(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
( الوصول إلى القصر)
مشى الثلاثة خلف لورا
يتذمرون من رحلتهم التي طالت، عراة وسط الرمال الممتدة على بعد أنظارهم، ولكن
درجات الحرارة كانت تنخفض بشكل تدريجي، لم تعد الشمس متربعة وسط السماء، ولهيبها
يلفح الوجوه والأجساد، إنما الشمس ساطعة لكنها ألسنة البرودة في الهواء كانت أقوى
من ألسنة لهيبها، وكأن الشمس تمد أذرعها كعجور هرمة باستسلام، والهواء يناغمها
بجفافه فيسحب أنفاسها الأخيرة بصعوبة بالغة.
حتى أن الطبقة الرقيقة
الظاهرة من أجساد الفرسان بدأت تتشقق بفعل البرودة وتخرج منها نقاط من دمائهم، سرت
قشعريرة بأوصالهم، ولا تسمع سوى صوت صك الأسنان ممزوج بصوت الرياح التي تزمجر
بالقرب من آذانهم، لم تعد ثيابهم الرثة التي يرتدونها تقيهم البرد القارس؛ قررت
لورا الوقوف لتحضر لهم الثياب السميكة ليدفئوا أوصالهم، حاولت العديد من المحاولات
البائسة بيديها المرتجفتين أن تحضر بسحرها البسيط ثياب تدثر أجسادهم الشبه عارية
لكن دون جدوى، قوتها في النهاية كانت كافية لتشعل نار يدفئون بها.
مر ساعة أو أقل وهم
يجلسون حول النار ويحركون أجسادهم بين الحين والآخر ليحصلوا على بعض من الدفء
الإضافي، إلى أن رأوا سرب من الطيور السوداء الكالحة كأنها سحابة شتوية محملة بالمطر
تموج فوق رؤوسهم كما تموج أفواج البشر مجتمعة في ساحة واحدة، أسدلوا صرة قماشية
بالقرب منهم كانوا يحملونها بين مخالبهم، تبسمت لورا وهي تقول:
_لا
شك أن الخال علم أن سحري لن يجدي نفع ونحن نقترب من القصر، وأرسل لنا الهدايا التي
لم يسعفه الوقت ليحملنا إياها.
كشفت الصرة لترى بداخلها
ملابس تكفي الجميع وخيمة جلدية تقيهم البرودة التي انتشرت في الأرجاء.
كانت كلير أشدهم شعور
بالبرد والخوف والوحدة على الرغم من وجودهم إلى جوارها، شعرت أن قدميها ويديها
بدأت تتحول لقطعتا جليد، وأن دقات قلبها تنخفض بشكل ملحوظ، تقدمت بسرعة إلى
الملابس، انتشلت دون عناء قميص مخملي سميك وطويل باللون الكستنائي، مرصع بأزرار
جانبية، يصل إلى أسفل ركبتيها وفوقه غطاء من الفرو يصل لمنتصف ظهرها، وأما الحذاء
الجلدي فكان بساقان مرتفعان يغطيان ما ظهر من أقدامها، حملتهم دون تفكير ودخلت إلى
الخيمة التي انتهى مارت من صنعها قبل ثواني معدودة.
وما هي إلا لحظات، حتى
خرجت وهي تربط الشرائط التي تدلت من الغطاء الفروي حول عنقها، ولبست الأكف وهو
تقول:
_لم
أشعر بهذا الدفء من قبل!
لم تتردد سيبال بالدخول
بعدها والتي كان نصيبها من اللباس قميص يشبه قميص كلير إلا أنه مزين بالفراء
الرمادي من جهة الأكمام والقبعة وتوسطه حزام عريض يطوق منتصفه، وحذاء يشبه حذاء
كلير باللون الأسود، أما لورا ارتدت رداء من الفراء طويل يتبعها أينما اتجهت،
ويخفي ملابسها الذي رفضت خلعها بحجة أنها ستعود قريبًا ولن تكمل الطريق معهم.
كان مارت آخر من بدل
ملابسه، خرج يرتدي بنطال وسترة بفراء ناعم تشبه فراء الثعلب أو الأرنب من الداخل،
أما من الخارج فلها ملمس جلدي سميك كجلد تمساح لا تخترقه أقوى العواصف، ولم ينسى
الأكف الصوفية باللون الترابي، ومع قبعة سميكة حتى تحمي رأسه من البرد الذي هاجمهم
فجأة.
جلسوا جميعًا داخل الخيمة
ينظرون لأشكالهم التي تبدلت بالملابس الجديدة، يرسلون ابتسامات بين الحين والآخر
كأطفال فرحين بملابس العيد التي انتظروها كثيرًا، وينتظرون انقشاع الضباب الذي حط
رحاله بالقرب من المكان ليحجب الشمس والرؤية عنهم، كان ذلك الوقت المناسب لتشرح
لهم لورا عن الأدوات التي بين أيديهم وكيف سيستخدمونها، استجمعت كل ما حفظته من
جدتها خلال السنوات الماضية، وطلبت منهم أن يخرجوا أدواتهم قائلة:
_هذه
الأدوات ستكون سلاحكم السري، عليكم أن تحافظوا عليها؛ لتجمعوا بها الأحجار
البلورية، وتتمكنوا من وضعها في كهف الظلمات بعد أن تنتهوا من مهمتكم هذه.
أردفت قائلة:
_لا
أحد سيرى تلك الأحجار غيركم، قد تجدونها ضمن حائط أو حتى في جوف حيوان أو جوف
بحار، فلا أحد يعلم مكانها، لكن عندما تحصلوا عليها احذروا أن تفقدوها، فهي الكنز
الثمين التي يتربص به الجميع.
قالت سيبال بنبرة أقرب
للسخرية:
_ما
هذا الهراء، كيف سنعرف تلك البلورات ونحن لم نرها في حياتنا؟!
_انتظري حتى نسمع إلى
النهاية يا سيبال!
اخرجت لورا من جيبها
قارورة صغيرة، تشبه الدواء في عصرهم وقالت:
_هذا
الترياق الذي سيساعدكم في ظهور قدراتكم وفي رؤية الأحجار البلورية أيضّا، والخريطة
التي بين يديك يا مارت ستهتز كما ستهتز قلادتك وسوار كلير عندما تقتربوا من تلك
الأحجار.
وضعت يديها خلف ظهرها
وأخذت تذهب وتعود داخل الخيمة قائلة بنبرة تحذير:
_سيجمع
كل شخص منكم ثلاث بلورات والبلورة الأم ستكون باجتماعكم أنتم الثلاثة، وأنا أنصحكم
أن تتفرقوا عندما تصلون إلى القصر، وتجتمعون في أوقات محددة؛ كيلا تثيرون
الشبهات.
ستصلنا أخباركم كل يوم،
سنحاول مساعدتكم قدر الإمكان، لكننا كما شمط لا نستطيع الدخول إلى القصر، وأنتم
أيضًا إذا قررتم يومًا الخروج لن تتمكنوا من الدخول إلى هناك مرة أخرى، ليكن هذا
في علمكم من الآن.
وضعت يدها فوق أيديهم
التي تحمل الأدوات وهي تقول:
_أنتم
أملنا، ونرجو ألا تخيبوا ظننا، نحن واثقون أنكم ستنجحون في تلك المهمة.
استشعر الثلاثة في تلك
اللحظة حجم المسؤولية التي ألقيت على كاهلهم، كانوا كأنهم أمام معضلة يصعب حلها،
أو لغز عجز الجميع عن الإتيان بجوابه، تسلحت سيبال بقوتها وراحت تزأر كلبوة وهي
تسحب يدها وتقول:
_نحن
لها! لا تقلقي.
تردد مارت برهة من الزمن
ولكنه تبعها بحركة مماثلة، كانت تعجبه جرأتها ويعشق تفاصيلها، أصبح يتنفس حبها
ورجاحة عقلها، وقوة شخصيتها، واستطاعتها التأقلم على أي وضع جديد بسرعة رهيبة،
بقيت يد كلير ممدودة، فضمتها إلى صدرها محاولة احتضان نفسها والطبطبة عليها، هربت
دمعة من عينيها، تقدمت إليها لورا واحتضنتها قائلة:
_لما
البكاء؟! أنا سأكون معكم يا كلير لا تخافي، إن لم يكن بجسدي فبروحي وقوتي، لن أسمح
لمكروه أن يمس شعرة من شعرك الجميل هذا، أنت مقاتلة وفارسة ستنقذين شعبًا بأكمله؛
يجب أن تتحلي بالصبر والقوة، ولا تتساقط حبات اللؤلؤ من عينيك إلا لأمر جلل، فهذه
اللؤلؤ نادرة جدًا ألا تعلمين ذلك؟!
شدت لورا على كتفيها
وراحت تمسح شعرها مرة وخدها مرة أخرى، تحاول أن تهدأ من روعها، وتبث فيها بعض من
طاقتها الإيجابية؛ لتعزز ثقتها بنفسها وتكون قادرة على الصمود في وجهة العقبات
التي ستواجهها.
اقتربت سيبال منها وهي
تقول:
_لن
أتركك وحيدة يا كلير مهما حصل، فنحن كالجسد الواحد، إذا أصاب عضو منه ألم تداعى له
البقية.
هزت كلير رأسها محاولة
مجاراة حديثهم بابتسامة مصطنعة، لكن تلك الابتسامات التي تطلقها في وجههم ووجه
الحياة؛ تخفي ورائها حزن عميق ومشاعر مكبوتة تهاجمها بين الحين والآخر.
تصارع مشاعرها في الليل
كأنها وحش كاسر ينهش رأسها ويهشم عظامها وتستيقظ صباحًا؛ لتبدأ من جديد بنفس
الدوامة، سائرة نحو المجهول، بخطا مترنحة تخشى أن تعود لتلك النقطة
السوداوية.
وتعود وتواجه وتصارع، لكن
بقلب ميت تألم كثيرًا، نال من المحيط ما جعله يتنفس فقط، كأن لسان حاله
يقول: ترى هل رأيت ميت يبحث عن النجاة وهو يحفر قبره بيديه؟!
لقد استملك الحزن قلبها
وأصبح وشاح يغطي جميع جوانبها، ترجمته بالابتعاد عن البشر، الهالات السوداء تحت
عينيها، والمسكنات التي باتت جزء من روتينها اليومي، عاشت حياتها هكذا إلى أن رضيت
بها، ولم تحاول تغيرها حتى، كانت تسبح كالسمكة وسط التيار، أينما ترمها الأمواج
تسير دون مجابهة، فقط جابهت كثيرًا حتى توقفت في النهاية عن ذلك.
جلسوا داخل الخيمة بالقرب
من النار التي اضرمت في المنتصف، يتسامرون وينتظرون أن ينقشع الضباب، حتى غفى كل
واحد منهم في جهة، رأى مارت كابوس لفريد يقترب منه ويرمي دلو الماء البارد على
جسده، شهق ووقف منتصبًا وهو يقول:
_ما
تزال تلاحقني إلى هنا.
سرت قشعريرة في جسده كأن
الماء سكب عليه فعلًا، تذكر فريد وما كان يفعله به، وكل التعذيب الجسدي الذي عاشه
تحت يديه لم يكن وقعه كوقع كلماته ونعته له "بالأبله"، حتى أنه كاد أن
يصدق في النهاية أنه أبله فعلًا.
استيقظن
الفتيات على صوت صراخه، وقفوا بتأهب ظنن منهم أن مكروه قد حصل، لكنه طمأنهم أنه
كابوس لا أكثر، نظروا خارجًا ليروا الضوء الذي ينذرهم ببدء يوم جديد دون ضباب لكن
البرد كان شديد، ودرجات الحرارة كانت تنخفض شيء فشيء، تركوا الخيمة خلفهم، وآثار
النار الذي كانت متقدة في الأمس، وساروا إلى وجهتهم الأخيرة نحو قصر السلمون، مشوا
مسافة ليست بقصيرة، لاح لهم القصر من البعيد، سماء وجبال وأرض، وماء كلها مغطاة
بالثلوج، ترى هنا هيمنة اللون الأبيض، الذي طغى بجبروته وبرودته القاتلة على بقية
الألوان، لم يميزوا بين أشجار أو بيوت، بين طريق مائي أو ترابي، إنما درج بلوري
طويل وممتد، يتربع القصر في نهايته على جبل شامخ كشموخ علم في نهاية تلة.
فركت سيبال عينيها بيديها
التي آلمها الضوء الساطع الذي يعكسه اللون الأبيض والذي غطا كل شيء ممكن أن يخطر
على ذهنك، قالت كلير بتعجب وهي ترفع نظرها إلى القصر الثلجي:
_حتى
في قصص الخيال لا توجد قصر كهذا، فهل هذا حقيقي؟!
تقدمت لورا بضع خطوات
ورفعت سبابتها وهي تشير إليه:
_هناك
في الداخل ستعرفين إذا كان حقيقي أم لا، سيكون هذا مسكنك من الآن وصاعدًا.
وأردفت بحزن رسم عينها
الذابلة:
_أنا
هنا حدودي أيها الفرسان، لكن استطعت أن أؤمن لكم الطريق إلى القصر، ستركبون عربة
تشبه عربة التزلج، حان موعد دخول الرقيق إلى القصر، وهذا سيسهل أمر دخولكم دون
شبهات.
حملت بين يديها ترياق
القدرات كما وصفته من قبل، ووضعت في فم كل واحد منهم نقطتان أو ثلاثة وهي
تقول:
_هذا
سيساعدكم على استكشاف قدراتكم، لكن ليس الآن عندما يحين الوقت والمناسب.
وكانت خطوتها الأخيرة أن
أحاطتهم بهالة من الضوء وهي ترسم بيديها خطوط متعرجة حول أجسادهم، نظر الثلاثة إلى
ملابسهم التي أصبحت قديمة ومتسخة، وإلى ملامحهم التي صارت طينية قاحلة كأن التراب
مزج بالماء ولطخ به على وجوههم وأيديهم، قالت لورا أخيرًا:
_أنا أسفة كان لابد من
فعل ذلك، فليس من المعقول أن تكون ملابس الرقيق بجمال الملابس التي
ترتدونها.
لم تكمل كلامها لورا حتى
ظهرت العربة من البعيد تقترب منهم بسرعة كالريح، يقودها اثنان من الذئاب الشرسة،
ربط لثام حول فمهم ليساعد السائق أن يتحكم بهم، كانا يترنحان في مكانهما بقوة
عندما همست لورا بكلمات غير مسموعة لسائق، فنزل من العربة وأخبرهم بأن يتفرقوا ويجلس
كل واحد منهم في زاوية من زوايا العربة، كانت العربة تشبه يقطينة كبيرة ملتفة
وتتخللها زوايا كالخطوط تحصر الأشخاص بداخلها إلى المنتصف، وبداخلها مجموعة من
الفتيات والفتيان، لهم هيئة تشبه هيئة الفرسان التي غيرتها لهم لورا، صعد الفرسان
على مضض وجلسوا حيث أشار السائق كل واحد منهم في مكان، وغطا العربة بأغصان الزيتون
ليخفي ما فيها، استطاعت كلير أن تنظر من خلال شق صغير بين أغصان الزيتون، للدرج
الممتد الذي تجاوزته العربة مغادرة إلى طريق فرعي آخر معلنة أنها المحطة الأخيرة
لهم.
مواعيد النشر: الأربعاء
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة