(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
(حبة العدس)
نهض فرناس بتثاقل:
_من أجل عينيك، كي لا تحزن سأنهض.
طبع قبله على خدها، وضع رأسه على قدميها:
_إن مت هنا، لم يعد يهم.
_لا تقول هذا الكلام على لسانك، الموت حق وجميعًا سنموت، لكن أتمنى حياة طويلة معك ولآخر العمر.
_وأنا لا أتخيل حياتي دونك.
وصلت حبيبة إلى مروة التي كادت أن تنتهي، بدأت بوضع مساحيق التجميل على بشرتها الناعمة، لتعطيها مزيدًا من الإشراق والابتهاج.
تقدمت حبيبة لفوق رأسها:
_من يقول أن يصل جنون ماهر، أن تكون خطوبتكم بعد عرسنا بثلاثة أيام؟
_أرى أنه غار، عندما رأى فرناس انشغل عنه، لا تتصورين كم يحبه!
_كما أحبك أنا، أم يحبه أكثر؟!
احتضنتها مروة، وهي تقول:
_لو كانت لدي أخت لن أحبها كما أحبك.
رتبت حبيبة شعرها بتسريحة بسيطة، تبرز جمالها الفاتن، وضعت حجابها وخرجت إلى سيارة فرناس، بعدما تعالت الزغاريد مع قدوم ماهرليصطحب مروة.
أغلقت باب السيارة وفرناس ما زال شارد بوجهها، نظرت إلى المرآة، تبحث بوجهها عن شيء ما:
_لماذا تنظر لي بتلك الطريقة؟!
_أنظر إلى أميرتي، هل في ذلك عيب؟!
تبسمت وهي تقول:
_هيا لنلحق بماهر ومروة لقد سبقانا.
غمز لها وهو يقول:
_هل نذهب إلى البيت؟
تحدثت بحنق ودلع:
_فرناس هيا.
_بأمرك يا قلب فرناس، وعمر فرناس، وحياة فرناس.
تبسم بحب لها، وتقدم يقود سيارته خلف العروسين، لقد خطفا حبيبة وفرناس الأضواء من العروسين؛ فحجم الحب بينهما ظاهر في العيون.
أنهكت الحفلة حبيبة وفرناس، أخذت حبيبة حمام ساخن ليرتاح جسدها، وخرجت تصفف شعرها، وقف فرناس خلفها حمل المشط وراحيمشط شعرها الذي يشبه أشعة الشمس المنسابة، بظهيرة يوم صيفي.
أغمض عينيها بيديه:
_اقتربي، إلى الخلف قليلًا، الآن اجلسي.
وجدت نفسها على طرف السرير وما زال مغمض عينيها بكلتا يديه، رفع يديه وهو يقول:
_الآن حان الوقت، افتحي عينيك.
كانت هناك ورقة منسدلة أمام عينيها، اعتقدت أنها رسالة كتبها لها، حملتها بين يديها وهي تقرأ:
"يعلن المعهد العالي للغات انضمام الطالبة حبيبة لصفوفه، لدراسة مرحلة الثالث الثانوي؛ كي تتأهل للحصول على شهادة الثالث الثانوي.
_لم أصدق عيني؟! هل هذا لي؟!
عادت لقراءتها مرة أخرى، أخذت تقفز من الفرحة وهي تحتضن الورقة:
_سأعود إلى تعليمي، سأحقق حلمي.
انا
_ليتك تخبريني ما هو حلمك؟!
_ان أدخل كلية الآداب، أتخصص قسم اللغة العربية.
_هل تحبين اللغة العربية لهذا القدر؟!
_ أتعلم لماذا أريد أن أدرس اللغة العربية؟!
رفع يديه بعدم معرفة.
_سأكون روائية، أكتب الروايات، أجعل الناس تسبح في أفكاري، تدخل قصصي، وتحزن مع أبطالي وتفرح لفرحهم.
_أنت طموحة وستحققين كل ما تريدينه.
_لأنك زوجي ويدك بيدي سأنجح بالتأكيد.
مر أشهر على زواجهم، عاد فرناس لحياته الطبيعية، يذهب إلى الجامعة، ويعود ليدير مكتب والده في الاستيراد والتصدير.
أما حبيبة تذهب إلى المعهد تدرس بجد، تجد أحيانًا صعوبة في بعض المواد؛ لأنها انقطعت عن الدراسة لأعوام، لكنها تنهض من جديدلتكمل، ولم تعرف الاستسلام يومًا.
عاد فرناس من عمله، لكنه وجد حبيبة متعبة ولم تذهب إلى المعهد:
_ما بك يا حبيبتي؟!
تتلوى من الألم، تكاد أن تسقط دموعها:
_بطني يؤلمني كثيرًا، أظن أنه برد؟!
_لماذا لم تتصلي بي؟! كنت سأعود سريعًا.
_لا حاجة لتترك عملك، سأصبح أفضل؛ فلقد شربت النعناع لتهدأ.
_دثرها بلحاف سميك، ذهب إلى المطبخ، صنع لها مشروب الليمون والبرتقال.
ما إن قربت الكأس إلى فمها، وارتشفت منه رشفة، حتى ركضت إلى الحمام تتقيّأ، ركض فرناس خلفها:
_ما بك يا حبيبة؟! ما الذي يحصل معك، أظن أنك تحتاجين لزيارة الطبيب.
خرجت تمسح وجهها بيديها:
_لا حاجة للطبيب، سأكون على ما يرام.
_لن أسمع كلامك، ارتدي ملابسك وتعالي معي، هيا بسرعة.
خرجا من البيت في وقت متأخر ولم يجدا أي طبيب في ذلك الوقت، عادت حبيبة منهكة من القيئ طوال الطريق، وعند عودتهم رأوا عربة لبيعالفول.
اشتمت الرائحة، صرخت بقوة:
_فرناس قف.
_ماذا هناك؟
_أحضر لي الفول، قل للبائع أن يضع الكثير من الليمون.
_هل أنت متأكدة؟! منذ قليل لم تستطيعي أن تشربي الليمون والبرتقال، إلى الآن لم تأكلي شيء.
_لكن شهيتي عادت من جديد فجأة، هيا أحضر لي الفول.
أوقف السيارة بجانب الطريق، أخذ بيدها إلى العربة، كانت تأكل بشهية كبيرة، طلبت أكثر من طبق.
ضحك من منظرها؛ كانت تأكل كالأطفال كأن الفول سيهرب:
_لماذا تضحك؟!
_لا شيء، لكن لن يهرب الطعام، كلي ببطء.
عاد للضحك لكنها لم تهتم، إنما أكملت الأربع أطباق، وعادا إلى البيت.
نامت كالأطفال دون أن تغير ملابسها، وضع فرناس فوقها الغطاء، جلس بالقرب منها يكلمها:
_حالك لا يعجبني، يجب علي اصطحابك إلى الطبيب في الغد.
تحركت بعفوية ووضعت يدها على وجهه، تبسم وهو يمسد على رأسها بحب:
_اللهم احفظ لي روحها، لا يمسها ضرر فيصيبني أضعافه.
ونام على الأريكة المجاورة لها، تململ في الصباح الباكر، نظر لها فوجدها منكبة على كتبها تدرس كأنها تلتهم الأوراق.
فتح عينيه بصعوبة:
_لماذا لا ترتاحي من الدراسة اليوم؟! إنك مريضة.
شربت رشفة من القهوة، وهي تقول:
_اليوم أفضل حالًا.
_متأكدة؟! أريد أن أحضر الطبيب.
_لا، لا حاجة لذلك.
عادت للدراسة من جديد:
_ يجب أن انتهي من ربع الكتاب اليوم، الامتحانات على الأبواب.
نهض وقبل رأسها:
_ستتجاوزينها إنني متأكد، وواثق أنك ستنجحين.
_ما يطمئن قلبي، أنك واثق من قدراتي، وأنت من يشجعني ويكون السند لي دائمًا.
تحاملت على نفسها وصنعت له فنجان من القهوة، شربه وخرج وهو يقول:
_إن شعرت بأي تعب لا تترددي في الاتصال بي.
_حسنًا، لا تشغل عقلك بي، اهتم لدراستك، وعملك.
لحقت به إلى الباب، وهي تحمل سترته، ما إن أغلق باب المنزل حتى شعرت بالغثيان، ركضت من جديد إلى الحمام وتقيئت مجددًا:
_ما الذي يحصل معي؟ لا أفهم، أكون بأفضل حالاتي وأعود للألم مجددًا.
سمعت طرق خفيف على الباب، ظنت أن فرناس عاد، فتحت الباب فوجدت والدتها، أمسكت معدتها وهي تقول:
_لقد جئت في وقتك.
_ما الذي يحصل معك؟! أرى وجهك شاحب!
_منذ البارحة وأنا اتقيأ، ومعدتي تؤلمني، لا أعرف ماذا حصل لي؟!
أخذت تسرد لها ما حصل معها، عندما أخذها فرناس واشتمت رائحة الفول:
_هل؟!
همست في أذنها بكلمات غير مسموعة.
_هل تعلمين لم انتبه للأمر؟! أهذا يعني أنني حامل؟!
_سأحضر اختبار الحمل من الصيدلية وأعود حالًا.
ركضت أمها لأقرب صيدلية، أحضرت جهاز الاختبار وعادت سريعًا، ما تزال حبيبة على نفس الوضعية، جالسة على الكرسي، وتحتضنبطنها برفق، عندما شكت إنها حامل.
دخلت إلى الحمام، وأخرجت الجهاز بيدها:
_أمي ظهر خطين ماذا يعني ذلك؟!
_إنك حامل.
_هل هذا صحيح؟!
_نعم، سأصبح جدة بعد أشهر.
احتضنت حبيبة أمها، شعور مختلف انتاب قلبها، شعور الرفض لأنها ستكمل دراستها وسيكون الأمر صعب للغاية عليها، وشعور جميل أنتكون أم لطفل صغير تحتضنه بين كفيها كأنها تملك الدنيا.
أخذت تبكي، ولم تعرف لماذا الأفكار هاجمت رأسها، وكأنها تقول "لن تنجحين بكونك أم، وتدرسين بنفس الوقت"
_أرى أن هرمونات الحمل بدأت معك باكرًا، لماذا تبكين يا حبيبة؟!
_لا أعرف، لا أستطيع ان أمنع نفسي عن البكاء.
حضنتها والدتها مجددًا؛ لتشجعها:
_ستكونين أجمل أم في الدنيا، أنا بقربك أيضًا لا تنسي ذلك.
_أشكر ربي أنك أمي.
فكرت قليلًا وهي تقول:
_كيف سأخبر فرناس؟!
_كما أخبرت والدك عندما كنت حاملة بك، أحضري له هدية صغيرة تكون حذاء صغير، أو ربطة عنق لطفل؛ ليفهم أنه سيكون أب.
_فكرة جميلة، هل تأتين معي إلى السوق؟!
ارتدت ملابسها وخرجت مع والدتها، وهي في الطريق، أخذت تقول:
_أمي لماذا قلبي غير مرتاح؟! لا أشعر أنني سعيدة كباقي الأمهات.
_بل أنت سعيدة، لكنك لا تعرفين أن تترجمي مشاعرك الآن، وهناك مسؤولية كبيرة ستكون على عاتقك، لذلك تصالحي مع شعور الخوفوالسعادة الذي بداخلك.
عادت للتفكير مجددًا وهي تسير مع والدتها متأبطة يدها:
_كل ما يأتي من الله خير، الحمد لله.
وقفت على إحدى واجهات المحلات التجارية:
_انظري إلى هذا الحذاء يا أمي، كم هو جميل!
_لكنه لفتاة، وأنت لا تعلمين ما في أحشائك! هل بنت أم ولد؟!
وضعت يدها على بطنها، وهي تبتسم:
_أشعر أنها فتاة.
أصرت حبيبة على شراء رباط للشعر باللون الزهري، وحذاء صغير جدًا مزين بالورود.
عادت للبيت، حضرت نفسها وهي تعيد الكلام في عقلها مرات عديدة، ووضعت الهدية تحت الوسادة، تمددت في السرير وهي تنتظر فرناس،وضع المفتاح في الباب، أخذت نفس عميق؛ لتهدأ ضربات قلبها.
_حبيبة أين أنت يا حبيبتي؟!
أتى صوتها من غرفة النوم:
_أنا هنا فرناس.
دخل وعلامات الاضطراب على وجهه:
_ألم تتحسن صحتك بعد؟!
رفعت رأسها للأعلى؛ بمعنى لا.
_هيا ارتدي ملابسك،
سنذهب للدكتور، قد تكون حالة تسمم من الطعام أو غيره.
_فرناس!
_لا تتكلمي، سنذهب هيا حضري نفسك.
_تعال إلى جانبي قليلًا، إذا كنت بقربي سأكون بخير.
مسد على شعرها بحب:
_وجهك شاحب.
ووضع فمه على جبهتها:
_هناك بعض من الحرارة، أرى أن نذهب للطبيب ونطمأن.
_سنذهب ولكن أحضرت لك شيئًا.
أحتضن كتفها يحثها على القول، أخرجت العلبة من تحت الوسادة:
_ليس الآن وقت الهدايا، فأنت متعبة.
_هيا افتحها، لا تتعبني أكثر.
فتح العلبة بعدم اهتمام، نظر لداخلها وعلامات الذهول رسمت وجهه:
_أنت ..؟!
وأشار إلى العلبة، كأن الحروف ماتت في جوفه من الصدمة.
_نعم.
حملها وأخذ يدور في أرجاء الغرفة:
_ستحققين أمنيتي، وتنجبين طفلة تشبهك، أريدها تحمل كل معالمك وصفاتك.
_فرناس انتظر، أشعر بالدوار.
_أسف يا حبيبتي، لكن من الفرحة.
أنزلها ونزل إلى مستوى بطنها، وضع رأسه عليها، وهو يقول:
_أين نبضاتك يا نبضي؟! أين أنت؟
_فرناس ما تزال صغيرة جدًا بحجم حبة العدس.
_ألطف حبة عدس في الكون، انتبهي لنفسك، ماذا تريدين مني أن أفعل أنا جاهز.
رسمت عيناها بعلامات الحزن وهي تقول:
_أنا خائفة.
_لماذا تخافين وأنا بقربك؟!
_الآن هناك روح تجمع بيني وبينك، ستكون المسؤولية كبيرة، كيف سأنجح في دراستي وفي تربية طفلنا؟
احتضن يدها وشد عليها:
_طالما نحن مع بعضنا، ستنجحين في كل شيء.
_ حفظك الله لي، ولطفلنا.
_يا الله ما أجملها من كلمة، هل سأكون أب حقًا؟
_ستكون أفضل أب في الدنيا كلها.
_أنت اهتمي بصحتك، وبحبة العدس، وأنا أفعل كل شيء.
شعرت بالغثيان من جديد، ركضت إلى الحمام، طرق على الباب:
_حبيبة ما بك؟! ما الذي حصل؟
_لا شيء إن ابنتا تحب إن تمزح مع والدتها.
تبسم وهو يقول:
_أراها مشاكسة كوالدها.
خرجت حبيبة من الحمام، حملها إلى السرير:
_ريحانة اسمعي الكلام ولا تزعجي والدتك، فهي حبي الأبدي.
_ريحانة؟!
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة