(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
( الوصول
إلى الكوخ)
مشوا يوم وليلة دون أن يشعرون،
أنظارهم مشدودة بجهة واحدة وجنح الظلام عليهم، ينظرون إلى البيت ويتقدمون تجاهه لكنهم
لا يصلون أبدًا، جلست كلير على الأرض بنفاذ صبر، مدت قدماه أمامها، وهي تسحب أنفاسها
المتقطعة بصعوبة وتقول:
_لست
قادرة أن أتقدم مقدار ميل واحد، يا إلهي كأن الكوخ مسحور! أو أنه مجرد سراب نراه ولا
نستطيع أن نصل إليه.
تبعتها سيبال ولورا في الجلوس
دون كلام، وبقيت مارت واقف لبرهة من الزمن ينتظر أن يغيرون رأيهم، لكنه هو الآخر كان
منهك من الركض فجلس نجانبهم القرفصاء.
وضعوا أيديهم تحت أفواههم،
ونظروا إلى الكوخ محاولين ايجاد طريقة توصلهم إليه، قال مارت:
_لورا
هل تستطيعين أن ترسلينا إلى هناك بسحرك؟!
أهزت رأسها بقلة حيلة، معلنة
استسلامها أمام ذلك البيت الملعون.
زلزلت الأرض تحت أقدامهم على
حين غرة، وكأن هناك من سمع حديثهم، كالمغناطيس يسحبهم بخطوط شفافة غير مرئية، لا يرون
شيء سوى الغبار المتصاعد من الكثبان الرملية التي دخلوا بها، غار صوتهم وتماهى مع الدوامات
اللولبية، كل شخص يصرخ باسم الآخر، وبعد دقائق وصلوا إلى فناء كبير، كأنهم انتقلوا
من عصر إلى آخر، وليس من مكان لآخر، أرض عشبية خضراء وعلى أطرافها شتى أنواع الرياحين
والزهور، عبقت بأنفهم الروائح العطرة، بدأوا يزيلون الرمال التي علقت على ثيابهم وهم
يقول:
_أين نحن؟!
وقفوا يفحصون المكان كل واحد
منهم في زاوية من زواياه، كانت الساحة الصغيرة التي وقفوا عليها كأنها جنة على الأرض،
فالنباتات الخضراء المتسلقة في كل مكان، تتخللها الأزهار الملونة بشتى الألوان،
وهناك النباتات الشوكية ذات الأشكال الفريدة النادرة تزين الأرض وترسمها بلوحات مدببة
متفاوتة.
جاء صوت لورا وهي تقول:
_أظن
أنني أعرف أين وصلنا!
جاءها صوت أبح من فناء أحد
الأزقة المتصلة بالساحة وهو يقول:
_أهلا
وسهلًا بفرسان هذا الزمان! وأهلا وسهلا بكم يا أولادي.
اتجهت الأنظار باتجاه الصوت
مفترسة ذلك الوجه المنير، رجل في العقد الستين من عمره، ذو همة واضحة وجسد صلب، لا
تعرف مرور الزمان عليه إلا من الخطوط العريضة التي رسمت وجهه كأنها هدايا السنين؛ لتعطيه
الوقار والنضج، يرتدي فستان رجالي واسع ومفتوح الجوانب، وتوسطه حزام قماشي مجدول الخيوط،
فيرفع به الفستان أسفل صدره، يتلحف بغطاء من الفراء الناعم يسدله عن كتفيه ليصل إلى
كاحليه، لف رأسه بوشاح منقش يظهر دوران وجهه الذي يشبه البدر ليلة التمام، وعينيه الخضراء
تتماهى مع النباتات المحيطة به، ويرسم على ثغره طيف ابتسامة وقد فتح يديه على مصراعيها؛
ليظهر صدره الرحب، مرحبًا بضيوفه الجدد، أخذ مارت في أحضانه ربت على ظهره وأشار إليهم:
_من هنا يا أبنائي تفضلوا.
همست لورا بصوت خافت، عندما
رأت علامات الذهول والقلق رسمت على الوجوه، حاولت محاولة يتيمة ويائسة أن تطمئن قلوبهم:
_إنه
الخال أدريان الحكيم، اتبعوه ولا تخافوا.
مشوا ورائه دون كلام، لم يكن
جمال الفناء بأقل من جمال الغرفة في الداخل، غرفة واسعة مقسمة لغرفة ضيوف وأخرى للمعيشة
فيها طاولة مستطيلة تبدو من الخشب الخام الممدود بشكل طولي، رسمت عليها زخرفات يدوية
باللون الأسود؛ تظهر براعة الصانع، وحول الطاولة عدد كبير من الكراسي الخشبية، كأن
سكان المكان ثلاثون شخص أو أكثر، مع أن الخال أدريان يسكن وحده، إلا أن ضيوفه كثيرون
جدًا، قد لا تكفيهم طاولة كهذه.
كانت كلير أشد الفرسان اندهاش
لما تره، كأنها في قصر من قصور الخيال أو الروايات، تضع يديها على الأثاث وترفعها بذهول،
تتفحص كل التحف البلورية والمقتنيات العظمية التي احتفظ بها الخال على مر الزمان، جالت
بنظرها نحو الأريكة التي تبدو كأرجوحة متحركة أمام مدفئة الحطب، والتي أصر الخال على
إشعالها لتعطي رائحة الصنوبر المحروق ميزة أخرى للمكان فتنعش الذكريات في تجاويف العقل
وتعرجات القلب، وتطبع صورة راسخة للمكان في الذاكرة.
كان الجميع جالسين بهدوء واستسلام،
نهضت سيبال تضع يديها بالقرب من المدفئة وهي تقول:
_يبدو
أن الكوخ معزول عن الجو الخارجي، فنحن في منتصف الصيف، والجو الخارجي شديد الحرارة،
أما هنا أشعر بقشعريرة انتابت جسدي، ويدي استحالتا لقطعتي من الجلد.
تقدم الخال لقربها وأراد أن
يشرح لها طبيعة المكان ولكن انتابته نوبة سعال حادة فجأة، راح يسعل بشدة وصوته يختفي
بالتدريج، وضع يده على صدره واليد الأخرى أشار بها إلى العلبة الموضوعة على الرف خلف
الباب، فأسرع مارت الخُطوات؛ ليحضرها له، فتح العلبة وأخرج منها منديل باللون الأصفر،
تتخلله رائحة تشبه رائحة الدواء في عصرهم، استنشق منه بقوة عدة مرات ثم اقترب من النافذة
كأنه يأخذ كل الأوكسجين من الجو، تجمع الفرسان بقربه، وقد اضطربوا من حالته تلك، رأى
نظرات الذعر في أعينهم، عندما وقفوا جميعهم بقربه عاجزين عن فعل شيء، حاول أن يتجاوز
الموقف الجلل بروح فكاهية وهو يقول:
_عمر
الشقي باقي، لا تخافوا لن أموت حتى أوزع المهام عليكم، ترون أنني اليوم متعب، وأنتم
كذلك متعبون، تناولوا الطعام الذي في القدر، واستريحوا وفي الغد نبدأ حديثنا.
لم ينتظر منهم جواب، أشار
إلى الغرف التي سينامون بها واختفى من أمام أنظارهم كأنه دخان في الهواء.
كانت لورا أول المتقدمين إلى
المطبخ الذي بالقرب منها وهي تقول:
_لقد
سمعت الكثير عن الخال أدريان، لكنها المرة الأولى التي أره، والوصف مختلف تمامًا عن
الرؤية.
جلست على الطاولة وتبعها البقية،
عم السكون المكان، يتناولون طعامهم، وكل واحد منهم غارق في بحر أفكارهم، أين
كانوا وأين بدأت حياتهم والآن أين هم؟!
بلد غريب وأرض أشبه بالخيال
أشخاص مختلفون، لا يعرفون هل يرتدون الأقنعة أم هذا وجههم الحقيقي؟!
صعدوا جميعًا إلى طابق علوي،
مساحة ضئيلة تحتوي سريرين بجانب بعضهما، وغرفة منفصلة بحاجز خشبي كانت من نصيب مارت،
ولورا حصلت على سرير وسيبال أخذت سرير آخر.
بقيت كلير تنظر بحيرة وهي
تسأل نفسها:
_أين
سأنام؟!
رأت درج رفيع في نهاية الغرفة،
صعدت عليه فإذا بمساحة صغيرة جدًا بالكاد تكفي الشخص الواحد، تحتوي فراش بسيط مفروش
على الأرض، أخفضت رأسها لتدخل من الباب الصغير وتقدمت إلى الفراش، فأسرتها الغرفة؛
كانت كغرفة الأقزام بترتيبها البسيط والنافذة الزجاجية التي تطل على الحديقة الخارجية،
تمددت مكانها فرُسم وجهها بعلامات الطمأنينة والرضى، جاءها صوت سيبال بعد أن لحقت بها؛
لتوقظها من شرودها، فقد تنبهت لغيابها وأخذت تبحث عنها، وقفت عند نهاية الدرج، مدت
رأسها من الباب وهي تقول:
_كلير
أنت هنا؟
_نعم أنا هنا، لا تقلقي سأنام
هنا، المكان يكفي لحجمي الضئيل.
لم تتمكن سيبال من الدخول
إلى الغرفة، فجسدها الممتلئ بعض الشيء لا يسمح لها بالمرور، على عكس كلير فهي نحيلة
جدًا، وطولها لا يتعدى المتر ونصف، تبدو كفتاة في الخامسة عشر من عمرها، أمعنت سيبال
النظر لكلير، وهزت رأسها بتفهم وهي تقول:
_يبدو
المكان غريب، إنه ككوخ دمية، هل متأكدة أنك ترغبين البقاء فيه؟ ألن يضيق نفسك من المساحة
الضيقة تلك؟!
هزت كلير رأسها للأعلى بمعنى
لا، انصاعت سيبال أخيرًا لرغبتها وعادت أدراجها، هدأ صوتهم جميعًا بعد دقائق، فقد حلت
الراحة والسكينة مكان التعب والجهد التي بذلوه لأيام، أسدلت أعينهم وغطوا في نوم عميق،
عدا كلير التي شعرت بالوحشة، ففي بيتها كانت تنام وحيدة ومنذ قدومها إلى هنا حبست في
غرفة وحيدة، والآن أيضًا اتخذت غرفة لتنام وحدها، تقلبت في فراشها كثيرًا ولا تعرف
لما انتابتها مشاعر الخوف، وعادت للبكاء مجددًا، فلا وسيلة تنفس عن حزنها غير دموعها
المنهمرة والساخطة على ظروفها ومحيطها، حتى نامت نهاية الأمر وقد بللت دموعها الوسادة
والغطاء.
انتصف القمر وسط السماء محاطة
بظلام دامس، كأنه قطعة من النور يرسل ضياءه الخافت لغرفتها، شعرت بحركة غريبة فتحت
عينيها بخوف فسمعت كالهمس في أذنيها، اضطربت دقات قلبها، والعرق تصبب من جميع أنحاء
جسدها النحيل، تحركت من مكانها محاولة اكتشاف مصدر الصوت، صرخت صرخة مدوي سمعها كل
من في البيت، حتى وحوش الصحراء سمعتها وأجابتها بصراخ مماثل.
كانت سيبال أول من صعد إليها،
سألتها متلهفة:
_كلير
ما الذي حصل؟!
قالت كلير بصوتها المرتجف:
_إنها
أفعى! ثم اختفى صوتها، ولم تستجيب لصراخ سيبال المتكرر.
جاء الخال أدريان عندما سمع
صراخ سيبال تستنجد بمارت ولورا، كان يقفون جميعهم على الدرج الرفيع، لا يعرفون كيف
سيدخلون؟!
_ابتعدوا
عم طريقي، مد ذراعيه بشكل طولي، سحب الفراش الذي كانت تنام عليه كلير، سحبها من قدميها
وأنزلها الدرج بعد أن حملها على كتفه.
مددها على الأرض، ونظر للجميع
وهو يقول:
_يبدو
أنها تعرضت للدغ ثعبان، ساعدوني لنعرف مكان اللدغ قبل أن ينتشر السم في جسدها.
قالت لورا:
_ابتعدوا
قليلًا.
وضعت يدها على رأسها وأخذت
تمرر يديها فوق جسدها ببطء شديد كأنها تتفحص جسدها عن بعد، ظهر شعاع أبيض مكان الإصابة،
وكان في كاحلها اليمين.
نزع الخال أدريان الوشاح الذي
غطا به رأسه، وربط فوق الإصابة وقال موجهًا كلامه لمارت:
_لو أخرجت السم من جسدها لن
أتمكن من التنفس؛ لدي ضيق تنفس خلقي، لكنك تستطيع فعلها فأنا أثق بك!
أشاح مارت بوجهه مستنكرًا
وتردد لبرهة من الزمن، لكن عندما سمع أنين كلير وهي تهمس باسمه، شعر بالشفقة عليها
كما لم يشعر بها تجاه أحد، جلس على ركبتيه، حمل قدمها وبدأ بمص السم وقذف لعابه بعيدًا،
كرر الأمر لثلاث مرات أو أكثر، إلى أن شعر أنه يرى خيالات متعددة تمشي أمامه، كل شخص
يراه بشخصيات متعددة، شعر بغثيان فوضع يده على فمه وأشار إلى سيبال لتساعده، سواد حالك
غطا كل شيء أمامه، ولم يعد يستطيع الرؤية، وكان آخر ما سمعه صوت الخال أدريان يقول:
_لا
تقلقوا سيكون بخير هذا من تأثير السم عليه لا أكثر.
ثم غط في نوم عميق، وحلم بحلم غريب، رأى سيبال ترتدي فستان زفاف أبيض،
تمشي به حافية على الرمل بالقرب من البحر وقد بللت أقدامها بالمياه الممزوجة بالرمل
لكن ما لفتت انتباهه لون الرمل الأسود، وتضع على رأسها أكليل من الورد الملون، عندما
رأته فتحت يديها بحب والابتسامة ملأت وجهها، ابتسم مارت وتقدم بخطا متسارعة ليأخذها
في أحضانه، وعندما وصلت إليه تجاوزته وعينيها متعلقة بشخص آخر، استحالت ابتسامة مارت
لجمود وذهول، اضطربت دقات قلبه، توسعت حلقات عينيه، نظر إلى أصابعه التي تشنجت، كأنه
يمسك كرة وهمية في كفيه، رأى بالجهة المقابلة كلير، وقفت أمامه مسحت على وجهه وقلبه،
ومسدت له يديه حتى تعود لطبيعتها، لكن عينيه كما قلبه ظل متمسك بابتسامة سيبال التي
كانت تتطاير بين يدي ذلك الشاب المجهول كالفراشة البيضاء.
***
مواعيد النشر: الأربعاء
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة