BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الثالث والعشرون (محمد بهاء الدين)

 



(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))


في هذا النهار الحار، على مقربة من فوهة بركان فيزوف، سبقت كاترين فدريكو في تسلق الفوهة؛ فقد كانت

تفوقه في اللياقة والمرونة بشكل عام.

 

لكن عند لحظة ما شعرت أنه يتمهل عمدًا لأجل شيء آخر لا يمت للياقة بصلة، فصاحت ضاحكة حتى

يسمعها:

-أيعجبك المشهد من الأسفل أيها الوغد المنحرف؟

 

دوت ضحكات فدريكو الصاخبة وهو يُجيبها بصوته الغليظ:

-كشفتني، حينما يلتصق الأسود بالعرق يصير خلاب المنظر حقًا.

 

قهقهت كاترين، ثم هتفت:

-أحمق.

 

لم يحسبان كم مضى من الوقت وهما على هذا الارتفاع، لكن من المفترض أن يصير الطقس أكثر برودة

على هذا الارتفاع، فسألته كاترين:

-لمَ الطقس حار ونحن على مقربة من القمة؟

 

لم يسمعها أو لم يكن تركيزه منصب على حديثها فقد سحره قوامها السفلي، فرددت صارخة في غيظ:

-فلتُجب عليّ أيها الوغد، لماذا الطقس حار هنا؟

 

أجابها فدريكو ببساطة:

-ربما لأننا نتسلق بركانًا؟

 

شعرت أنها حمقاء بعض الشيء، مشتتة التفكير بسبب شدة الحرارة، لكن هذه لم تكن المرة والأولى؛ فقد ذاقت

حرارة مماثلة في افريقيا.

 

تصببت عرقًا بشدة وشعرت بالألم في أناملها وجسدها بالكامل، فربما أوشكت الشمس على الغروب وهم

يتسلقون منذ الصباح.

 

فسألت فدريكو وقد أوشكا على بلوغ القمة:

-أهناك بحيرة أو مياه جوفية في الأعلى؟

 

رد عليها فدريكو بسؤالٍ مماثل:

-لماذا؟

 

تمنت لو تنزع سلاحها وتُطلق عليه النيران لفرط غبائه، فصرخت به:

-حتى نستحم ونرتوي أيها الأحمق.

 

أطلق فدريكو ضحكة أخرى قائلًا:

-لا أذكر أن الاستحمام كان متوفر لنا في ساحة المعارك، كما أنكِ تزدادين لمعانًا كلما تعرقتي فتزداد شهيتي

لكِ.

 

حقًا جعلتهم حياة المعارك والأحراش لا يُلقيا بالًا لهذه الأشياء الثانوية، لكن إمضائها وقت مع أمير الكريستال

جعلها تتغاضى عن ذلك وتنساه.

 

فتنهدت بعمقٍ وإرتياح لعودتها لتكون رفقة شخص لا تقلق من الظهور أمامه بأي حالة كانت، ففدريكو كمرآة

لها؛ يراها ملاك فاتن في ثوبٍ بشري وإن بدت أمامه متعرقة مفعمة بأسود الغبار.

 

وصلت إلى القمة أخيرًا حيث هذه التُربة شديدة النعومة ذات المزيج بين الرمادي والأزرق، وهذه الرائحة

الكربونية التي ذكرتها على الفور بالبارود.

 

مد فدريكو لها يده قائلًا:

-بعض المساعدة هنا.

 

جذبته كاترين بيدٍ مرتعشة من فرط المجهود الذي بذلاه، ثم سالته بتعجب:

-ما هذا المكان؟

أجابها فدريكو مازحًا:

-هذه المرة الأولى لي هنا.

 

ثم أردف بشجن:

-منذ الصغر، تمنيت أن أصعد هذه القمة مع أحب الأشخاص إليّ.

 

إلتفتت إليه كاترين بعينان تطرفان في صمت؛ ليس لدهشتها بل لعجزها عن الرد على محبته الفياضة لها.

 

فهي فتاة لا تفهم سوى في الوثب وحمل الأثقال والملاكمة ولغة السلاح، جائعة لمن يمدها بالحب لكنها لا

تستطيع الرد بالكلمات.

 

وقد صارحت فدريكو بذلك من قبل؛ فلم تجد سوى الابتسام بشيء من الفتون وهي تقول:

-أيًا يكن ما يحدث بيننا، لا تكف عن الاعتناء بي وقول هذه الكلمات وإلا قتلتك.

 

إرتعشت من نفحة الهواء التي أصابتها لتعرق جسدها، فأحاطها فدريكو بذراعيه، ورفع جسدها الثقيل المفعم

بالعضلات ليطبع قُبلة عميقة على شفتيها.

 

اتسعت عيناها في دهشة من مبادرته السريعة؛ فقد اختذل التعبير عن ما في قلبه والحديث المعسول بقبلة

عميقة للغاية، كأنه متعافٍ من الادمان عاد للتعاطي مرة أخرى.

 

فإحتسى من هذا المذاق حتى ذابت ملامحها وتحولت للأحمر الحار وتحول بردها إلى نيران موقدة.

 

حينما تراجع سألته لاهثة:

-لماذا توقفت؟

 

أجابها ضاحكًا:

-لإلتقاط الأنفاس فحسب.

 

كافأته بضحكاتها الساخرة، ثم أطبقت بساقيها الممتلئتين حول خصره، وطوقت رقبته بذراعيها وهي تعود

أدراجها إلى شفتيه قائلة:

-أحمق.

 

ما ان ارتوى من شفتيها، حتى هبط لسانه ليلعق رقبتها اللامع، إلى أن توقف عند منابت عنقها فامتصها

امتصاصًا ليجعل صاحبة هذا الجسد المكتظ بالعضلات تتأوه بين ذراعيه، حينها سيطر عليه الوحش الكامن

بداخله والمشتاق لها، فوجد نفسه يجذب سروالها الداخلي الرقيق الذي يسترها، ويرفعه بشدة للأعلى ليزيد من

عذابها ويجعلها تصرخ من فرط المتعه.

 

ثم وضعها أرضًا وجذبه عنها ليرى ثمرتها المُبتلة ذات الشُعيرات الشقراء بين فخذيها، فلم يستطع كبح ثورانه

وانكب على التهامها بجوعٍ وعطش وهو يتذكر هذا المذاق الفريد والرائحة الخلابة التي أدمنها كالمخدرات.

 

انهارت كاترين تمامًا، وسقطت كل حواجزها أمامه، فإن كانت في الصباح هي المتجبرة التي تُبعده عنها

بكبرياء، فها هو ذا الآن بين فخذيها يلتهمها بشراهة وجوع كما لم يفعل سباليتي الواهن من قبل، فانغمست

في الأمر وأطبقت على رأس فدريكو بساقيها ثم استدارت لتجعله أسفلها وقد فقدت صوابها، ووجدت نفسها

تُفرغ بللها على لسانه وهي تتحرك بسرعة فائقة كأنها تمتطي حصانًا.

 

***

 

***

 

في هذه الأثناء كان ثائر يُدخن لفافة التبغ وهو يُطالع تقارير العمل التي أثقلت رأسه ويقارنها بخُطته التي

رسمها.

 

سرعان ما تبسم ساخرًا وهو يقول:

-هربتُ من هذه الأشياء اللعينة في ثمرة الجنة وها هي تعود لي ثانية.

 

ثم ترك الأوراق تنساب من بين أصابعه وهو يُتمتم:

-لقد عاد صديقك فدريكو ليحب مرة أخرى وتركك وحيدًا حسودًا يا ثائر، سُحقًا كم أشعر بالوحدة.

 

ثم نهض عن مقعده يرمق شوارع نابولي عبر النافذة وهو يهمس لنفسه:

-أهذا ما أردته حقًا يا ثائر، من يترك القصور ويعود لأجل هذه الخردة البالية، أخوفي من العودة للزقاق

والتشرد مرة أخرى هو ما أعادني لتغير ملامح هذه المدينة؟

 

تنفس التبغ ونفث أدخنته المختلطة بحُرقة الندم، ثم لعن ماضيه الذي كان به حفيد الدون كوستيلو زعيم عائلة

نوسترا؛ هذا الرجل العنصري البغيض الذي ظلم وهمّش طفلًا لم يتجاوز الثامنة من عمره بعد، بل من قبل

ذلك لكن ثائر لا يتذكر طفولته البعيدة.

 

نفث ألسنة التبغ مرة أخرى بينما ذاكرته تُريه أتباع جده ينهرونه أرضًا ثم يكيلون له الضربات بالهراوات حتى

هشموا عظامه.

 

ثم تركوه خرقة بالية لا يستطيع الحراك، لم يجهزوا عليه لأن أعداء الدون كوستيلو كانوا قادمين للنيل منه،

فترك حفيده ليشفوا غيظهم به ويتخلص منه في آنٍ واحد.

 

لكن رغبة النجاة اللعينة في هذا الطفل الأشقر أجبرته على الحركة بجسدٍ مهشم.

 

كان يريد الهروب من باب القصر لكن أعداء عائلة نوسترا قد وصلوا بالفعل.

 

فلم يجد ملاذًا سوى إلقاء نفسه من النافذة لتزداد عظامه المهشمة حطامًا.

 

نجى هذا اليوم إلى الشوارع والزقاق التي فتحت له ذراعيها؛ فلا مكان آخر يذهب إليه؛ أمه أخذها والدها

_الدون كوستيلو_ قسرًا، وأبيه لم يكن له وجود من قبل.

 

كان فتًا مرفهًا معتادًا على معيشة القصر في صباه، فذاق الويلات في الشواع التي لا ترحم.

 

فالمطاعم والمخابز ترفض إطعام المتسولين وتضع بقايا الطعام للقطط والكلاب الشاردة من باب الرفق

بالحيوان، ماذا عن البشر إذًا، من يرفق بهم؟

 

كان مجرد طفل لم يعلمه أحد أمور دينه، لكنه وثق أن هناك من يُدير كل شيء من مكانٍ ما، هناك من يراه

الآن وأسقطه في حاوية القمامة لأجل سببٍ ما.

 

توسل ودعى وتضرع بدمع طفلٍ صغير حتى يُنجده الله من هذا الجحيم ويُعيده إلى أمه فقط.

 

لكن الصلوات لم تُستجب وظل هائمًا في الطُرقات يلعق الثرى، لم يتحمل مثل هذه حياة وهو الذي لم يذق

مشقة من قبل.

 

فنال منه التلوث والحمى لطعامٍ تناوله من القمامة، فغزت عقله الهلاوس والأوهام؛ فهاهو يرى أمه الآن تبتسم

له وتُريح رأسه على فخذيها بينما تضع على جبهته خرقة مبلتة بالماء.

 

نطق بصوتٍ واهن لم يسمعه سواها:

-لقد كان كابوسًا مريرًا يا أمي.

 

دمعت عينيها وملست على شعيراته التي أخفى الغبار والطمي لونها الأشقر، ثم قالت بصوتٍ طفولي لا يمت

لصوت أمه بصلة:

-لا تقلق، ليس هناك ما يؤذيك بعد الآن.

 

تذوق الطعام غير الفاسد لأول مرة منذ عدة أيام فظن نفسه لا زال يهلوس، تجرع الماء فظن أنها عرق

المشقة يتفصد من جبهته فيلعقه لسانه.

 

لم يُرد ان يستفيق أبدًا إن كانت الأوهام بهذه الرأفة التي غابت عن الواقع.

 

رأى هذه الفتاة تبتسم له مُشهرة عن نابٍ قد فقده فمها اثر شجارٍ ما، وهذا الفتى الضخم بشوش الوجه يجلس

جوارهما.

 

سألها بلثانٍ واهن متثاقل:

-أين أنا؟

 

فأجابته بمرحٍ طفولي:

-منزلك الجديد، البالغون يسمونه الزقاق القذرة ونحن نسميه الوطن.

 

تساءل ثائر:

-نحن؟!

 

أجابته الفتاة معرفة بنفسها:

-أنا مارتينا، وهذا الضخم هناك فدريكو، وهذا الفتى الذي يرتدي النظارات رغم كون رؤيته تفوقنا جميعًا

يُدعى بانتي، أما هذا الأبلهان الذان يضحكان على الدوام فهم جيف ومانز.

 

هكذا كان اللقاء الأول بمارتينا ورفاق الزقاق، وهكذا بدأ ثائر يتخذ منهم عائلة، يسرقون الطعام وينشبون

المحافظ ويتسولون على المارة.

 

أمام قسوة الحياة الجديدة انفجر غضب ثائر، غضبه من والده الذي لم يُجد من قبل وتخلى عنه.

 

غضبه من أمه التي أرغمته على البقاء في كنف جده العجوز لأجل زعامة عائلة نوسترا والتي لن تنالها

يومًا.

 

غضبه وحقده على جده الذي مثّل له الشيطان الأعظم الذي يوكَل إليه تعذيب البشر في الجحيم؛ رجل بلغ

من الكبر عتيا وجميع من حوله يموتون إلا هو، كأنه أمضى عقدًا مع الموت أن لا يزوره قبل أن يحصد

أرواح الجميع.

 

فتحول هذا الغضب إلى عنف وبرود، يقاتل بأي شيء وكل شيء؛ كِسرة زجاج لا بأس، سكين، لا يوجد ما

هو أفضل من ذلك، شفرات حادة، تفي بالغرض.

 

فجعلته دمويته القائد على هذا القطيع من المشردين، وجعلته قيادته مسؤولًا عن المشردين جميعًا؛ فصار

يتنقل بين الزقاق ويوزع الطعام والشراب.

 

حتى بات يتبعه حشد كبير من الرفاق رأوا به الأمل والخلاص لنجاتهم من هذا الجحيم، إتخذوه أبًا رغم كونه

لم يتخطى الثانية عشر من عمره بعد.

 

حتى أتى هذا اليوم الأسود الذي تعرض لهم أحد رجال الكامورا فهم العائلة المسيطرة في نابولي والصدام بهم

حتمي.

 

ادلهم عليه رفاق الزقاق حتى نالو منه، لم يأتِ رفاق الرجل من الكامورا للنيل منهم لأن جميع عائلات المافيا

(الكامورا، نوسترا، الاوروكا) كانوا منشغلين بحربٍ عصيبة.

 

فقد اندلعت في أوروبا أجمعها سلسلة مع الحروب مع مافيا اخوان الشمس الروسية، فكان الجميع منشغلًا

بهذا الصراع.

 

فلم يبالِ أحد بحفنة من الأطفال اللقطاء يسيطرون على زقاق جنوب نابولي ذات الفقر المضجع.

 

فصار ثائر ورفاقه يغزون مراكز الكامورا التي لا تحتوي سوى على القليل من الحراس، ويسرقون السلاح.


***

مواعيد النشر: السبت

(((لقراءة الفصل الرابع والعشرين اضغط هنا)))

تعليقات