BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل العاشر (محمد بهاء الدين)


 

(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



فتح قائد شرطة نابولي أريوزولا الباب الخلفي للسيارة الخاص بالمقبوض عليهم، لكن ثائر تخطاه كأن لم يكن

وجلس بجواره.

 

مضت عدة دقائق من الصمت منذ انسحاب رجال الشرطة، حتى بدد ثائر السكون متسائلًا:

-لمَ تكرهنا أيها الشرطي، هل أساء لك أحد رجالي؟

 

أجابه أريوزولا بالصمت التام، وظل نظره مثبت بخطوط السير في التزامٍ متقن بقوانين المرور.

 

فتبسم ثائر بسخرية، وأعاد مقعده للخلف ليغط في النوم حتى وصلوا إلى المبنى الإداري لمحافظة نابولي.

 

استفاق ثائر قبل أن ينبهه أحد، وهبط من السيارة، ثم دلف إلى المبنى يتبعه نفر من الرجال.

 

الجميع يقبض على سلاحه بتوتر، على رأسهم أريوزولا الذي يرافق ثائر عن يمينه.

 

على حين غرة، ركض ثائر قائلًا بلهجة تخص منتحر بائس:

-لقد سئمت من الحياة، سأُفجر نفسي.

 

بهلع والتياع أشهر الجميع أسلحتهم في وجهه، وتخبط الموظفون في جزع ورعب، وصرخت إحدى الموظفات

القريبات من ثائر، فلوح لها الأخير باسمًا:

-أمزح فقط يا عزيزتي، هؤلاء الرجال قاموا بتفتيشي عشرات المرات في الخارج، لكن انظري إلى وجوههم المرتعدة، تثير الضحك أليس كذلك؟

 

ثم أطلق قهقهة صاخبة وقال:

-فلنكمل طريقنا يا قائد شرطة نابولي.

 

بدا الغيظ واضحًا على محيا أريوزولا وهو يرمق ثائر بنظراتٍ حارقة تكاد تصهره في مكانه، سرعان ما عدّل

هندامه وستعاد رباطة جأشه وتبع ثائر رفقة رجاله.

 

عند المكتب الفاخر المخصص للمحافظ، قرع أحد الرجال الباب، لكن لم يأتِ رد من كونتي.

 

كرر الأمر عديد المرات وفي كل مرة كان الصمت جوابًا، حتى تثاءب ثائر وتقدم بنفاد صبر وفتح الباب بلا

إذن ليقتحم غرفة المحافظ.

 

أشهر الجميع أسلحتهم في وجهه للمرة الثانية، مع هتاف أريوزولا الساخط:

-كيف تجرؤ أيها ال..

 

لكنه ابتلع كلماته حينما وجد هذا الرجل الخمسيني منمق الملابس، مرتب الهندام، ممشط الشعر بعناية، ينهض ليصافح ثائر بحرارة قائلًا:

-يا له من شرف أن يزور الدون ثائر العظيم مكتبي.

 

إنفغر فاه قائد شرطة نابولي من رؤية المحافظ يصافح هذا المجرم بهذه الحفاوة، بل ويخاطبه بالدون.

 

لكن دهشته واستنكاره ازدادت حينما أشار المحافظ للجميع قائلًا:

-فلتغادروا، لا أريد لأحدٍ أن يبقى هنا.

 

في صمت أذعن الجميع لولا أن ثائر قال:

-أريد أريو، فلتدعه ينتظرني بالخارج ليصطحبني إلى المنزل، فأنت تعلم خطر زقاق نابولي على رجلٍ مهم

مثلي.

 

باستنكارٍ غاضب تبادل أريوزولا النظرات مع كونتي الذي أشار برأسه قائلًا:

-فلتنتظر في الخارج سيد أريوزولا إذ سمحت.

 

ثم تقدم كونتي بنفسه ليغلق الباب في وجه قائد شرطة نابولي.

 

حرص ثائر أن يسمع أريوزولا قهقهته من الداخل، ثم جلس على المقعد المقابل لمكتب المحافظ، ووضع

قدميه على مكتب كونتي، ثم دس لفافة تبغ بين شفتيه وأشعلها لينفث دخانها في سماء الغرفة.

 

في حين جلس كونتي على مقعده، غير مبالي بقدمي ثائر اللتان برزتا في وجهه، ثم ضغط على زر

الاتصال بسكرتيرته قائلًا:

-كوبي قهوة من فضلك..

 

استدركه ثائر قائلًا:

-بل جعة، أريد الجعة.

 

طرفت عينا كونتي بدهشة؛ فرغم مركز ثائر الحساس في الوقت الحالي إلا أنه لازال جامحًا غير مراعٍ

لكياسة الأسلوب وأناقة المظهر.

 

لكنه وضع قناع الابتسامة المصطنعة مصححًا قوله:

-فلتجعليهم كوب قهوة وثلاثة من الجعة المثلجة.

 

أومأ ثائر برأسه تحية له، ثم قال حينما أنهى كونتي اتصاله:

-تبدو عجوزًا للغاية أيها المحافظ.

 

هز كونتي رأسه وهو يقول بأسى:

-السنوات لا ترحم..

 

ثم حدج ثائر بنظرة متفحصة وهو يردف:

-أما أنت فقد صرت رجلًا ناضجًا، ربما تكون في نهاية الثلاثين الآن.

 

نفث ثائر أدخنة التبغ المحترق وهو يقول بزهو:

-أجل، أنا رجل أربعيني معبأ بثروة هائلة تكفي لرفع شأن دول وسحق أخرى.

 

ظل كونتي محتفظًا بابتسامته المصطنعة وهو يقول بكياسة:

-بالطبع دون ثائر؛ فقد زرتُ ثمرة الجنة منذ سنواتٍ طوال، ومن حينها لم أكف عن زيارتها خمس مرات في

العام على الأقل، بل أحيانًا أمارس عملي على أحد هذه الجزر المتنقلة.

 

أنهى ثائر لفافة التبغ أسرع من المعتاد في دلالة على الضغط العصبي الذي يناله في هذا المكان، ثم قال

وهو يدهس رأس اللفافة في المطفأة:

-على الرحب.

 

لاحظ كونتي عصبيته، فبادر بقوله:

-نحن الآن رجلان بالغان، ما حدث في الماضي فهو في الماضي، الحاضر هو الذي نحياه.

 

رسم ثائر ابتسامة الذئب على وجهه وهو يداعب خاتمه الضخم قائلًا:

-يا لك من وغدٍ منافق، تريدني أن أنسى مدك لطفل صغير بالسلاح ليقاتل الكامورا ثان أقوى عائلات

المافيا، ثم التخلي عني ليقتل هذا الوغد بيترو رفاقي ويعذبني أشد العذاب، أنت في نظري لست سوى قمامة

يأكلها خنزير نتن الرائحة.

 

ثم نهض فجأة وضرب سطح المكتب بكفيه قائلًا:

-لستُ بمن ينسى رفاقه، بل أتذكرهم وأسمع أصواتهم المعذبة التي تطالبني بالانتقام منك وإرسالك لهم

ليمزقوك بأظفار الغل والغضب..

 

ازدرد كونتي ريقه بصعوبة، وتفصد العرق على جبينه وهو يتراجع للخلف في مقعده، يلعن نفسه لإخلائه

مكتبه من حراسه، فقد شعر أنه فريسة وضيعة مكبّلة في عرين الأسد.

 

شم ثائر رائحة خوفه المتخفية برائحة عطره، فازدادت ابتسامته اتساعًا، ثم عاد إلى مقعده وهو يُخرج لفافة تبغٍ

أخرى قائلًا:

-لا تقلق، أنا مجرد رجل أعمال يريد استثمار أمواله في نابولي، فالمباني المهترئة والفقر يثران اشمئزازي؛ فقد

عانيت منه كثيرًا بطفولتي، وبالطبع ستحصل أنت على أصوات أكثر في الانتخابات.

 

تنفس كونتي الصعداء، ثم ضغط على زر الاتصال بسعادة قائلًا:

-فلتجعلي الجعة أربعة.

 

ثم أخرج منديلًا لتجفيف عرقه وهو يقول مبتسمًا:

-كم أنا سعيد لتجاوزك الماضي دون ثائر، أعدك أن تكون نابولي جنة في القريب العاجل.

 

أدرك ثائر ما يبثه كونتي من إشارت لإنهاء المقابلة بالود واستلام الأموال ليضعها في خزينته، فقهقه قائلًا:

-لا لن نتصافح وأغادر لتجد في حسابك ملاين الدولارات، سيشرف رجالي على تنمية نابولي وإتمام المشروع

إلى آخره، وسيعمل به المدمنون العاطلين من أهل نابولي، رجالي هم من سيتولون تنظيم كل شيء، أما أنت

فلتبقَ متفرجًا من شرفتك ولا تكلف نفسك عناء النزول للرعيتك القذرة.

 

كاد كونتي يعترض وبشدة لولا أن ثائر سبقه مضيفًا:

-بالطبع كما أفعل مع أي مسؤول وضيع، سأشتري صمتك..

 

ثم هم واقفًا وهو يردف:

شهر مجاني كامل في ثمرة الجنة، أظنك لا تستطيع الرفض.

 

اتسعت عينا كونتي بذهول؛ فأحلامه تتمحور حول زيارة ثمرة الجنة خمس مرات وربما ستة في العام، لم ترقى

أماله لأكثر من ذلك قط، الآن بات متاحًا له قضاء شهرًا كامل في هذا النعيم، أي أحمق سيكون إن رفض

هذا العرض السخي، لكنه لن يُظهر لهفته، بل سيتريث ويُظهر الرفض قائلًا:

-نحن نتحدث عن شعبي وسلطتي هنا، أنت حتى لا تريد الشرطة الايطالية في المكان، هذا ثمن بخس جدًا

دون..

 

بتر ثائر عبارته قائلًا بحسم:

-إذًا لا اتفاق، إن لم يكن الاتفاق معك سيكون مع رئيس البلاد وسأُعامل كمستثمر وربما أغدو محافظًا على

نابولي ذات يوم، من يدري.

 

امتقع وجه كونتي، وتصبب عرقًا وهو يلوح بيده قائلًا باستمالة:

-دون ثائر، من قال انني رافض لذلك، بالعكس أنا سعيد لأجل شعبي الذي أنا منه، لكنني أخبرك فقط أنني

قبلت ثمن بخس مقابل جميل كبير كهذا، أتمنى أن يمحي هذا أي ضغينة قديمة بيننا.

 

مط ثائر حاجبيه متجاهلًا حديثه، ثم رمق ساعة الحائط قائلًا:

-ساعة واحدة فقط وستفوتك الطائرة إما أن تُسرع أو تقف لتعض الأنامل بينما تلوح بالوداع لها.

 

لم يدع له ثائر أي مجال للتفكير، فقط جعل مقلتيه تتسعان، وتتهلل أساريره قائلًا:

-حجزت الطائرة لي أيضًا، أنت حقًا رجل سخي دون..

 

بتر ثائر عبارته بضجر؛ فقد سئم من مديحه المنافق هذا وهو يعلم ما يجول في خلجات قلبه، فقال بصرامة:

-توقيعك قبل أن تذهب أيها المحافظ.

 

كونتي محاولًا المراوغة:

-لقد أعطيتك كلمة وأنا رجل..

 

سبقه ثائر بالكلمات متممًا:

-وغد خائن لا يحترم كلمته؟، أجل أنت كذلك، فلتوقع الأوراق اللعينة الآن.

 

ابتلع كونتي الإهانة على عجل، فالدقائق تمر وقد تفوته الطائرة.

 

فتناول قلمه ذا الحبر الخاص بالمحافظ الذي تكفي نقطه منه كتوقيعٍ له، فلا يستطيع أحد التشكيك في صحة

التوقيع مادام كُتب بهذا القلم.

 

وأعطى إمضاءه، ثم ولى الفرار سريعًا ليتشبث بأعتاب الطائرة.


***


رأى هرولته قائد شرطه نابولي ذاهل العينين، وسكرتيرته التي أحضرت الشراب له ولضيفه، فتساءلت في

دهشة:

-لمن هذا الشراب إذًا سيدي المحافظ؟

 

من داخل مكتب المحافظ، لوح لها ثائر بيده قائلًا بابتسامه واسعة بدت جذابة بحق:

-هنا أيتها الفاتنة.

 

طرفت الموظفة بعينيها في شدوه، قبل أن تدلف إلى مكتب المحافظ لتضع المشروبات أمام مقعد ثائر الذي

تشبث بأناملها بلطف قائلًا:

-لقد ترك لكِ المحافظ هدية لأجل عملك الجاد معه.

 

بدهشة مُزجت بحُمرة الخجل جراء مداعبته أناملها، سألته:

-أي هدية؟

 

مد ثائر لهه يده بجواب شكر وأجازة مدفوعة الأجر مع علاوة في الراتب، ثم قال بملامحه البشوشة:

-أخبرني أنكِ تحفظين توقيعه عن ظهر قلب، وقلم المحافظ بحبره الخاص لا زال معي.

 

تهللت أساريرها رغم إدراكها أن هذا الشخص قد يكون مخادعًا؛ فإجازة تصير بها حرة طليقة تُلبي احتياجاتها

من الراحة والاسترخاء مع علاوة في الراتب، هذه هي الجنة، وثائر هو إبليس الذي يُلبي الرغبات الدفينة،

فالتقطت القلم وهمت بوضع إمضاء المحافظ، لولا جذب ثائر للورقة من أمامها قائلًا بابتسامته الشيطانية

الواسعة:

-هذه الأوراق الثلاثة، كلفكِ المحافظ بإمضائها أيضًا قبل رحيله، لن يأخذوا الكثير من الوقت أليس كذلك؟

 

تصاعدت شكوكها، لكن في النهاية المحافظ هو من تركه في مكتبه وذهب على عجل.

 

فهزت رأسها موافقة وطبعت إمضاء المحافظ على الأوراق، وشعرت بالراحة والسعادة بعد أن أنهت إمضاء

ورقتها.

 

أعادت القلم إلى ثائر الذي أمسك بيدها وقربها من فمه ليلثم أناملها قائلًا:

-أشكركِ على مجهودكِ المضني أيتها الجميلة.

 

أصاب قلبها بسهامه، وظل ناظرها معلقًا به وهي تغادر حتى كادت تصطدم بالجدار.

 

لكنها لم تستطع كبح نفسها من أن تتجرد من ثوب خجلها قائلة:

-لدي منزل ساحلي عند شاطئ نابولي إن أردت المجيء؟

 

نهض ودنى منها ليتحسس وجنتها البرونزية ليزيد من ثوران نارها، ثم دنى منها بجرأة لدرجة الالتصاق، قائلًا

بشيء من الحزن:

-أعتذر، فلدي فتاتي، لكن إن فكرتُ في الخيانة فلا ألذ وأكثر متعه من السكرتيرة في ملابسها الرسمية كما

تعلمين.

 

ربما كان في كلماته شيء من الاهانة، لكن شهادته لها بالجمال وأنها ستكون الخيار الأول إن فكر في

الخيانة أشبعت شيئًا ما بداخلها.

 

فتبسمت وهمت مغادرة وهي تقول:

-في أي وقت أنت تعرف الاسم، آسيا، فلتسأل عني في ساحل نابولي.

 

هز ثائر لها رأسه قائلًا بترحاب:

-بالطبع.

 

في حين كان قائد الشرطة أريوزولا يراقب ما يحدث من مهازل في صمت، حتى أشار له ثائر قائلًا:

-هناك كوب قهوة بالداخل والكثير من الجعة، ألا ترغب في جلسة حديث صادقة بيننا؟

 

حدجه أريوزولا بنظرة احتقار من رأسه حتى أخمص قدميه، فتبسم ثائر وهو يعود أدراجه للداخل قائلًا:

-كما تريد، كاد لساني يقع في زلاتٍ تُقحمه في المصائب، فأنا ثرثار بطبعي، كما إن المحافظ كلفك بمرافقتي

أليس كذلك؟

 

عض أريوزولا شفته بحنق؛ فنداء الشرف يُخبره أن يقبض على هذا المجرم الوغد هنا والآن، بينما أوامر

المحافظ تقص بحمايته حتى يصل إلى عصابته، زفر بحُرقة ثم نهض ملاحقًا ثائر عسى أن يخرج منه بأي

معلومة تدينه.

 

لكن حينما دلف إلى الغرفة ازداد امتعاضًا وكرهًا لثائر؛ فقد وجده يجلس على مقعد المحافظ، يُمسك بقلمه

وورقة من مكتبه وهو يرسم هذه الابتسامة العريضة على وجهه مازحًا:

-جني الأمنيات بين يديك، ماذا تريد، أجازة، زيادة في راتبك، أم ترقية؟

 

أريوزولا باحتقار:

-أتمنى أن أقبض عليك وأقضي على الفساد.

 

صفق ثائر بيده قائلًا:

-جيد، جيد جدًا، ستحصل على وسام أشرف رجل في نابولي، لكن بصفتي جني إسمح لي أن أخبرك

بالآتي..

 

ثم عقد أصابع يديه معًا في وضعية مثلث قاعدته إبهاميه مضيفًا:

-الأولى، لا يُمكنني تحقيقها لك لأنها خارج صلاحيات البشر والجن معًا، ربما الإله وحده من يختص بها،

أما الثانية فقد لبيتها لك الآن.

 

عقد أريوزولا حاجبيه متسائلًا:

-ماذا تعني؟

 

صمت ثائر برهة متظاهرًا بالتفكير، ثم سأله:

-أيمكنك الاتصال بالانترنت؟

 

أريوزولا غاضبًا:

-لا وقت لدي لدعاباتك السخيفة هذه.

 

مط ثائر حاجبيه بأسف قائلًا:

-دعاباتي ليست بالسخيفة، ولتفعل ما يحلو لك، لكن لا تعاتبني إن كنت آخر من يعلم.

 

استرعى الأمر فضول أريوزولا، فزفر بحنق ثم أخرج هاتفه ووضعه على سطح المكتب بضيق ثم قال:

-ماذا الآن، أتريد التقاط شبكة اتصال من عندي، لم أكن أعلم أن الإجرام غير مربح هذه الأيام.

 

قهقه ثائر ثم قال:

-يجب أن تعمل أكثر على حس الدعابة لديك أيها الضابط..

 

ثم أشار للهاتف مردفًا:

-فلنضفي المرح لجلستنا ببعض المشاهد الكوميدية، على سبيل المثال؛ بث مباشر باسم الوريث الهجين.

 

تمتم أريوزولا بحنق وهو ينفذ ما طلبه ثائر:

-حقًا لا وقت لدي لهذا الهراء.

 

دخل أريوزولا على البث ليجد صورة ثابتة لبابٍ إلكتروني، ربما يكون باب خزينة أو شيء من هذا القبيل.

 

انتظر عدة ثوان فلم يجد أي حركة، فقط بث مباشر لهذا الباب، إلا أنه لاحظ أن الآلاف يشاهدون هذا البث

برفقته، فسأل ثائر:

-ما هذا؟

 

ثائر متظاهرًا بالتفكير:

-باب جميل حقًا أليس كذلك، أرى أن تراجع هذه المواقع جودة محتوياتها هذه الأيام.

 

أريوزولا وقد ضاق ذرعًا من سخرية ثائر:

-فلتجبني أيها اللعين، ما هذا وكف عن المراوغة؟

 

ثائر ببراءة:

-من أين لي بمعرفة ذلك أيها الضابط، مثلي مثل الآلاف الذين يتابعون هذا البث؛ رأيت منشورًا صباح اليوم

يدعوا الناس للإطلاع على هذا البث، فانتابني الفضول مثلك، فلنراقب ما يحدث.

 

هناك شيء ما سيحدث لا يعلم أريوزولا عنه شيئًا؛ هل سيكون تفجيرًا إرهابيًا أم عملية سطو على أحد

المصارف أم..

 

بتر ثائر أفكاره قائلًا:

-دعنا نتحدث عن الفساد يا أريو، يبدو أنك تحب ذلك حقًا.

 

أريوزولا بتهكم:

-أكثر مما تتخيل.

 

تناول ثائر قنينة الجعة، وألقى أخرى لاريوزولا قائلًا:

-أرجو أن لا تكون من هؤلاء المثقفين مدمني القهوة؛ فهذا سيصيبني بالملل.

 

فتح الاثنان غطاء القنينة لتُصدرا صوت فوران جميل، جعل ثائر يمد قنينته ليقرع الخاصة بأريوزولا قائلًا بمرح:

-في صحة شرطة نابولي العظيمة التي قضت على عصابات المافيا وأنعمت علينا بالأمان، فليباركهم الرب.

 

أدرك أريوزولا سخريته منه ومن جهاز الشرطة بالكامل؛ فعصابات المافيا على أوجها في نابولي، لكنه ابتلع

إهانته ببعض الجعة ليتركه يُكمل:

-أنا أيضًا لا أحب الفساد.

 

تبسم أريوزولا من قلبه حقًا هذه المرة، وكاد ينفجر ضحكًا وهو يقول:

-أنت محق، لا يوجد من يجابهك في حس الدعابة.

 

بجدية وضع ثائر ورقة فارغة أمام أريوزولا قائلًا:

-فلندون جرائمي وجرائم الجميع ولنرَ من المذنب.

 

شرع في كتابة ثلاث خانات، الأولى له والثانية لأمير الكريستال والثالثة للمحافظ كونتي، ثم قال:

-أول جرائمي كانت أنني أكثرهم وسامة بالطبع ويُمكن أن تشهد شقيقتك بذلك إن رأتني.

 

ثارت ثائرة أريوزولا، وجذب سلاحه وألصقه في جبهة ثائر وهو يضغط على كلماته:

-إياك أن تذكر عائلتي مرة أخرى، هل تفهم؟

 

ثائر بتحدٍ:

-يُمكنني أن أدون اسمك في هذه اللعبة إن أردت؛ فأنت على وشك قتل رجل بريء.

 

ارتعشت قبضة أريوزولا من فرط المجهود الذي يبذله لكبح نفسه عن قتل ثائر، ثم أعاد سلاحه إلى جرابه

وشرب بعضًا من الجعة ليُهدئ نفسه، في حين تابع ثائر:

-ثاني جريمة لي، أنني قتلت زعيم عائلة الكامورا الدون بيترو، وقتلت زعيم عائلة الأوروكا دون باولو،

بالإضافة إلى الكثير من رجال العائلتين، لقد ارتكبت جريمة بشعة في حق الإجرام حقًا، لكن فلننتقل إلى

الاثنين الآخرين..

 

انتقل بقلم المحافظ إلى خانة كونتي مضيفًا:

-هذا الرجل كان كعاهرة سمينة تذهب لمن يدفع أكثر؛ دعمني بالسلاح ذات مرة للوقوف في وجه الكامورا،

لكن حينما حشروا المال في مؤخرته، خانني وباعني لهم بالإضافة إلى نابولي بأكملها..

 

ثم إنتقل إلى خانة أمير الكريستال مواصلًا:

-أما هذا فهو حفيد دون بيترو وزعيم الكامورا حاليًا، يورد الممنوعات إلى الموزعين في نابولي، بينما أنا لا

أفعل، يرعى بيوت البغاء بينما أنا لا أفعل، يتاجر بالأوكرانيات والرومانيات بينما أنا لا أفعل، يشحن البشر

في حاويات عبر البحر بينما أنا لا أفعل.

 

ثم حول اتجاه الورقة صوب أريوزولا ومدها إليه متسائلًا:

-من المجرم هنا أيها الضابط، إن كنت حقًا شريفًا كما تتشدق بالعفة دائمًا؟

 

نجح ثائر وبشده في إطلاق سهم المنطق ليخترق عقل أريوزولا الشريف، فقد داعب أوتارًا حساسة لديه؛ وهي

أوتار العفة والأمانة، وأظهر له أن جرائمه لم تكن سوى في حق المجرمين، كما إن بضائع ثائر غير منتشرة

في السوق لتغلب جودة بضائع أمير الكريستال عليها، وهذا ما جعله بريئًا من أي تهم في حق شعب نابولي.

 

قبل أن يُجيب أريوزولا تحركت كاميرا البث، فتهللت أسارير ثائر وهو يقول بحماس:

-سيبدأ العرض أخيرًا.

 

استحوذ المشهد على تركيز الاثنين؛ فكان مهمًا لإماطة اللثام عن عملية إرهابية منتظرة لأريوزولا.

 

في حين كان مشهدًا كوميديًا لثائر يستحق المزيد من الجعة.

 

فجأة، جُذبت بكرة الباب ليُفتح، والذي لم يكن سوى باب طائرة.

 

فظهر في الواجهة المحافظ كونتي وهو يصعد سُلم الطائرة مرتديًا ملابس خليعة كاشفة عن رغباتٍ غير سوية

كان يقوم بها في الخفاء.

 

ملامح الرعب والفزع تعتري وجهه وهو يكاد ينطق بكلماتٍ ما، في طرفة عين أطلت فوهة بندقية نارية من

الطائرة، وبطلقة واحدة سقط جسد أنطونيو كونتي ليتدحرج على درج الطائرة ثم يسكن جثة هامدة.

 

انتفض جسد أريوزولا، وهم واقفًا وقد اتسعت عيناه ذهولًا واستنكارًا لبشاعة ما حدث.

 

في حين أصدر ثائر صفيرًا كأن فريق نابولي لكرة القدم قد أحرز هدفًا..

 

فجذب أريوزولا سلاحه وأشهره في وجه ثائر متوعدًا:

-إياك أن تخطو خطوة أخرى أيها المجرم، أنت رهن الاعتقال بجريمة قتل المحا..

 

بتر ثائر عبارته متثائبًا وهو يقول:

-أأحمق أنت، أرأيتني أُطلق النار عليه؟

 

ثم هم واقفًا في عدم اكتراث للسلاح المصوب إليه، وهو يُضيف:

-فليتغمده إلهنا الرحيم في رحمته، لقد أوصاك أن تقلني إلى المنزل، وأنا أحتاج إلى العودة لإحضار سترة

سوداء لأجل العزاء.

 

عض أريوزولا شفته بحنق وقد شعر بالعجز والهوان أمام هذا الشيطان القذر الذي يلهو بالدماء كأنها محض

دعابة تافهة.

 

تابع ثائر وهو يخطو إلى خارج المكتب بهدوء قائلًا:

-هناك دائمًا يد تمتد من السماء لإحلال العدل، فلا تقف في طريقها حتى لا تسحقك أيها الضابط أريوزولا.

 

***

مواعيد النشر: السبت

(((لقراءة الفصل الحادي عشر إضغط هنا)))


تعليقات