(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
( حجر الأفاعي)
كانت سيبال المتعجلة
بينهم، فهي تتوق لمعرفة المزيد عن المغامرة التي ساقها القدر لهم، وتبرق عينيها
بنظرة التحدي وهو تقول:
_ما
هي الأسرار التي يجب أن نعرفها أيها الخال؟! إنني متلهفة لأعرف!
حركت مارت رأسه بانسجام
مع كلماتها الرقيقة الفاتنة التي تنبثق من بين شفتيها المكتنزتين كحبات من اللوز،
لم يرفع عينيه عن وجهها الدائري الأبيض المتوهج، التي تأجج بحمرة باهتة؛ لدفئها
بالقرب من النار التي تتأجج داخل المدفئة، ونظرة الامتنان كانت جلية في عينيه لجلوسها
مقابله.
نقل الخال أدريان نظره
بين وجوههم وأعينهم التي غزاها الفضول وهو يقول:
_إن
لورا أخبرتكم عن معركتنا الأزلية مع الساحرة شمط، ولكن مالم تخبركم إياه أننا إلى
الآن لا نعرف لها طريق أو سبيل.
صمت لبعض الوقت كأنه يفكر
ثم أردف:
_من المؤكد أنها تعرف
تحركاتنا جميعًا وتسبقنا بخطوات عديدة، إن شمط لم تظهر منذ إلقائها اللعنة على قصر
سلمون.
نطق الثلاثة بصوت
واحد:
_نحن
منذ قدومنا نسمع بتلك اللعنة! ولكن ما هي تلك اللعنة لم نعرف إلى الآن؟!
اكتسح الحزن ملامح الخال
أدريان وهو يوضح لهم:
_تلك
اللعنة حلت على أجمل وأقدم قصر في مالطة، قصر فريد من نوعه يشبه القصور في حكايات
الأجداد الخيالية، فحولته لقصر ثلجي الشتاء فيه دائم والجو شديدة البرودة بشكل لا
يحتمل.
ظهرت ملامح القلق على
وجهه وهو يكمل كلامه:
_ومن
يدخل إلى دهاليزه يصعب أن يخرج منه كما كان!
كانت سيبال أول من نطق
تستفسر معنى كلامه:
_ما
الذي يحصل لمن يدخل هناك!
_لا أحد يعلم الحقيقة
كاملة يا ابنتي، فأنا وجدة لورا خرجنا منذ زمن غابر دون عودة، هربنا من بطش السحر
على عقولنا، ولكن الأخبار تُهمس في أذني بين الحين والآخر "الكثير من الناس
فقدوا من براثن القصر، دون معرفة السبب أو الطريقة لخلاصهم"
ولكن أنتم الأمل يا
أبنائي بداية من الخريطة التي وجدها مارت، إلى القلادة التي أنارت لكم الطريق،
ووصول إلى كوخي هذا، فكوخي مسحور أيضا وليس كل الأشخاص يستطيعون الدخول
إليه.
عادت كلير أدراجها
بذاكرتها عندما رأوا الكوخ على مسافة قريبة، بدأوا يركضون باتجاهه، حتى مر عليهم
يوم وليلة دون أن يستطيعون الوصول، فظنوا أنه سراب وليس حقيقي، لا يعرفون كيف
سحبتهم الكثبان الرملية ليصلون إلى فناءه بعد أن فقدوا الأمل في دخوله!
هز الخال أدريان رأسه
كأنه فهم مغزى تلك النظرة في أعينهم، وأردف قائلًا:
_لا
بد أنكم سألتم أنفسكم مئات المرات، لماذا نحن الفرسان؟! وما علاقتنا بهذا القصر
حتى نأتي من زمان غير زماننا ونخلصه من لعنه لا نعرف عنها شيء.
والإجابة لهذا السؤال
ليست لدي، لكنكم ستعرفونها حتمًا من خلال مغامرتكم، وأنا علي أن أرشدكم للطريق
الصحيح والباقي سيكون عليكم معرفته، فالأسرار والخفايا كثيرة يا أبنائي.
وقف متكأ على عصاه وهو
يقول:
_نصيحتي
الأولى لكم، ألا تخبروا أحد أنكم الفرسان، احتفظوا بهذا السر لأنفسكم ولا تعطوه
لأحد، ونصيحتي الثانية لكم ألا تستخدموا قدراتكم إلا وقت الحاجه القصوى؛ كيلا
يكتشف أمركم بسهولة.
قاطعه مارت قائلًا:
_عن
أي قدرات تتحدث؟!
أجابت لورا:
_انتظر
يا مارت فالخال لم ينتهي من كلامه.
_نعم يا مارت تلك الأجسام
ستمنحكم قدرات خارقة بمساعدتنا، لكن ستظهر لكم في الوقت المناسب، فكل واحد منكم
يملك قدرة عجيبة، حتى أنا ولورا لا نستطيع معرفتها، قد تظهر اليوم وقد تظهر غدًا
وقد تتأخر كثيرًا حتى تظهر، لكنها في النهاية ستظهر لصاحبها في الوقت
المناسب.
اتجه بنظره إلى مارت وهو
يقول:
_أنت
من وجدت الخريطة صحيح؟!
_نعم أنا من وجدتها في
الأرض القريبة من مزرعة فريد.
وحول نظره إلى
سيبال:
_وأنت
من وجدت القلادة صحيح؟!
_نعم وجدتها في لحاء
الشجرة.
أخرج من جيبة حبل صوفي
مجدول بخيوط ملونة، في وسطه دائري زجاجية، في داخلها بلورات صغيرة متفرقة بحجم
حبات الرمل فوضعه بيد كلير، خطا بعصاه مثلث عكسي باللون الأسود الفحمي في منتصف
الغرفة وبداخله مربع يصل بين أطرافه، ثم طلب من الفرسان أن يقف كل شخص منه في
زاوية من زوايا المثلث، وأن يحمل مارت الخريطة وكلير السوار وسيبال القلادة ويضموا
أيديهم إلى منتصف المربع، نفذ الثلاثة طلبه.
وجه عصاه إليهم وهو يقول
طلاسم غير مفهومه، كانت بلغة لم يسمعوها في حياتهم، نشأت نار في منتصف أيديهم
لكنها لا تشبه النار الحقيقية، إنما على النقيض منها تشبه قطع من الجليد، ولا تزال
أيديهم متشابكة ومتلاحمة كأنها قيدت بسلاسل من حديد والتصقت بلاصق يصعب انتزاعه،
شعروا بوخز في أسفل رقبتهم، وما يزال الخال يكرر تلك الطلاسم، حتى شعر الثلاثة
بثقل على صدورهم كأن قطار يمر فوقهم.
خروا على ركبهم بنصف
انحناءة كجسد واحد، يرون شعاع يدخل لمنتصف المربع ثم يتوجه إلى رقابهم بخط شبه
مستقيم، كل ذلك مر خلال لحظات شعروا من خلالها أن الثانية بساعة، والساعة بسنة
والسنة بدهر، وعندما اختفى الشعاع وعادت أيديهم متحررة لطبيعتها السابقة.
كانوا في دوامة تدور أو
زوبعة لا يرون منها إلا وميض برتقالي يشبه ضوء النار في منتصف السواد
اللامتناهي، وعندما توقفت الأرض عن الدوران من تحت أقدامهم، وقفوا مترنحين
على الأرض يضربون ببعضهم، ووضعوا أيديهم على رقابهم يتحسسون الندوب التي شعروا
أنها ظهرت، ركضت سيبال إلى أقرب مرآة لترى ما حصل معها تبعتها كلير ومارت، شهقت
وصرخت بكل قوتها:
_يا
إلهي ما هذا؟!
أشاحت بوجهها عن المرآة
ثم عادت تمعن النظر لتلك الندبة التي ظهرت على رقبتها باللون الأسود، تشبه الحروق
التي تجمعت لتشكل لوحة فنية مصغرة، كائن أسطوري بجسد حوت رافع ذيله العريض
والمقسوم من المنتصف إلى الأعلى وباسط جناحيه إلى السماء كأنه يتهيأ
للطيران.
مررت أصابعها على تلك
الندبة التي ظهرت خلف أذنها اليمنى، وظهرت لدى كلير ومارت في نفس الوقت، وقف
الثلاثة على خط مستقيم أمام المرآة يرون انعكاس صورتهم الجديدة مع ذلك الوشم، تقدم
الخال أدريان من خلفهم وهو يقول:
_الآن
أصبح بإمكانكم الدخول إلى القصر دون أن يعرفكم أحد.
_ما هذا الندبة التي ظهرت
لنا؟!
_إنها ختم قصر السلمون
على الأجساد، لا يمكن لأحد أن يدخل القصر دون أن يمر على بيت الوشم الناري ويضع
هذا الختم، لكن أنا صنعته لكم بقدراتي الخاصة كيلا يكتشف أمركم "وأنكم
المحاربون الثلاثة"؛ فالأساطير تقول أن الفرسان لا يوشم على أجسادهم، وهذا
سيكون درع حماية لكم؛ فالأعين التي تتربص أخباركم عديدة، وشمط لا يمكن أن تتبعكم
داخل قصر السلمون، إنما هناك من يساعدها في الداخل فلا تكونوا في مأمن من
شرورها.
كانت كلير أشدهم تأثرًا
عندما قال الخال أن هذا الختم من النار!
ما تزال تتخيل كيف يمسك
بالناس، يوضعون في حجرة خاصة لهذا الطابع يثبتون أجسادهم، ويضعون الطابع الحديدي
على نار لاهبة كالجمر المتقد ثم يضعونه فوق أجساد الناس كعلامة فارقة، لم تتخيل
تعذيب كهذا في حياتها، سقطت الدموع لا إراديًا من عينيها وأشاحت تلك الأفكار التي
تهاجم رأسها وهي تقول:
_يا إلهي! لا أستوعب كل
هذا الإزلال للنفس البشرية، إذا كان كل من في القصر يضعون هذا الوشم كعلامة فارقة
بينهم، فما خفي سيكون أعظم! أرى أن مهمتنا أشبه بالمستحيل.
هز الخال أدريان رأسه
بتفهم، وكشف عن ذراعه ليظهر وشمه أيضًا، اقترب الثلاثة يطالعونه بتمعن، كأنهم
يرسمونه في مخيلتهم، ومارت التهمه بعيني رسام، سرعان ما أسدل الخال أدريان كم
قميصه وهو يقول:
_ما لا تعرفينه يا كلير
أن هذا الرمز فخر لأبناء قصر السلمون، بل إن أحدهم يضع أكثر من وشم على جسده في
مناطق متفرقة، إن هذا الرمز هو رمز الأمان بالنسبة لهم، قد يخرجون من القصر يومًا
بهذا الندبة، لكن من المستحيل أن يتعرض أحد لهم، ستفهمون ذلك مع الوقت يا أبنائي.
كانت لورا تلحق بهم من
مكان لآخر كأنها تريد أن تتفوه برأيها لكنها لا تجد الوقت المناسب، تبصر الأمور
حولها بعيني ترقب إلى أن قاطعتهم قائلة:
_أشعر
أن الوقت اقترب أيها الخال أدريان، علينا أن نغادر فالخطر قريب منا كثيرًا، أشعر
بذلك من الذبذبات الهامسة.
ارتعد قلب الثلاثة فما
رأوه إلى الآن يكفيهم أعوام، ولم يفهموا مغزى كلامها بدأوا يتساءلون:
_ما
الخطب الجديد؟!
تبسم الخال أدريان وأثنى
على شجاعتها وأنها تخاطر بنفسها كل مرة لتنقذ من تستطيع إنقاذه، تعجلت لورا
الفرسان للخروج من القصر وهم يحملون أدواتهم:
_ستفهمون
كل شيء في الطريق، علينا أن نخرج الآن فالخطر سيطولكم إن لم تخرجوا.
تناهى إلى مسامعهم صوت
ضوضاء قوية في الخارج، تقترب من الكوخ كثيرًا، طلبت لورا من الفرسان الوقوف بالقرب
منها، في المربع الذي رسمه الخال أدريان على الأرض، وبحركة من يدي لورا وعصا الخال
أدريان وجدوا أنفسهم داخل كثبان رملية نقلتهم لخارج الكوخ كما دخلوا إليه، وعندما
ابتعدوا عنه لاح لهم كسراب كما رأوه في المرة الأولى.
وقفوا الثلاثة يمعنون
النظر لداخله وخارجه، كان هذه المرة كانعكاس لوحة شفافة يمر من خلالها الضوء، رأوا
الكوخ بشكله الحقيقي، يقبع على حجر للأفاعي، مليارات من الأفاعي من كل الأشكال
والألوان، يمدون رأسهم لخارج الكوخ الذي كان يموج كأنه في إعصار وسط ذلك الفوج
العظيم من الأفاعي.
رأوا الخال أدريان قد
أوصد النوافذ بعد أن بدأوا يزحفون متسلقين الجدران والأسطح كأنهم سيل ترابي حتى اختفت
معالم الكوخ من عددهم الهائل.
لم يكف الخال عن قراءة
التعويذات؛ كي يحميه من غضبهم، ما هي إلا دقائق حتى عادوا إلى جحرهم واختفى كل شيء
مع ضربة عصا الخال في فناء الغرفة، عاد كل شيء إلى طبيعته وعادت الأفاعي إلى
مسكنها تحت الأرض، هدأ البيت من الإعصار الذي ضربه به، وعاد كأنه بقبع على الأرض
من جديد وسط ذهول الفرسان الثلاثة، فقد شلت حركتهم وضاعت كلماتهم من هول ما رأوا
هل كان يقنطون في هذا الخطر ليومين، عقولهم لم تستوعب ما رأت للوهلة الاولى.
تبسمت لورا من ألوانهم
التي خطفت واستحالت للون أصفر داكن وهي تقول:
_أخرجتكم
قبل أن تكونوا لقمة سائغة لذلك الفوج، كان علينا أن نسرع الخروج؛ فالأفاعي لا تحب
الزوار في بيت الخال أدريان، اعتادت وجوده لوحده.
ران صمت مطبق من هول
الصدمة لم ينطق أحدهم بكلمة، ولم يسألوا المزيد من الأسئلة، ساروا خلف لورا التي
لم تكف عن كلمات الاستعجال لهم:
_هيا
فأمامنا مسير يوم كامل، ولتعلموا أن مغامرتكم لم تبدأ بعد.
نظر الثلاثة لبعضهم بذهول
وقالت سيبال:
_كل
الذي رأيناه ولم تبدا بعد!
مواعيد النشر: الأربعاء
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة