الفصل السادس عشر سيصدر يوم الثلاثاء القادم بإذن الله
(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
أمطرت
السماء على هذا التابوت الذي يحمله ثائر وفدريكو وبقية الرفاق، تسبقهم عشرات
الدراجات النار،
بينما
السيارات السوداء الفاخرة تحفُّهم من الجانبين.
لم
تكن سيارات ثائر ورفاقه وحدهم؛ بل حضر أمير الكريستال بسربٍ من السيارات والعشرات
من الرجال
المرتدين
للسترات الجنائزية السوداء، بالإضافة لعدد آخر من عوائل المافيا المدثورة، ليجعل
من جنازة نورينا
جنازة
فاخرة تليق بملكة أو أميرة لمملكة مرموقة.
حفر
ثائر اللحد بنفسه ولا زال وجهه يحمل القسمات ذاتها؛ الجمود التام والأعين الذابلة
كأن الحياة قد ذهبت
عنه.
بينما
إجهش فدريكو في البكاء حتى صار من في مؤخرة الجنازة يسمع نحيبه وعويله لفقدان
نورينا.
فنورينا
هي من احتضنت هؤلاء الفتية في صباهم، وهي من حافظت عليهم في شبابهم ومنعتهم من
الفُرقة
والشتات
حينما اشتد عودهم.
أدارت
الأمور وحلَّت المشاكل واستمعت إلى المكروب؛ فلم يعرف أي من هؤلاء الرفاق أُمّاً
غير نورينا،
فجميعهم
إما لُقطاء أو مشردين يهيمون في الشوارع.
انتهى
ثائر من الحفل وتناوب الجميع على نورينا لتقبيل أناملها ومس وجهها للمرة الأخيرة
كأنها شخص
مقدس
يتباركون بلمسه؛ فقد ذهبت من احتضنتهم أيتامًا.
لم
يستطع فدريكو أن يرمقها بنظرة الوداع فلا زال لم يُصدق ما حدث؛ ولا زال رافضًا لكل
شخص يخبره أن
نورينا
قد ماتت.
كأن
هذا الرجل الغليظ عريض المنكبين، محض طفل فقد والدته ولا يوجد من يحنو عليه.
في
حين قبَّل ثائر أناملها، وألصق جبهته بجبينها قائلًا:
-لقد
اعتنيتِ بي صغيرًا، وكنتِ لي الأم كبيرًا، ولم أستطع إيفاء ديني لكِ إلى الآن،
حملتي عني الكثير
وأخفيتِ
عني ما يؤلمني، ولا زلتُ كما أنا؛ هذا الطفل الذي نهرته مرارًا على تنفسه التبغ.
تبسم
وهو يعتدل ليرمق وجهها الهادئ الساكن كأنها لم تمت غدرًا، ثم نهض قائلًا بمرارة:
-سُحقًا،
لا زلتِ لم تحقدي على من آذاكِ، فلترقدي في سلام أيتها الأخت نورينا.
ثم
وضع تابوتها في قبره لتُلقى عليه باقات الزهور من الجميع حتى من أمير الكريستال
نفسه.
وشرع
ثائر في دفن جسدها بالتراب في تردد كأنه لم يُسلّم بعد لمغيبها عنه للأبد.
كان
الأمر شاقًا ثقيلًا عليه رغم أنه أمام الجميع يهرق الرمال عليها إلا أن قلبه كان
يبكي دمًا في طياته؛
يبكي
من الوحدة التي تركته بها نورينا، من اليُتم الذي تركته به نورينا، من الشقاء
والفراغ الذي تركته فيهما
نورينا.
بعد
انتهائه، وقف أمام الجميع بحُلته السوداء المتعكرة بتراب الدفن، ثم قال متصنعًا
الصلابة؛ فهو الزعيم
والقائد
والشقيق الأكبر رغم كل شيء:
-لن
أخبركم بالمواعظ اللعينة، ولن أُحضر قسًا ليجعلكم تتثاءبون من الملل، ببساطة لقد
ماتت نورينا..
عند
تفوهه بإسمها إنكسرت صرامة صوته، وألانه الحزن رغمًا عنه ليجعل من ظَل متماسكًا
ينهار بالبكاء.
حتى
أن كاترين لم تُصدق أن هذا هو الشخص الصلب الذي تدق غريزتها ناقوس الخطر كلما
رأته، لقد بدا
حزينًا
واهنًا لدرجة جعلتها تشعر ببعض الإشفاق المُبطّن نحوه؛ فلا يجعل الحديد الصلب
ينصهر ويلين سوى
حِمَمًا
عذّبته وأذاقته من الويلات ألوانًا.
في
حين كانت آسيا تراقب من بعيد، متخفية بنظارة واقية من الشمس وقبعة تُخفي شعرها
الكستنائي، وحُلة
فضفاضة
تُخفي قسمات جسدها حتى لا يتعرف عليها أحد.
انتهت
المراسم وتلقى ثائر ورفاقه التعازي من الجميع، حتى أتى الدور على أمير الكريستال
الذي لم يكتفِ
بالمصافحة،
بل احتضن ثائر في دهشة عارمة من كاترين.
لكن
دهشتها لم تستمر كثيرًا؛ فهي على علم بالإعجاب الذي يكنه سباليتي للوريث الهجين
وان كان هناك
بصيص
من العداء بينهما.
فكان
نظرها وتركيزها منصب على فدريكو؛ هذا الرجل الذي أضحكه الموت وضجيج المعارك وأبكته
امرأة
عجوز.
كان
رحيمًا بطبعه وليس كالبقية؛ فلم يقتل أعزلًا ولم يمس طفلًا، ولم يبع سمومًا إلا
وأخبر مبتاعها أنه
سيموت
إن لم يتحرر منها.
تعشقه
القطط رغم مظهره الصلب، فرائحة الشر لا تصدر أبدًا منه.
بحكم
صداقتهما السابقة، دنت كاترين من فدريكو، وضمت رأسه إلى صدرها وربتت على ظهره
قائلة بمزاح
محاولة
التهوين عنه:
-إن
كنت أعلم أن هذا سبب هجرانك لي، ما كرهتك أبدًا.
ضمها
فدريكو إليه، ليس بدافعٍ شهواني أو أي شيء من هذا القبيل؛ فقط أراد أن يشعر
بالحنان الذي كانت
تُضفيه
عليه نورينا ثانية.
كان
هذا المشهد أسفل أنظار سباليتي، لكنه لم يبالِ كثيرًا، بل وجه جل اهتمامه لثائر
قائلًا:
-لقد
فقدت عائلتي ذات مرة لكنني لم أكن حزينًا هكذا.
رد
عليه ثائر وهو ينفث أدخنة التبغ:
-أجل؛
فعائلتك معشر من الأوغاد.
قهقه
سباليتي بخفوت، ثم قال:
-أشكرك
على قتلهم بالمناسبة.
مط
ثائر حاجبيه قائلًا بفتور:
-على
الرحب..
قبل
أن يُضيف:
-لمَ
أنت هنا حقًا أمير الكريستال؟
سباليتي
بحزن:
-فقط
أقف بجوارك أيها الوريث الهجين.
ثائر
بعدم اقتناع:
-أشم
رائحة فاسدة في الجوار.
أمير
الكريستال بتهكم:
-بالطبع
فنحن نقف في حضرة عشرات الجثث المتحللة.
هز
ثائر رأسه موافقًا وهو يقول:
-لا
يشترط أن يكون النتن يخص جثثًا، فأنا أرى أحد الأحياء له نفس الرائحة.
تظاهر
سباليتي بشم نفسه ثم قال باستنكار:
-لا
دون ثائر، أنا أضع عطر برادا الخلاب، ألا يصل إلى أنفك؟
نفث
ثائر أدخنة التبغ متأملًا السماء الغائمة وهو يقول:
-هات
ما عندك أمير الكريستال؛ فقد احترقت طاقة صبري ولم يبقَ منها سوى رمادٌ محترق.
سباليتي
بصدق:
-أنا
هنا لأجل العزاء فقط؛ فلم أرَ من السيدة نورينا سوءًا طوال فترة غيابك، كما أنني
أشعر بالأسى عليها
للماضي
الأليم الذي وضعها جدي به.
ألقى
ثائر عقب لفافة التبغ أرضًا، ثم دهسه بقوة قائلًا:
-لقد
قتلت جدك بسكين نحرت أوردته، واستمتعت حقًا بقتل هذا الوغد كأنني صَدتُ خنزيرًا
بري.
تبسم أمير الكريستال قائلًا:
-يُسعدني
أنك استمتعت دون ثائر، أنا أيضًا استمتعت برؤية عائلتي تموت..
ثم
أصدر تنهيدة ارتياح مضيفًا:
-كل
واحد منهم.
ثم
ربت على كتف ثائر قائلًا بتأثر:
-خالص
تعازي أيها الوريث الهجين، علّنا لا نأتِ لك في أحزانٍ أخرى.
ثم
تمتم وهو يهم مغادرًا:
-لأجل
ذلك، لا تصطدم أبدًا بتجارتي.
في
حين تبسم ثائر بسخرية قائلًا:
-صرنا
في زمن يزأر به الشبل على الأسد.
أثار
تهكمه إعجاب سباليتي أكثر، فاكتفى بصمته وهو على يقين أن المبارزة مع ثائر خاسرة،
ثم اتجه للخارج
مناديًا
على كاترين:
-عزيزتي
اللامعة، لقد اكتفينا من المواساة اليوم.
أومأت
كاترين برأسها، ثم ربتت على صدغ فدريكو قائلة:
-يكفي
نحيبًا، صديقك يحتاجك في هذه الفترة، فلتتماسك يا رجل.
لم
تكن كاترين تهتم بشأن ثائر لتوصي فدريكو عليه، لكنها تعلم يقينًا كيف تُقظ فدريكو
وتتحكم في مزاجه، ولا
وسيله
لجعله ينهض ولو تكالبت عليه الدنيا سوى شخص عزيز يبذل الغالي والنفيس لأجله، ولم
تجد كاترين
من
هو قريب لهذه الدرجة من فدريكو سوى ثائر.
ثم
تبعت أمير الكريستال إلى الخارج ملوحة بيدها إلى فدريكو قائلة:
-سأراك
ثانية.
في
حين عاد ثائر على رأس رجاله إلى وكرهم من جديد، لم يدع لأحدهم الفرصة للراحة
والنحيب، بل أرسلهم
في
فرق لإقامة الحواجز والظهور في الشوارع من جديد، فجسد عاطل سيخلو بعقله، وحينما
يحدث ذلك
ستعذبك
رأسك أشد العذاب.
حينما
انفض الجميع عن ثائر، دنى منه فدريكو متسائلًا:
-ماذا
بشأن مارتينا؟
تبسم
ثائر متسائلًا:
-ألم
تتساءل من قبل لمَ سُميتُ ثائر؟
تمهل
فدريكو في الإجابة قبل أن يقول:
-لم
أقابل أيًا من والداك من قبل، لكن أظنه أرادك جبارًا غاشمًا تثور على العالم
بأثره.
أومأ
ثائر برأسه موافقًا ثم قال:
-قد
أحرق هذا العالم حتى أجد هذه اللعينة مارتينا وأدك رأسها حتى أجعل منه كومة من
اللحم المشوه..
بدا
ناقمًا غاضبًا وهو يتحدث حتى برزت أنيابه وهو يردف:
-من
الغد سيكون الحشد لدحر شرطة نابولي، سنقتلهم في الطُرقات والزقاق ونحرق مقراتهم،
سنتبول على
جثثهم
ونُيتم أبناءهم حتى يُخرج لنا هذا الوغد أريوزولا هذه المجرمة اللعينة لأقتص منها
في ميدانٍ عام.
أشعلت
الشراسة على محيا ثائر الرغبة الملحة لسفك الدماء بداخل فدريكو، فبرزت عيناه وانتفخ
جسده
وهو
يتوعد:
-حان
الوقت ليعود الوريث الهجين ورفاق الزقاق إلى الأذهان مرة أخرى.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة