(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
(مالم يكن في الحسبان)
مر وقت طويل على وجودهم
داخل العربة، وكانت حركتهم مقيدة بالزوايا المحيطة بهم، شعر الجميع أن أضلاعهم
اختلطت ببعضها البعض؛ من التعرجات والضربات التي تلقوها من طريقهم الممتد للقصر
كأنه بحر مرسل لا يوجد له قرار، فتدافعهم أمواجه في كل صوب وحدب، كانت سيبال تخرج
رأسها من بين أغصان الزيتون وتنظر للخارج بين الحين والآخر، وكلير استسلمت بسكون
سارحت بمحيط أفكارها، أما مارت وبقية الشباب فقد غفوا لبعض الوقت.
مرت العربة في طريق ضيق
جدًا كادت أن تسقط بهم وهي تميل نحو السفح لأكثر من مرة، فالطريق الذي يسلكونه سفح
جبلي مرتفع وتحته جرف سحيق، ولولا مهارة السائق وتحكمه بذئابه لانتهت رحلتهم على
هذا الطريق الجهنمي المميت، والذي تكسوه الثلوج من كل الجهات فتحوله لطريق بلوري
يشبه الزجاج في انعكاسه، وطريق الموت في هلاكه.
كانت كلير تحرك شفتيها
مدمدمة بأدعية غير مسموعة مغلقة عينيها وتحتضن كفيها كأنها تحتضن روحها بينهما،
استقرت العربة لفترة وجيزة ثم دخلوا من نفق مظلم، فاشتعلت عيني الذئاب بشرار أصفر
كالضوء يسيرون مهتدين به، وكانت لسعات البرودة كالوحوش تهاجم أوصالهم، وتضغط
بمخالبها على أيديهم وأرجلهم.
تجمدت الدموع التي كانت
تغطي وجوه الفتيات في العربة، والشبان لم تظهر معالمهم الحزينة، من القناع الطيني
الموضوع على وجوههم، وصلوا لباب جسيم تظنه معلق في السماء فلا تظهر نهايته، لكنه
بلوري رقيق تعتقد أنك سيقع من نفخة رياح شديدة.
نادى منادي من فوق السور
المرتفع:
_وصلت
عربة الرقيق.
فتح الباب على مصراعيه،
وظهر من خلفه مجموعة من الرجال ذو أجساد عملاقة، ومظاهر عابسة كأنهم ملامحهم
اقتطعت من بلاط جهنم، وتلوح بأيديهم سياط سوداء تتماهى مع ألوان بشرتهم، صرخ أحدهم
ويبدو أنه رئيسهم فالجميع يصطفون حوله كحائط إسمنتي:
_يبدو
أن عبيدك هذه المرة عقلاء أليس كذلك؟! لا أكاد أشتم رائحة شاب متمرد أو فتاة
تنوح!
توجهت أنظار الجميع نحو
السائق الذي بدا الارتباك واضح على وجهه الشاحب، لوح برأسه للأسفل مؤيدًا كلامه،
وأشار إلى الجميع أن ينزلوا من العربة بعد أن أزاح أغصان الزيتون، اصطف الفرسان مع
البقية بشكل طابور وراء بعضهم البعض بأمر من أحد الحراس ذو البشرة السوداء والمميز
بشعر طويل مجدول إلى الوراء على شكل ضفيرة، غادرت العربة مع السائق وترك الجميع
لمصيرهم المحتوم.
كانت كلير ترتجف دون أن
تعرف أكان ذلك من البرد أم من الخوف؟! تنبهت سيبال لذلك فأمسكت بيدها وشدت عليها
تشجعها دون كلام، كأنها تقول "أنا ضلعك الثابت إن مالت بك الحياة، أنا السد
المنيع بينك وبين المشكلات"
تجلدت كلير وتحاملت على
نفسها، ووقفت مستقيمة كالريشة في الدواة.
حفلة صاخبة كانت في
انتظارهم، بدأت عندما أصدر أحد الجنود أوامره بالاستحمام بالماء البارد من الحوض
القريب؛ حتى يزيلوا الطلاء الطيني الذي غطا أجسادهم وتظهر ملامحهم بشكل واضح،
اقترب الجميع من المياه المتجمدة، فالإحساس بالبرودة قد وصل عندهم لذروته؛ فلم
يشعروا ببرودة الماء الشديدة، أزاحوا قطع الجليد عن المياه، وراحوا يسكبونه على
أجسادهم ليزيلوا الطلاء الطيني الذي غطا ملامحهم، غطت المياه ملابسهم وظهرت
ملامحهم أخيرًا.
أمر الجنود الفتيات أن
يذهبوا لإحدى المقصورات القريبة ليبدلوا ملابسهم، أما الشبان فلقد تلقوا الأوامر
بتغير ملابسهم في مكانهم.
وعندما اعترض أحد العبيد
بنظرة حادة من عينيه التي تشبه الصقر دون أن يتكلم، بادره الجندي ذو الشعر المجعد،
بضربة سياط على مؤخرة رأسه، فجثى الشاب على ركبتيه وأفرغ كل ما في معدته
أمامهم.
فلم يتجرؤون على رفع
بصرهم، كان مارت يتأسف لحال ذلك الفتى الذي بقي مفترش الأرض لفترة ليست بقصيرة،
لكنه لم يجرأ أن يتقدم ويقدم له المساعدة، نهض الشاب الذي تلقى الضربة على رأسه
عندما أفرغ الجنود عليه دلو من الماء فوقف مترنحًا، بدأ يستعيد وعيه بشكل تدريجي
وغير ملابسه بعد صراخ الجنود الذي لم يتوقف، حمد الله مارت في سره أن كلير لم تر
هذا المنظر وإلا لسقطت مغشي عليها.
ملابس متشابهة مصنوعة من
الفراء السميك، للرجال والنساء أيضًا، اصطف الجميع بنفس الشكل الذي كانوا به عندما
نزلوا من العربة، استدعى الجنود فتاتان إحداهما تبدو بملامح هادئة، تحمل حقيبة من
الأعشاب وأدوات طبية بدائية، راح تكشف على أجسادهم لترى إن كانوا يعانون من مرض
ما، وأما الفتاة الأخرى فكانت سمراء بملامح خشنة، وبنية جسدية ضخمة تشبه الجنود
إلا أنها أقل عدائية وضعت يديها بجانب خصرها وهي تقول:
_هيا إلى بيت النار حان
موعد وضع الوشم الذي يميز مملكتنا.
تبادر إلى أذهان الفرسان
كلام الخال أدريان، عندما قال:
_لا
تذهبوا إلى غرفة النار، حيث يضعون الوشم على الأجساد وإلا كشف أمركم.
كانت سيبال أول المتقدمين
إليها، تأهب الجنود وبيدهم السياط، وكادوا أن يهوا به على جسد سيبال، لكنها جثت
على ركبتيها وهي تقول:
_أنا
وأخوتي نملك وشم المملكة!
كشف شعرها لتظهر مكان
الندبة فيه، تبعها مارت وكلير في ذلك.
كانت لورا قد أملت عليهم
ما يجب أن يقولوا في هذه الموقف، تقدمت كلير وهي تقول:
_نحمله
معنا منذ نعومة أظفارنا، كان والدي يقول ستورثونه لأبنائكم كما اورثتكم
إياه.
اقتربت الفتاة السمراء
وهي تتحسس الوشم، لترى إذا كان حقيقي أم لا، وقالت أخيرًا:
_هذا
يعني أنكم من أحفاد قصر السلمون!
تجاوزتهم بسرعة إلى
البقية وهي تسأل:
_هل
هناك أحد آخر من أحفاد القصر؟!
تقدم نفس الشاب الذي تلقى
الضربة سابقً من بينهم، وأمام توسلات إحدى الفتيات التي تبدو كأمه أو أخته الكبرى
دون أن يكترث قال:
_هذا
الوشم إهانة للنفس البشرية، لن أقبل أن أضع وشم كهذا على جسدي.
لكنه كان كأنما يكلم
أصنام أو تماثيل لم يأبه أحد لما قاله، راحت السياط بأيديهم تلوح في الهواء
لتنذرهم أن يتحركوا، مشى الجميع وراء المرأة السمراء، وأدخلتهم جميعًا إلى فناء
كبير، في نهايته نيران مشتعلة وقطعة حديد كأنها جمر متقد، فهذا الوشم وضع
على الجمر لفترات طويلة حتى تماهى معه.
اقترب الجنود ووضعوا
بداية قماش أسود كعصبة على الأعين، وأمسكوا الأشخاص واحد تلوى الآخر، يضعون ذلك
الوشم الحديدي على الجسد، فينتشر صراخ يملأ أرجاء المكان، وتشتم رائحة تشبه رائحة
الشواء تنطلق من الأجساد، كلير وسيبال وضعوا أيديهم على أذانهم؛ كيلا يسمعوا صرخات
الاستنجاد، وشهقات البكاء التي يعتصر القلب لها.
ثم بعد وضع الوشم تأتي
الخطوة الثانية، كحل أسود مطحون يضعونه مكان الحرق ليحدد الرسوم، وفي النهاية تضع
الطبيبة شيء كالدهان أبيض اللون يشبه المرهم في عصرهم؛ كي يخفف بعض من الألم بحسب
زعمهم، لكن ما الذي سيخفف آلام الاحتراق؟! لولا أنه من أصعب أنواع التعذيب
والإذلال لما جعل الله عذاب الكفار نار تلظى.
وضعوا الوشم للجميع على
الذراع الأيمن لهم، تَأَوَّهَ قلب الفرسان لحال العبيد، لكن لم تكن في أيديهم
حيلة، كمن يرى شخص عزيز على قلبه يخطفه الموت دون أن يستطيع أن يرد القدر عنه،
معرفتهم بهم كانت بسيطة لا تتعدى رفقة الطريق، لكن قلوبهم الرقيقة التي تميزهم هو
ما جعل آلامهم واحدة.
ترك الجميع في الفناء
الثلجي حتى تبرد حروقهم لكن أعين الجنود كانت تطوف في المكان ولم تتركهم، تنقل
الفرسان بين الجميع محاولين أن يساندوهم، لكن لا أحد يستطيع أن يحمل جزء من الألم
عنهم، لم يكف ذلك الشاب عن الصراخ فكما يبدو أنه ذو طباع حادة، كالأسد يزأر بين الحين
والآخر، اقترب منه أحد الجنود وأراد تأديبه بالسياط؛ ليكف عن الصراخ، اقتربت امرأة
من بين الحشود وقفت أمامه وهي تتأوه من ألم يدها، متحاملة على أوجاعها، فتلقت
الضربة عنه بكل جسارة، جرت على ركبتيها من الألم، تفاجئ بها الجندي وعاد أدراجه
مكانه دون أن بتكلم، عندما اقترب الجميع لمساندتها، صرخ الشاب من خلفها:
_
أمي، أمي! هل حصل لك شيء؟! هل تتألمين؟!
أومأت برأسها للأعلى
وعينيها لم تفارق النظر لفتى آخر، يبدو أصغر سنًا من الجميع، كانت عينه تنهمر
بالبكاء كنهر جاري دون أن ينطق ببنت شفه.
وقف ونظرات الشر في عينيه،
سيذهب ليهاجم الجنود، لكن يدي أمه أمسكته، وحضنتها بكلتا يديها محاولة أن تمنعه من
ذلك، أشارت بعينيها لذلك الفتى الذي يجلس منطويًا على نفسه وواضع رأسه داخل قدميه
وقالت:
_لا
تقلق سأكون بخير، اذهب وشد عضد أخيك فهو الأولى باهتمامك!
نظر لحيث يجلس أخاه، وأشاح
برأسه كأنه رأى جان أمامه، ظهرت على وجهه علامات الاشمئزاز، وعاد للجلوس مكانه دون
أن يستجيب لطلب أمه، بدى للفرسان أن الجميع يعرف بعضهم، عدا تلك للفتاة النحيلة
ذات الشعر القصير، والعيون التي تشبه عيون العسل عندما ترسل الشمس ألسنتها لتعكس
ضياءه داخل خلاياه، كان الجميع يتأوه ويتألم عدا تلك المسكينة التي لم تزرف دمعة
واحدة، اقتربت كلير تسألها:
_ هل تحتاج شيء؟!
أجابتها:
_كأس
ماء من فضلك.
_هل لي بمعرفة
اسمك؟!
مدت يدها قائلة:
_صوفيا،
هل نكون صديقتين؟!
تبسمت كلير وهي
تقول:
_وأنا
كلير، نعم نكون صديقتين، لما لا؟! سأحضر لك الماء حالًا.
وقفت كلير لتحضر الماء،
تحول وجه صوفيا للون الأصفر الشاحب، وشفتيها للون الأزرق، سقطت مغشي عليها، وتشنج
جسدها بطريقة غريبة، فقط رفعت يديها إلى الأعلى بشكل لاإرادي، وتحولت قدماها
لقطعتا خشب باتجاه واحد، وعينيها شخصت إلى السماء، تهتز كأن صاعقة كهربائية ضربت
كيانها، تجمع العبيد فوق رأسها عندما صرخت كلير تنبههم، كان هناك حارس يبدو أنه
تعامل من قبل مع حالات تشبه حالتها، نزع الغطاء الذي غطا رأسها صرخ بالجميع:
_ابتعدوا
حتى تتمكن من التقاط الهواء!
فتح فمها بصعوبة، كانت
أسنانها تصتك بحركة لاإرادية، ووضع قطعة من القماش داخل فمها، كيلا تعض لسانها
فيتحول لعاهة مستديمة أو عبء على نطقها، أجلسها بحركة نصف دائرية ووضع أكياس من
الجليد القريبة خلف ظهرها، وقف لبضع دقائق يرى إذا كانت ستستجيب للخطوات أم لا.
صرخ بأحد أصدقائه:
_أحضر
لي الكيس الهوائي.
تجمهر الوافدون الجدد فوق
رأسها، وضع الكيس الهوائي البلاستيكي فوق فهمها وأنفها وأخذ يقبض بيده عليه
ويرسله؛ حتى يمتلأ بالهواء ثم يتفرغ داخل فهمها، نظر الفرسان لبعضهم كأن لسان
حالهم يقول يشبه" جلسات الأوكسجين في عصرنا"
كانت استجابتها بطيئة
فنطق أحد الجنود بغضب:
_إن
أصابها مكروه ما، لن نهرب من عقاب الأميرة.
ركض الجندي الآخر إلى
الحوض القريب وأحضر لها الماء وأخذ يصفق الماء على وجهها، لكنها لم تستجب
أيضًا.
تقدم مارت من بين الحشود
عندما أرخت يديها، وتحسس نبضها فكان منقطع بدأ يحرك رأسه يمينًا ويسارًا وصرخ
قائلًا:
_لا
يوجد نبض، لقد ماتت!
***
مواعيد النشر: الأربعاء
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة