، ثم احتضنت أختها في حنان قائلة:
-لا تقلقي، سيهدئون الآن.
أعطيهم بعض الوقت.. ألم تعتادي بعد على خلافاتهم؟.
نظرت لها بوجه مرتعب قلِق:
-بالطبع، لكن ليس أثناء نومي.
أشعر بالدوار منذ لحظة استيقاظي على صوت مشاحنتهم.
بادلتها أختها نظرات القلق:
-اهدأي، لا يوجد ما يقلق، سرعان ما سيهدأن الآن.
أشارت إلى فمها تدعوها لتخفض صوتها:
-اسمعي، فقد هدأ صوتهم بالفعل.
أنصتت شهد للحظة، ثم ارتاحت ملامحها بعض الشيء.
اقتربت منها مريم، فابتسمت في حنية ثم قالت:
-لماذا لم تذهبين إلى مدرستك؟
هزت شهد كتفها في لامبالاة:
-لدى الكثير من الدروس اليوم.
نظرت لها مريم في تفهم، ثم أشارت لها كي تجلس، ففعلت تأملت اللوحة في إعجاب:
-أخيرًا، عدتِ إلى ممارسة موهبتك.
ألقت مريم نظرة على اللوحة ثم تساءلت في فضول:
-ما رأيك؟
ردت شهد بسرعة:
-جميلة، أو ربما ستصبح كذلك
هزت مريم رأسها في اعتراض:
-أشعر أنني تائهة، لم أستعد موهبتي بعد؟
عقدت شهد ذراعيها حول صدرها، متسائلة في لهجة مازحة:
-أرى ذلك واضحًا.
لطمتها مريم مازحة في غضب مصطنع، فصاحت شهد بسرعة:
-كنت أمزح معكِ.
ابتسما معًا قبل أن يقاطعهم صوت رنين الهاتف الخاص بمريم.
فاقتربت في فضول من شاشته ثم زفرت والتقطته بيدها لتجيب بعدم حماس:
-آلو.....مرحبًا آسر كيف حالك؟
تبادلت النظرات مع أختها، التي ابتسمت في شقاوة وغمزت لها بعينيها.
أبعدت مريم نظرها عن نظرات أختها التي لاحقتها لبعض الوقت، متظاهرة بالاستماع إلى محدثها فأجابته:
-بخير أيضًا، لا لن أتمكن من الحضور اليوم.
ابتسمت ابتسامة حزينة عندما استشعرت قلقه عليها، فقالت:
-لا أطمئن، أنا فقط لم أجد بداخلي رغبة في المجيء اليوم.
استمعت له في اهتمام ثم أجابت:
-لا لا تقلق فيمنى موجودة، فهي تحضر نيابة عني في حالة تخلفي عن الحضور.
استأذنت شهد من أختها لتغادر مرسمها، فألقت مريم نظرة قلقة متسائلة على أختها، لكنها طمأنتها بعينيها مبتسمة في إرهاق، ثم خرجت.
عادت مريم إلى محدثها، محاولة أن تستكمل رسمتها في ذات الوقت:
-ماذا؟....هل أنت متأكد أنها لم تحضر؟
رفعت إحدى حاجبيها، فشلت محاولاتها فألقت الفرشاة بعيدًا، ثم قامت من مكانها مستكملة حديثها معه:
-هل رأيتها اليوم بشكل عام في الكلية؟
فكرت قليلًا ثم قالت في بساطة: نعم نعم، مقهى الجامعة بالتأكيد ستجدها هُناكّ.
تحادث معها أثناء سيره ، فقالت له في أسف:
-أعتذر يا آسر فمن الواضح أننا لن نستغني عن اقتراض دفتر محاضراتك..
أغمضت عيناها عندما ألقى عليها كلمات إطراء جميلة كعادته، وصلها إحساسه الصادق عبر الهاتف في وقته.
فقد كانت في أمس الحاجة إلى شعور بالراحة مع محدثها.
تميز أسلوب آسر دومًا في إكسابها الثقة في ذاتها والثقة في محدثها أكثر، فهو شخص لا يتجاوز حدوده مع أي فتاة، يَخُصها هي وحدها بكلمات إطراء جميلة منزهة من أي غرض،
تشعر معه بمعنى الصديق الوفي، لكن أشد ما يدهشها أنه لم يستطع من قبل تحريك مشاعرها، هي فقط ترتاح في وجوده حتى إذا كان ذلك عبر الهاتف.
فاقت من شرودها على صوته، انتبهت لحديثه فصاحت في انتصار:
-نعم....أخبرتك بأنك ستجدها هناك.
قطبت جبينها في تركيز فجأة على كلماته، ثم صاحت متسائلة: من هذا الشخص الذي لا تعرفه؟
أستأذن آسر منها في أدب ليُلقي السلام على يمنى ومن معها، أما هي على الجهة الأخرى من الهاتف فاستمعت في اهتمام إلى الأصوات المحيطة بآسر.
تحول تركيزها إلى استنكار ثم صاحت في دهشة مع شعور بخفقان في قلبها: هيثم؟
***
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة