(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
وقفت سيبال باستنكار، ثم قالت:
_لحظة،
لحظة! هل يعني هذا أن مارت قدم من الحاضر أيضًا كما جئنا أنا وكلير؟! أنا كنت أعرف
كلير من قبل، لكن مارت التقيت به هنا!
_نعم جميعكم جئتم من الحاضر،
ولكن هذا السر يجب أن يبقى بينكم، وألا يطلع عليه أحد، فنحن لا نعرف المفاجئات التي
تنتظرنا لكونكم فرسان هذا الزمان.
ثم أردفت لورا بنبرة تحذيرية:
_إياكم
والبوح به في الوقت الراهن، والآن يجب أن تغيروا ملابسكم؛ حتى تتناسب مع رحلتنا الطويلة
والمتعبة.
بلمسة سحرية من بين يديها،
مع صوت فرقعة بسيطة بإصبعيها الإبهام والوسطى، ظهر شعاع أرجواني اللون، حركت يديها
بحركة دائرية؛ لتظهر من خلاله ملابس مرتبة مغلفة.
ثياب متشابهة للجميع، بنطال
رقيق واسع، مع أساور مطاطية في نهايته، وفوقه قميص أبيض بأزرار على جانبيه، وللفتيات
كان هناك ثوب إضافي دون أكمام فوق القميص، وأما الحذاء عظمي مسطح مربوط بأقدامهم بحبال
مجدولة قوية؛ حتى يتناسب مع الأرض التي ستطأ عليها أقدامهم.
غيروا ملابسهم بسرعةٍ، واستعدوا
للانطلاق خلال لحظات، فضغطت لورا على أحد أحجار الغرفة التي كانوا بداخلها، ليصبحوا
في الخارج بلمح البصر، مساحة رملية ممتدة، تلمع مثل عباءة حريرية ذهبية، تتماوج
من خلال الضوء القليل المنبثق من الشرق، فهو موعد بزوغ الشمس من ثباتها الليلي.
نظر الفرسان الثلاثة لبعضهم
بذهول، وقالوا بصوت واحد:
_من
أين جاءت هذه الرمال الذهبية؟! هل هذه صحراء حقًا؟
انحنى مارت أمامهم، حمل بعض
من الرمال التي كانت أشبه بغبار من الذهب ومسدها بيديه برفق؛ حتى يتأكد أنها حقيقية.
اقتربت لورا أمامهم وهي تقول:
_ سترون
العجائب في أرض مالطة القديمة، إن تضاريس المكان مذهلة، فهي تجمع بين التربة السوداء
كالليل، والرمال الصفراء البراقة كالذهب، لن أتحدث كثيرًا إنما سترون كل شيء بأم أعينكم.
وأما الآن يجب أن نتقدم قبل
أن تصرخ الشمس على الرمال فتلتهب وتحرقنا، أو يظهر لنا أحد وحوش شمط ويلتهمنا.
مشوا كرتل وراء بعضهم البعض
يتبعون خطا لورا، حاملين على ظهورهم خوفهم وعناءهم فلكل واحد منهم قصة مختلفة، تختبئ
من ثنايا جوفه، وهموم ثقال تناطح تلافيف عقله، بإضافة لحقائب سفر تساعدهم في مغامرتهم
المجهولة، تحتوي ماء في قوارير جلدية صغيرة، كسرات من الخبز وبعض معدات الرحلة.
مشوا مسافات طويلة حتى حفرت
أثار أصابعهم على نعالهم، واستراحوا مرات عديدة تحت ظلال أشجار النخيل التي تحضرها
لورا بسحرها البسيط بين الحين والآخر، تصببوا من العرق الذي بلل أجسادهم، وتبسموا عندما
داعبهم شبح نسمات الهواء، التي تمر بين الحين والآخر من قربهم.
جنح الظلام وتقلصت درجات الحرارة
العالية، ولورا تقول أن الطريق ما زال بعيدًا، نامت الفتيات في خيمة جلدية، ونام مارت
لوحده في العراء، أشعلوا النيران بالقرب منهم؛ حتى لا يقترب منهم الوحوش البرية الليلية
التي يسمعون حثيثها.
وعادوا في الصباح ليكملوا
ما بدأوا ، شعروا أنهم يدورون في حلقة دائرية لا تنتهي، ولا تحيط بهم إلا الرمال، غلت
رؤوسهم كالماء في المراجل، أنهكهم التعب والخوف والمجهول.
الوحيدة لورا التي كانت تعلم
ما يكابدون في صحراء الذهب، فقد مرت بلحظات من الإحباط تشبه هذه من قبل أن تلتمس الحقائق.
جاء صوت لورا من نهاية الرتل
وهي تقول:
_هل تعبتم يا رفاق؟!
ردت سيبال بصوت متقطع الأنفاس
وهي تقول:
_أما
زال الطريق طويلًا ؟!
ظهر مارت من تحت جذع النخل
الذي وضعه على رأسه؛ كي يحميه من أشعة الشمس اللاهبة، وهو يقول:
_لم
أتعب في حياتي كهذا التعب، لماذا نسير في صحراء كهذه ألا يوجد طريق آخر؟!
رفعت كلير نظرها باتجاه لورا،
تتوجس جوابًا على سؤال مارت، لكنها تجاهلته كأنه لم يسأل ثم قالت:
_دعونا
نرتاح قليلًا.
أخرجوا كسرات الخبز ورشوها
بالمياه، أجفلوا من قوارير الماء كادت أن تنفذ من مخزونها، وجلسوا كي يرتاحوا لبعض
الوقت، تمدد مارت بالقرب منهم، شعر بعد وقت ضئيل أن الأرض تحته تهتز، قام من مكانه
يتلفت حوله بخوف وهو يقول:
_هل
شعرتم بما شعرت به يا فتيات؟!
هز الثلاثة رأسهم إلى الأعلى
بالنفي وهم يمضغون الخبز الذي بين يديهم، تفحص المكان الذي حول الشجرة، مشى بضع خطوات
بروية وحذر لكنه لم يجد شيء يثير قلقه، عاد للتمدد من جديد، لكن قلبه يقول أن هناك
خطأ ما! لا يعرف من أين جاءه إحساس كهذا؟!
وما هي إلا دقائق معدودة،
حتى ظهر حيوان بري يشبه الحرباء في شكله، والتمساح في حجمه، جاحظ العينين بلا أهداب،
ذو ذيل طويل يرسله نحو الأعلى يمينًا ويسارا، لديه يدان قصيرتان وأرجل عملاقة
مرتفعة، ولسانه الطويل المدبب ذو القرنين يطلقه أمامه بأميال، وصوته أشبه بفحيح الأفعى،
يمشي ببطء باتجاههم والأرض تهتز من وقع أقدامه كأنها تنذرهم بالكارثة القادمة.
وقف الثلاثة بتأهب وذهول وهم
يقولون:
_يا
إلهي! ما هذا الحيوان؟! ومن أين ظهر؟!
كانت لورا الوحيدة التي تعرف
هذا النوع من الحيوانات فقالت:
_إنه
تنين كومودو، وهو يقطن هذه الصحراء، لكنه لم يظهر منذ سنوات عديدة! لعله تحرك بأمر
من أحدهم.
جاء صوت الثلاثة بشكل مرتجف
متقطع:
_ماذا؟!
تنين كومودو!
سرعان ما قالت سيبال:
_لورا
إنه يقترب ماذا سنفعل؟!
_تفرقوا في أماكن عديدة، واركضوا
بخط لولبي متعرج؛ بسبب ضخامة حجمه لن يستطيع أن يصل إليكم، إياكم والخط المستقيم، إن
أمسك بكم ستكونون فريسة سهلة بين فكيه!
مارت لم يخف على نفسه بقدر
خوفه على سيبال، التي كانت أول من ركض من أمامهم، تبعتها لورا بسرعة قصوى، لحق بهم
مارت، لكن كلير بقيت متسمرة في مكانها تبكي وتصرخ وقد ثبت نظرها في نقطة واحدة باتجاه
التنين الذي يتقدم، تصرخ بقوة:
_ما
زلت صغيرة، لا أريد أن أموت!
صرخ مارت بكل قوته:
_كلير
اركضي، إن الوحش يقترب!
لكن قدماها كانتا ثقيلتان،
كمن ربط بهما أكياس من الرمل، لم تستطيع أن تتحرك، وضعت يديها على عينيها، واستسلمت
لمصيرها المحتوم، وهي تفكر أنها ستكون وجبة دسمة لوحش بري!
كانت الأرض تهتز تحت قدميها،
ولا تسمع سوى فحيح التنين، فجأة يد مارت التقطتها من أمام الوحش، وأمسكها من يدها وراح
يركض بها والوحش يتحرك خلفهم، لم تكن قوة مارت كافية لسحبها وسحب جسده والركض على الرمال
الحارة، عندها نظر خلفه فوجد أن تنتين ما زال يلحق بهم، وسيبال ولورا بعيدين جدًا،
صرخ بقوة:
_كلير
اخلعي حذائك، هيا بسرعة ليس لدينا وقت!
نزلت كلير لتخلع حذائها وعيني
مارت مرة على الرباط الذي يحرره من قدميه ومرة أخرى يناظر ذلك الوحش الذي يقترب منهم،
صرخ بكل قوته:
_كلير
الآن، قفي.
عندما وقفت، اقترب منها وهمس
بخفوت:
_ عندما
ترينه اقترب أكثر، التفي إلى الوراء وعودي حيث كنا، هل تسمعيني؟!
لم يحصل على إجابة منها، دفع
ظهرها بقوة وهو يقول:
_الآن،
انطلقي.
اطمأن أن هذه المرة كلير ركضت
لتعود حيث النخلة، نظر إليها التنين نظرة خاطفة وهي تمر من جواره بسرعة الصاروخ، تعسرت
ونهضت ثم تعسرت ونهضت مرات عديدة، حاول مارت أن يشتت انتباه التنين بصراخه، كانت ضربات
قلب مارت مضطربة، يدق في الثانية الواحدة مليارات الضربات، والعرق يتصبب من كل ثنايا
جسده، لكنه بقي واقف يصرخ حتى اقترب التنين منه أكثر، وأصبحت عينيهما مقابل بعضهما،
ثبت مارت بتحدي وهو يقول:
_شعرت
بك قبل أن تقترب، لا تظن أنني أخافك أو أخاف الموت، هيا عد حيث كنت.
كان لسانه يتلوى خارج فمه
يمينًا ويسارًا، كأنه يشتم رائحة مارت، عاد مارت للصراخ بقوة وهو يقول:
_إن
لم تغادر، أنا سأغادر.
وصرخ صرخة مدوية، سمعتها الوحوش
في الصحراء جميعها وهي يقول بعد أن رفع سبابته في وجهه كأنه يفهمه:
_إياك
واللحاق بي، هل فهمت؟!
مشى مارت متتبع خطوات كلير
لمسافة قصيرة، ثم أخذ يركض حافي القدمين، والرمال تتصاعد ورائه كالغبار، حتى وصلت إلى
رأسه، كان يخشى إذا التفت للوراء أن يجد التنتين قد لحق به، ولم يتوقف حتى تلقته كلير
بين يديها بحضن متلهف، هدأ من روع ضربات قلبه المضطربة، وهي تقول:
_كيف
فعلتها؟! لقد اختفى كأنه لم يظهر.
عندها تجرأ مارت ونظر خلفه؛
ليتأكد أن لا أثر لتنين الكومودو، خارت قواه وجثى على ركبتيه كأنه في معركة وقاتل ألف
من الجنود الأشداء فهزمهم، هربت دمعة من عيني كلير وهي تقول:
_شكرًا
على إنقاذي، لا أعرف كيف أشكرك! الحمد لله على سلامتك.
مشاعر مختلطة انتابت كلير
في لحظتها، دموع الفرح الممزوج بالفخر لمارت، لم تتلقى اهتمام كهذا في حياتها، فقدت
أدنى حقوقها كطفلة ومراهقة وفتاة يافعة، ولم يكن لها سند أو ظهر تستند عليه عندما تميل
بها الدنيا، كانت دائمًا تسند نفسها بنفسها، رأت في مارت بطلها المنقذ، كانت عينيها
تلمع بالفرح؛ لأنه أراد أن يضحي بحياته كي تعيش هي.
جثت على ركبتيها أمامه، وضعت
يدها فوق يده بحنو وهي تقول:
_أنت
بطلي، سأرد لك جميلك هذا يومًا ما.
هربت الكلمات من لسانه، وماتت
الحروف في جوفه، لا يعرف كيف سيرد عليها، أومأ برأسه إلى قارورة المياه متهربًا من
نظراتها التي لم يعرف أن يترجمها وهو يقول:
_إنني
عطشان!
ركضت لتحضر المياه، قدمتها
له ويديها ما تزال ترتجف، لم تهدأ إلا عندما سرحت في عيني مارت البندقية التي كانت
تلمع تحت أشعة الشمس اللاهبة، نسيت أنها في الصحراء وشعرت أن الزمان توقف، توقف عند
تقاسيم وجهه التي تحاول أن تحفرها في ذاكرتها.
أيقظها في شرودها صوت سيبال:
_لقد
فعلتها يا مارت، كم أنت مغوار!
قالت لورا بتعجب:
_يبدو
أن قدراتك قد بدأت بالظهور!
_لم أفهم، عن أي قدرات تتحدثين؟!
_ستعرف كل شيء في وقته يا
مارت، لا تستعجل على رزقك.
طووا المسافات الشاسعة، مشيًا
على الرمال التي تلتهب تحت أقدامهم، يشعرون أن الشمس تدنو من رؤوسهم، وجهتهم المجهول،
ودليلهم قلوبهم التي تهمس بخفوت هناك من يحتاج مساعدتكم، أنتم فرسان هذا الزمان! تخطو
أقدامهم بصعوبة على ذرات الرمل الملساء، وعقولهم أكلها التفكير بما سيحصل شاردين في
ذهول، صاحت لورا فجأة:
_ها
قد وصلنا إنه طرق نجاتنا.
نظروا إلى البعيد، كوخ منفرد
على تلة رملية مرتفعة، شامخ كجبل صامد في وجه الحياة، منسي في أقصى بقاع الأرض، مثلثي
الشكل وملون كأنه لعبة طفل مهملة في زاوية غرفته.
تسارعت خطواتهم، عندما علم
أنه طوق نجاتهم، كلما تقدموا كلما شعروا أن المسافة تبتعد، كأن لعنة حلت على أقدامهم،
يمشون وهم في مكانهم.
***
مواعيد النشر: الأربعاء
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة