(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
(الرسالة الأخيرة)
_إلى هذا القدر تحبينه يا إيمان؟!
ألم تعلمي أن علاقتك به معاقة، عندما وقفت ولم تتقدم بإتجاه محدد؟!
_كنت ولا زلت أحبه، أعلم ولكن كنت ألهي نفسي بأمل زائف.
_قلبي يؤلمني عليك يا ابنتي.
_قلبي يؤلمني من بعده يا أمي، لو عاد الآن وأخذ بيدي وقال سامحيني، سأسامحه يا أمي، دون أن أفكر حتى.
_هل رأيت ميت يعود للحياة؟ إن حبك هذا مات بالنسبة له، حزينة من أجلك ومن أجل قلبك.
أردفت لكن ستتعلمين درسًا:
_إنها الحياة يا إيمان، كوني على ثقة بأن كل ما يأتي من الله هو الخير دائمًا.
عادت إيمان للبكاء، دموعها كينابيع لا تنضب، ودت والدتها لو تذهب إلى فرناس، أن تضع سهم في قلبه كما وضع سهامه في قلب ابنتها.
أمسكت يد ابنتها باستسلام، فهذا الألم لا بد أن تذوقه عاجلًا أم آجلًا:
_انظري إلى خلفك، إلى من حولك، قد يكون حلمك شخص، وأنت حلم أحدهم.
_لكني أحبه يا أمي.
_الزمن كفيل أن يغير مافي قلبك، كما غيره مشاعره تجاهك، سيغير مشاعرك أيضًا.
_أريد أن أنام.
_ألم تغيري هذه العادة السيئة، أخاف أن تنامي يومًا وأنت حزينة، ولا تستيقظين.
تمددت على سريرها، بللت وسادتها من كثرة دموعها.
تساءلت والدتها:
_كيف لي أن أخرج إيمان من تلك الحالة؟!
فكرت طويلًا، ثم تناولت هاتفها وحدثت أحدهم.
وبالعودة إلى حبيبة في المستشفى، عندما استيقظت مجددًا، كانت آلامها أفضل من قبل، وجدت فرناس غفى على الكرسي الذي بجانبها،والظلام قد حل.
حاولت أن تحرك يديها أو قدميها، لكن حركتها مقيدة، كالرجل الآلي، جاهدت لترتفع عن السرير، صرخت من الألم، وقف فرناس على قدميه،وهو يقول:
_ما الذي يحصل؟! ما بك يا حبيبة؟!
_لا شيء، أنما حاولت أن أقف، لكن كل شيء في جسدي يؤلمني.
_نعم، فالعظام أخذت وضع الثبات، تحتاجين لوقت لتعودين كسابق عهدك.
_ماذا سأفعل؟!
_ستبدأين بالمعالجة الفيزيائية، فالكسور في جسدك قد جبرت باتجاه واحد، لا تقلقي ستكونين بخير.
هدأت ثورتها وعادت تتمدد على سريرها، نظر إليها وهي شاردة في العدم:
_حبيبة هل لي أن أسالك سؤال؟!
_طبعًا.
_عندما كنت في الغيبوبة، هل رأيت حلم غريب؟
_لم أفهم ما ترمي إليه.
_يعني هل شاهدت نفسك بهيئة فتاة أخرى، أو أرض أخرى غير هذه الأرض؟!
فكرت قليلًا، كأنها تتذكر ما جرى معها، لكن الرؤيا كانت لديها مشوشه، كتشويش تلفاز قطع عنه الإرسال، أجابت:
_أشعر بذلك، لكنني لا أتذكر شيء، كأن هناك من مسح ذاكرتي، بمنديل مبلل.
_أشعر أنني..
_ماذا؟!
_لا شيء، لا شيء.
حضرت مروة في صباح اليوم الثاني، اليوم ستخرج به حبيبة من المشفى:
_سأخرج لبيت أهلي.
_حبيبة هل جننت؟!
_بل في كامل قواي العقلية، لكن نفسيتي متعبة جدًا، ولا أستطيع أن أتجادل معك الآن؛ لذلك سأذهب لبيت عائلتي.
_بيتك بينتظرك! وأنا أنتظرك أيضًا.
_لكنني لم أطلب انتظار أحد.
ما يزال قلبها عاتب عليه، لا تريد أن تفتح الدفاتر القديمة، ولا تريد أن تفتح له صفحة إيمان.
_أعرف أنك تمزحين، وأنك ستغيرين رأيك.
تقدمت مروة بالكرسي المتحرك، اقتربت به من سريرها، بعد أن طلبت وضع حجابها:
_أرجوك ساعدني يا أبي؛ حتى انتقل للكرسي.
قدم فرناس ليحملها، لكنها رفضت وبشدة، وهي تقول:
_سيحملني والدي، فقد حملني من قبل كثيرًا.
تقدم إليها بحب، وهو يقول:
_لقد كبرت يا حبيبة، حان دورك لتحمليني يا ابنتي.
قبلت يده وجبينه:
_أنت الخير والبركة، بل أنت سيد الرجال وأقواهم.
أستندت على كتفه، ونقلت نفسها إلى الكرسي المتحرك الذي تجره مروة، أمام استهجان فرناس:
_إن بيتك أولى بك وبعودتك إليه.
_لكنك من قبل اعتبرت إنني غريبة.
_لا حاجة لنا لنذكر الماضي يا حبيبية، ما مر بنا ليس بالقليل، نحن الآن أولاد اليوم.
_عقلي مشتت، ونفسي مختلطة، علي أن أعيد ترتيب أوراقي.
_وورقتي أنا، أين ستضعينها؟!
_لا أعرف، ليتك تترك لي حرية الاختيار، لكن ما أعرفه الآن أنني سأضع نفسي في المقدمة.
_أتمنى ألا تتخذي قرارات تندمين عليها فيما بعد.
قرر أن يعود لبيته الذي تزوج به مع حبيبة.
فتح الباب ودلف إلى الداخل، لم يمسه أحد؛ لا يزال على حاله منذ ذلك اليوم، يوم الحادثة المشؤومة، الطاولة التي تبعثرت أشيائها علىالأرض، المرآة التي كسرت لمئة قطعة لكنها ما تزال ثابتة على الحائط.
غرفته وغرفة حبيبة، أشيائها التي ما زالت على الطاولة، خزانتها الفارغة من الملابس، أعادت لقلبه الهموم مجددًا، عندما رآها تغادر إلى بيتأهلها، وترفض أن تعود معه.
عادت لذاكرته كل التفاصيل التي جرت معهما، عندما طلبت روايات ولم يحضرهم لها.
عندما رأها في الحادثة تطير من النافذة، عندما عشقها في الزمن الماضي، دخل غرفتها وهي يقول:
_ترى هل ستعودين مرة أخرى لتزيين حياتي يا حبيبة؟! أصبحت أحادث طيفك، لقد سلبتني عقلي.
ما أجمل رائحتك يا حبيبة، التي تعبق في الغرفة، تمدد في سريرها، في المساحة الضئيلة، استنشق رائحتها بكل قوته، كأنه يختزن الرائحةفي تلافيف عقله وقلبه.
أدخلت مروة حبيبة للبيت على الكرسي المتحرك:
_الحمد لله على عودتك سالمة يا صديقتي.
_شكرًا لك يا مروة، نحن دائمًا نتعبك معنا.
_خيرك سابق يا خالتي، فمنذ كنت صغيرة كنت تعتبرين أنني ابنتك الثانية، منذ وفاة والدتي وبقائي في كنف ورعاية جدتي.
ضمتها والده حبيبة برفق:
_سأغضب منك إن تكلمتي هكذا مجددًا، أنت ابنتي الثانية.
مرت الأيام روتينيه مملة، مروة تذهب إلى جامعتها، وتدرس الأطفال دروس خصوصية بعد جامعتها، وأما حبيبة فكانت تخضع للعلاجالفيزيائي كل يوم.
والأمور بدأت تعود لنصابها، حبيبة تتحسن وتعود لسابق عهدها، حركتها بدت أفضل من ذي قبل، تمكنت أخيرًا من الاستغناء عن الكرسيالمتحرك، بدأت تستند على عصا تساعدها في حركتها.
أما إيمان جلست بالقرب من والدتها، ملأ الحزن قلبها، كما ملأ الاحمرار عينيها، سمعت صوت النداء:
_على ركاب الرحلة ٧٥ المتجهة إلى دبي التوجه نحو الطائرة.
_هيا يا إيمان إنها رقم رحلتنا.
عادت إيمان للبكاء وهي تقول:
_لا أريد أن أسافر، أرجوك يا أمي، لا أريد أن أترك فرناس هنا وأغادر.
_ لن تنسيه إذا بقيتِ هنا، ستغيرين حياتك هناك، لن أسمح له أن يدمر حياة ابنتي العزيزة.
أمسكت يدها لتساعدها على النهوض، مرت إيمان بحالة اكتئاب قوية، ضعف جسدها، ونحل خصرها أكثر من المعتاد، رسمت هالات سوداءتحت عينيها.
_علي أن أكتب تلك الرسالة يا أمي، قبل أن أغادر.
خطت بالقلم رسالتها الأخيرة له.
" أهملت قلبي، كنت كوردة في تربتك الهشة، نازعت الرياح والأمطار العالية، وقفت بوجه الجميع، بجذوري الواهنة.
دخلت غابتك كروح طائر يغرد كل يوم أجمل ألحانه، لكنني خرجت حطاب، تشقق جلده وماتت نفسه.
تعلقت بوهم حياة، أو بشبح طيفك، والآن أكتب هنا على مسرح الورق بين السطور ومن حبر قلبي الذي انسرق، كم تمنيت يومًا ألا أحزن،وأن تكون مختلف لكنها لعنة حياتي، لذلك سأقول أخيرًا وداعًا، سدلت الستارة عن فصلنا الأخير"
وضعت الورقة والقلم وأمسكت بيد والدتها التي مدتها لها لتساعدها على الوقوف.
_هل أرتاح قلبك الآن؟!
ظل السؤال معلقًا في الهواء، وعيني إيمان معلقة بتلك الورقة، إلى أن جاءت نسمة هواء، طارت في الهواء، ووقعت أمام قدمي شاب، حمل تلكالورقة فقد ظن أنها ذات أهمية وسقطت سهو من أحدهم، قرأ ما كتب فيها آلمه قلبه لحال تلك الفتاة المجهولة بالنسبة له:
_هل يوجد حب بهذا القدر في حياتنا اليوم؟!
أثار خطها انتباهه، كان مميز لدرجة كبيرة، اشتم رائحة العطر المميزة التي كانت تصدر من الورقة، طواها ووضعها في جيب سترته، فقدتأخر عن رحلته.
وصل أخيرًا لمقعده، كان هناك فتاة مضطربة وتبدو خائفة، وضعت على عينيها غطاء بجانب النافذة، نفذت رائحة عطرها إلى أنفه، اعتقد أنهاشتم تلك الرائحة من قبل لكنه لم يعرف أين!
انتبهت لحركته بجانبها:
_هل لي ان أبدل المقعد معك؟!
_إنه مقعدك وهذا مقعدي لماذا تبدلينه؟!
_إنها المرة الأولى لي في الصعود للطائرة، أخاف المرتفعات.
_واضح أنها رحلتك الأولى، لا بأس تستطيعين أن تأتي لمكاني.
غيرت مقعدها بسرعة معه، نادت لوالدتها في المقعد الخلفي:
_أمي أنا هنا أجلس أمامك.
_لم أعهدك جبانة يا إيمان لا تخافي.
جاء صوت المجيب الآلي:
_على الركاب المسافرين وضع الأحزمة سننطلق الآن.
كانت تصدر أنين مسموع، أغلقت عينيها بكل قوتها، وأخذت ترتجف، وعندما بدأت الطائرة بالصعود، تمسكت بالمقعد، لكن دون أن ترى كانتممسكة بيد الشاب الذي يجلس بالقرب منها.
فتحت عينيها بعد دقائق عندما استقر إقلاع الطائرة:
_أعتذر، أنا أسفة، كان الغطاء على عيني، وظننت أنها يد المقعد.
_لا عليك، لم يحدث شيء.
غفيت عيناها؛ ستحاول أن تتناسى أين هي، وهو جلس يستمتع بالمنظر الذي يحيط به، يحتسي قهوته بين الغيوم، ينظر إلى كتابه الذي بينيديه.
وصلت وأخيرًا إلى دبي انتظرت أخاها في المطار وذلك الشاب وقف بالقرب منهما:
_من تنتظران؟!
_ننتظر ابني إنه يعمل هنا في شركة تكيف وتبريد.
_وأنا أنتظر صديقي أيضًا، لقد تأخر ولم يعطني العنوان.
رأى شادي من بعيد والدته وأخته إيمان، تقفان أمام باب المطار بجانب صديقه آدم.
ركض مسافة طويلة وارتمى في أحضان والدته التي فتحت يديها؛ لاستقباله، قبل يديها وجبينها، قدم لها باقة الورد التي يحملها، منذ أربعسنوات لم يرهما:
_إيمان ألا تريدين أن تسلمي على أخاك، كم اشتقت لك يا إيمان!
رسمت شبه ابتسامة على وجهها، قبلته بحب:
_وأنا اشتقت لك، لكنك تعلم إن الحياة رسمت لي دروب لا أريدها، أطفئت إيمان أختك.
_سيكون كل شيء على ما يرام، لا تقلقي.
انتظر آدم صديقه شادي حتى انتهى من الترحيب بعائلته، تقدم إليه وأخذه في أحضانه:
_لم أعلم إنها والدتك وأختك، كنت قدمت لهما المساعدة في كل ما تحتاجانه.
_لم تقصر يا ولدي، بارك الله بك.
تقدموا جميعًا إلى السيارة، أثارت تلك الصدفة اندهاش الجميع.
كان آدم يناظر إيمان بشكل خاطف بين الحين والآخر، فقد أعجب بتلك العينين الذابلة.
مر شهر ونص على معالجة حبيبة معالجة فيزيائية، دخلت أمها إلى غرفتها، صرخت بدهشة:
_حبيبة أنك تمشين لوحدك دون عصا.
كانت فرحتها كفرحة طفل يخطو خطواته الأولى مترنحًا:
_مر أشهر من الألم يا أمي، الحمد لله، إنني أمشي الآن.
فتحت والدتها يديها على وسعها، تقدمت إليها بخطوات بطيئة والبسمة رسمت على وجهها:
_لك الحمد ربي حتى ترضى.
_ بهذه المناسبة سنخرج اليوم للعشاء خارجًا.
_سأتصل بمروة لتأتي معنا.
لبست فستان طويل أسود، بلمعة لؤلؤية زرقاء يبرز زرقة عينيها، ووضعت الحجاب فوقة لتظهر بأبهى صورها:
_لقد تأخرنا يا حبيبة، مروة تنتظرنا منذ ساعة أو أكثر.
_قادمة يا أمي.
نزلت الدرج رويدًا رويدًا، عندما وصل إلى منتصف الدرج التقت عينيها بعيني فرناس، يقف أمام منزل والديه، يضع المفتاح في الباب يريدأن يدخل.
وقفا بصمت مطبق لكن عينيهما تبوح بالكثير، خطا خطوات واسعة في خياله إلى حبيبة، حملها في أحضانه كأنه يحمل الكون بأثره، وقفتدون حراك لم تعد تستطيع التقدم، تكلمت والدتها من خلفها:
_ما بك يا حبيبة؟! هل هناك شيء يؤلمك.
تكلمت بصوت أقرب للهمس:
_قلبي يا أمي هو الوحيد الذي يؤلمني، لقد شاهدت فرناس دخل إلى بيت عمي رحمه الله، فتح الجراح العميقة في قلبي.
أستندت على والدتها:
_امسكِ بيدي جيدًا، أكاد أن أقع.
أمسكت بها ونزلتا الدرج؛ ستتقابلان مع مروة في المطعم.
جلست على الكرسي وقد أنهك المشي جسدها، ما تزال غير معتادة على الخروج دون العصا التي كانت تستند عليها:
_أمي أين والدي، لماذا لم يظهر إلى الآن؟!
_لا أعرف يا حبيبة، اتصل به ولكنه لا يجيب.
_كيف أصبحت علاقتكما، ما تزال على حالها؟
_لم تأخذ منحى جديد إلى الآن، لقد اعتدت هذا الوضع.
حملت الهاتف واتصلت بوالدها، لكنه لم يجيب، كررت الاتصال ثلاث مرات:
_أين أنت يا والدي؟ نحن في انتظارك.
_طرأ لي عمل مفاجئ، أنا أسف يا ابنتي لن أتمكن من القدوم.
لديها ريبة في تصرفات والدها منذ فترة، لا تعرف من أين تأتيها هذه الهواجس؟!
مرت أمام عينيها، خيالات لعائلة سعيدة، زوج يحتضن زوجته، وطفلاه يلعبان أمامهم، لا تعرف من أين أتت هذه الصورة على مخيلتها الآن،عكرت صفوه جلستها.
انتبهت مروة لحالها الذي اضطرب، ولوجهها الذي أصبح شاحبًا:
_ما بك يا حبيبة؟!
_لا شيء، أحسست ببعض الألم في رأسي.
_هل نذهب إلى البيت؟ لا تتحاملي على نفسك
فكرت قليلًا وهي تقول:
_لا، هيا لنستمتع بوقتنا، فأبي طرأ له عمل مفاجئ ولن يأتي.
وأما فرناس جلس في بيت والديه، لديه ذكريات جسيمة في هذا المكان، عصفت به رياح الشوق لوالديه، ولحبيبة فهو على بعد أميال منهاولكن لا يستطيع أن يصل إليها.
نفض الغبار المتجمع على الستائر وأغطية الأثاث، تكلم مع نفسه:
_متى سأنفض الغبار عن علاقتنا يا حبيبة؛ لأزيل العتاب الذي غطا قلبك.
صباح يبدأ بأشعة شمس خفيفة تمد أذرعها على بيت حبيبة، قضت الليل وهي تفكر:
_هل يعقل الحلم الذي رأته في غيبوبتها أن يكون صحيح؟!
عاد والدها متأخر وخرج في الصباح الباكر، ما تزال علاقته بوالدتها متوترة وتؤثر سلبًا عليها وعلى أخاها.
قررت أن تخرج خلفه، لترى أين يذهب في الصباح الباكر، نزلت الدرج بصعوبة، انتظرت حتى مر بسيارته لتوقف سيارة أجرة وتمشي خلفه،مر بداية على محل كبير، أخذ الكثير من احتياجات المنزل، لم تبرح مكانها، كانت تراقبه من خلف الزجاج.
عندما عاد لسيارته مجددًا:
_أرجوك لا تفقد تلك السيارة، ستكون خلفها إلى أن نصل.
سار في الكثير من الطرقات الفرعية، تحاملت على نفسها فما يزال جسدها يؤلمها، عندما وصل إلى البيت المنشود.
قرع الباب؛ لتخرج امرأة ذات خصر مرسوم، ترتدي فستان يشبه الذي رأته حبيبة في غيبوبتها، خرج من خلفها طفلان"صبي وفتاة"
ينادون بكل قوتهم:
_أبي، أبي، جاء أبي.
لقد سمعت هذه الكلمة من قبل، وضعت يديها على وجهها، بدأت بالبكاء، انتبه لها سائق العربة:
_هل حصل شيء يا أنسة؟! من ذلك الرجل؟!
_لا شيء، هل يمكنك أن تعيدني لنفس المكان؟ كما ترى فأنا لست بخير.
أعادها إلى بيتها، صعدت إلى غرفتها، عينيها حمراء من شدة البكاء:
_ما بك يا حبيبة؟! أين كنت يا ابنتي؟!
نظرت لأمها، ألا يحق لتلك المرأة أن تلقى الراحة في حياتها؟! كم هي مسكينة عاشت حياتها على أمل أن يعود زوجها لعقله، لكنه متزوجويعيش حياته الخاصة، أما هي تعيش على بقايا حلم.
نزلت دمعة من عينيها، وهي تقول:
_لا شيء يا أمي، إنما أردت أن أمشي قليلًا تحت أشعة الشمس في الصباح.
_لا تخرجي وحدك يا حبيبة، فأنت خرجت حديثًا من المستشفى، أخاف أن يحصل معك شيء في الطريق.
_لا يا أمي، إنني بخير.
_لترافقك مروة أو أخاك، أو حتى اطلبي منا لنخرج.
فكرت بأن تواجه والدها بالحقيقة عندما يعود، لن تسكت عن كل هذا الظلم، لقد ضحت والدتها بالكثير من أجل العائلة.
عندما حضر والدها في المساء كانت برفقته شاب يعرج على قدميه، دخلًا، فسألت حبيبة أمها:
_أمي من هذا؟!
_ألم تعرفينه، إنه خالد جارنا الذي يبيع الإلكترونيات.
_خالد؟! لماذا قدم لبيتنا، أعرفه سليم لماذا يعرج على قدميه؟
_انتشر منذ أيام خبر حرق قدميه بالشاي الساخن، من المؤكد أنه من أثار الحروق يعرج.
كأنها لا تعرفه لخالد، كأن مشاعر الإعجاب التي كانت تكنها له، ذهبت فجأة.
_ماذا يفعل خالد في بيتنا يا أمي؟!
فجرت كلامها في وجهها دفعة واحدة:
_لقد جاء لخطبتك.
_ماذا؟!
_نعم هذا ما فهمته من والدك.
_لكنني متزوجة يا أمي، لم أتطلق من فرناس.
_يقول خالد أنه على استعداد أن ينتظرك حتى تتطلقين، وينتظرك لآخر العمر، المهم موافقتك المبدئية.
_إنه مجنون، إن علم فرناس لن يتركه على قيد الحياة.
ابتسمت والدتها وهي تتخيل خالد أمام فرناس، سيكون كلقمة سائغة بين يديه، ففرناس لن يمرر له هذه الخطبة مرورو الكرام.
_ادخلي بالقهوة يا حبيبة.
_لن أدخل ولن أراه، لا أريد خطبة كتلك يا أمي، ألا يكفيني ما حصل معي مع فرناس.
شرب خالد القهوة من يدي أم حبيبة وغادر وهو مكسور الكبرياء، حتى إن حبيبة لم تخرج لتراه،
وقفت حبيبة خلف النافذة، تناظره من خلف الستار، شهقت بأعلى صوتها:
_يا إلهي إنه نادر!
الآن بدأت تسترجع، ذكرياتها في الغيبوبة، الآن علمت لماذا تكره خالد مع أنه لم يفعل ما يزعجها، الآن تعلم حقيقة مشاعرها لفرناس.
سمع فرناس من ماهر، بخبر الخطبة، صعق من الخبر وهو يقول:
_ماذا تقول هل خالد خطب حبيبة؟!
_نعم كان اليوم في بيتهم.
بمجرد سماعه ذلك الكلام، ذهب إلى محل خالد:
_من سمح لك أن تخطب زوجتي؟!
هل فقدت عقلك يا هذا؟!
_أنت لا تعرف قيمة الجوهرة التي بين يديك، سأخذها منك في القريب العاجل.
عصفت بفرناس رياح الغصب، حمل كل ما وقعت عليه عينيه ورماه في الأرض، نطق خالد من الصدمة:
_ماذا تفعل أيها المجنون!
_سأعلمك الجنون على أصوله.
كسر كل الأجهزة في المحل، حتى الزجاج والكراسي، كاد أن يضرب خالد، مسكه من قميصه ورفعه إلى الأعلى، جاء ماهر وأنقذه من بينيديه وهو يقول:
_يكفي ما فعلته به، اتركه وشأنه، ألا ترى أنه لا يستطيع المشي حتى.
سحب ماهر فرناس من الداخل وهو يصرخ:
_ اتركني، غلي لم يشفى من ذلك النذل، سأريه من فرناس، وماذا يستطيع أن يفعل؟!
كان صدره يعلو ويهبط، ووجه أحمر كالرمان؛ من فرط عصبيته، كل قوة ماهر كانت لا تكفي أن يأخذه بين يديه:
_يكفي يا فرناس، إهدأ ولنفكر بحل سويًا.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة