(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
في
الصالة الرياضية، كانت هذه الفتاة تُشعل الأجواء برفعها لجسدها الثقيل بخفة ومرونة
في الحلقات
المعلقة،
سرعان ما تنهي هذا التمرين حتى تُفلت الحلقات وتهبط لتؤدي التمارين البدنية بسرعة
ومهارة كأن
جسدها
أخف من الريشة، ثم تنتقل إلى آلة الركض لتُسجل رقمًا قياسيًا جديدًا في سرعة آداء
تمارين الفخذ.
من
بعيد كان فدريكو يرمق هذه الفتاة البرونزية التي اكتست بلمعان العرق والجهد.
تُفرغ
تمارين الركض ثم تربط حزامًا حول خصرها وتنثر على جسدها المسحوق الأبيض حتى لا
تنزلق
الحقيبة
التي تحمل ثُقلًا من الرمال يتعدى المائتين والخمسين كيلو جرامًا.
أصدر
صفيرًا متعجبًا وتقدم صوبها كما يفعل الليث متخفيًا بالأحراش.
حتى
أفلتت الثقل وشرعت في تسلق الجدار الخشبي ذا الثقوب، فجاء هو من بعيد وركل الجدار
الحديدي
ليختل
توازنها وتسقط يسبقها سبابها.
تلقفها
فدريكو بين ذراعية قائلًا بقهقهة صاخبة:
-هكذا
تُلقى لنا العطايا من السماء.
زفرت
كاترين بجفول قائلة:
-سُحقًا،
إنه أنت.
ثم
هرعت بالوثب لتقف على قدميها وهي تردف:
-تبًا
لك كيف تُمسكني هكذا، لم أستحم بعد.
هز
فدريكو رأسه قائلًا:
-منذ
متى نهتم بهذه الأشياء، لقد كنا معًا في الخنادق وبين الطين والروث؟
شرعت
كاترين في حمل الأثقال لاهثة:
-هل
ترى هذه الأدوات الرياضية الوضيعة كالخنادق والطين والروث؟
مط
فدريكو شفتيه قائلًا برقة:
-أي
مكان معكِ هو خنادق وطين بالنسبة لي..
ثم
رمق جناجي الفراشة على ظهرها البرونزي مردفًا:
-لقد
كان هذان الجناحان أجمل شيء كسبته في هذه الحروب، ولا زال كذلك.
كاترين
وهي تُلقي حاملة الأثقال على الأرض بعنفٍ كاشف عن غيظها:
-فلتجعل
صديقك الأشقر يرسمه على ظهره إذًا.
ذكّره
حديثها بما قالته مارتينا حينما اغتاظت من ثائر، فتساءل في قرارة نفسه؛ لمَ
الفتيات يكرهن علاقته
بصديقه
لهذه الدرجة، ثم تبسم رغمًا عنه.
الأمر
الذي جعلها تغضب وتدنو منه لتلكزه في صدره قائلة بغلظة:
-فلتبتعد
عن طريقي.
لم
تبرز قاطعتي أسنانها وهذا ما طمأن فدريكو؛ فهي لم تصل إلى مرحلة الغليان بعد،
فلحقها قائلًا:
-ثائر
أقرب لي من أخ، لقد استلقينا على هذه الأرصفة اللعينة معًا وكونّا عائلة من
المشردين مثلنا..
بترت
كاترين عبارته بصلابة:
-هنيئًا
لك، فلتذهب لعائلتك ولتبتعد عني.
كان
من عادات كاترين أن تتجه لحمل ثقلٍ أكبر حينما تغضب، فذهب إلى ثقل عاتي أخطأت حمله
من فرط
غضبها،
فتناوله فدريكو منها بيدٍ واحدة، وقال بصرامة:
-نحن
المعسكر المنعزل كما يقول وغد الكريستال الذي تعملين لديه، جميع عصابات إيطاليا
تكرهنا والجميع
يحمل
الضغائن ضدنا، وأنت تعرفينني جيدًا؛ لا أقدر على أذية القطط أو التخلي عن صديق،
فما بالكِ
بعائلتي.
انتشلت
كاترين الثقل من بين أصابعه وألقته بعيدًا ثم لكزته بسبابتها بغضبٍ جامح وهي تصيح
به:
-أنا
أيضًا عائلتك أيها الوغد وقد تخليت عني.
أمام
كلماتها وقف فدريكو عاجزًا وقد تاهت الكلمات عن خلده، كل ما كان يُعده لها من حديث
ذهب أدراج
الرياح.
فمطت
كاترين حاجبيها وقد برزت قاطعتي أسنانها أخيرًا وهي تقول:
-أعلم
ذلك، لم أكن عائلتكَ يومًا، بل مجرد نزوة تُشبع بها حماسك وتُنفق بها أدرينالين
المعارك، تبًا لك أيها
الوغد،
تبًا لك.
ثم
انتشلت حقيبتها الرياضية، وشرعت في مغادرة المكان.
في
حين جلس فدريكو على أحد مقاعد الاستراحة وهو يُردد بشرود:
-اللعنة،
اللعنة، لازلت أحمق عاجز لا أستطيع المواجهة.
***
على
سطح المبنى السكني الخاص بزمرة ثائر، وقف يستند إلى السياج، يُدخن لفافة تبغ
ويحتسي كوبًا من
الشاي.
بينما
الشرود يأخذه إلى عوالم وأحداث أخرى، بعضها من الماضي حيث هذه الزقاق التي عانى
بها العذاب
الأليم،
وبعضها من الحاضر بما يحمله من أعداء يتربصون له من كل جانب؛ فجماعته أكثر
الجماعات
كُرهًا
في إيطاليا لما ارتكبه في حق عائلات المافيا الثلاث.
لديه
عرش يُطالب به وقد كان متوجًا به قبل ذهابه إلى مصر؛ عرش عائلتي الأوروكا ونوسترا،
أما الآن وقد
غاب
لأعوام فلا بد أن هناك من احتل مقعده، والمطالبة الآن تعني حربًا ضروسًا، والحرب
وقودها دماء
الأشقاء
والأحبة.
زفر
دخان التبغ المحترق بقلبٍ مهموم؛ فقد بات يشعر أنه غريب على هذا البلد الذي ترعرع
بها، أجل هو
الآن
يمتلك القوة لمجابهة دولًا وإمبراطوريات، ولم تعد هذه الزقاق ملائمة له، بل يجب أن
يجلس في القصور
الآن،
لكن هؤلاء هم أشقاءه الذين ظلوا في انتظاره بصبر دون أن يقنط منهم أحد.
أيترك
كل شيء ويهجرهم الآن، أيكون هو طعنة الظهر لهم، أم يبقى ويقودهم في القتال ليموت
منهم المزيد؟
((ما
لي أراك حائرًا كفريسة مرتعدة بين براثن الأسد؟))
نطقتها
الأخت نورينا وهي تلج إلى السطح، فاكتسب وجه ثائر بصيص من الابتهاج كما يحدث له
عادة
حينما
يرى الأخت نورينا، العاهرة السابقة في مواخير الكامورا، التحقت بأطفال الزقاق
حينما أمسكوا السلاح
ووقفوا
في وجه ثان أقوى عائلات مافيا إيطاليا، فكانت الإبريق الذي يستقي منه ثائر ليكظم
عطشه للأم
والأب؛
فمن ولِد في الزقاق ستربيه الزقاق حتى تخضبه بحرمانها للأبد.
أجابها
ثائر بعد شرود:
-لقد
أطلقت رصاصة صاخبة وسط هدوء الليل الصامت؛ ليلتفت الجميع إلى عودة الوريث الهجين
من جديد.
الأخت
نورينا بتساؤل:
-ما
الخطأ في ذلك، لقد كاد اسمك يندثر وأنت أحييته من جديد بطريقة تليق بالشاب الذي
مرغ أنوف
عائلات
المافيا؟
ثائر
بضيق:
-هذا
سيجعل الجميع يدق الفولاذ لنا.
هزت
نورينا رأسها موافقة وهي تتكئ على السياج بجواره متسائلة:
-أهذا
أفضل أم هجومهم علينا على الفور؟
كاد
ثائر يحطم كوب الشاي الزجاجي بيده وهو يقول:
-ما
كان ليكون هناك هجوم من الأساس لو لم أعد إلى هنا.
نورينا
باستنكار:
-هذا
بيتك؛ هنا ترعرعت وقضيت صباك، هنا بيتك وليس هذا القصر الفاره في مصر.
ثائر:
-بالطبع
هذا بيتي وأنتم إخوتي، لكن كانت لتكون لكم حياة أخرى لو لم أعود.
نورينا
بسخرية:
-عن
أي حياة تتحدث، عن المعسكر المنعزل الذي كاد يموت جوعًا، عن الفتيات اللاتي كدن
يبعن أنفسهن
لأمير
الكريستال وغيره، عن فدريكو وغيره من الرجال الذين تركوا الرفاق للبحث عن حياة
جديدة بدلًا من هذه
الرتابة
والعزلة..
ثم
تحولت لهجتها إلى الحزم وهي تردف مشيرة بسبابتها إلى أرضية سطح المبنى:
-لولا
يقيني أنك قادم لتركت هذا المكان اللعين ينهار ولانتهى كل شيء يخص الوريث الهجين
ورفاق الزقاق.
زفر
ثائر أدخنة التبغ في شرود وهو يقول كأن لم يسمعها:
-لم
أحب مجلس ثمرة الجنة هذا يومًا، مال طائل وثروات لا تُحصى، وأشخاص ملاعين لستُ
حرًا في قتلهم
رغم
ما يفعلوه من أذى، لكن لم أكن لأترك هذا المنصب وأعود لولا رسالتكِ..
بترت
نورينا حديثه بسؤالها:
-لأجل
رسالتي فحسب، ألم تفكر في العودة إلى الرفاق يومًا؟
كانت
مارتينا تصعد الدرج في هذه اللحظات لتقتحم السطح على ثائر ونورينا؛ فهي لا تطيق
الأخيرة رغم
فارق
العمر الكبير بينهما، لكنها توقفت حينما لامس سؤال نورينا أذنها، فتريثت لتستمع
إلى إجابة ثائر الذي
بادر
بقوله:
-كل
يوم كنت أتمنى العودة إلى هنا، حيث رائحة البساطة القذرة، وأحضان مارتينا، وجانب
صديقي فدريكو..
ثم
أضاف ضاحكًا:
-اللعنة
كم كان فدريكو سيحب ثمرة الجنة، فالنساء هناك مطيعات كالدمى، لا يعارضنك في أي
شيء.
بحثت
مارتينا في ملابسها عن سكينها لتُقحمها في فمه اللعين الذي يتلفظ روثًا، لكن كلمات
نورينا شلت بدنها
حينما
قالت:
-مارتينا،
هناك شيء يجب أن تعرفه بشأنها.
اتسعت
عينا مارتينا في شدوه، وهي تدعو في سرها أن لا يسأل ثائر عن ما تقصده، لكنه في
النهاية قال
بقلق:
-ماذا
بشأنها، أهناك مكروه أصابها في غيابي؟
ملّست
نورينا على خده قائلة بصفاء أموي:
-لا
زلت محتفظًا ببعض البراءة يا..
بترت
مارتينا حديثها وهي تقتحم السطح قائلة:
-فلتبعدي
يدكِ عنه أيتها المرأة اللعوب.
ثم
دنت منهم ودفعتها بغلظة وهي تردف بغل:
-تشتاقين
إلى العودة إلى المواخير كما جئتِ، فرائحتك الأصلية قد تضوعت، والشرف لا يليق بكِ.
نزلت
كلماتها كالصواعق على أذن كلًا من ثائر ونورينا، لكن الأخيرة رسمت على وجهها نظرة
من يُمسك
بذلة
على شخصٍ ما، وتبسمت قائلة:
-لستُ
أنا من أتصنع الشرف، أليس كذلك أيتها الأميرة؟
إمتقع
وجه مارتينا وعضت على شفتها في حنق حتى كاد الدم يسيل منها، بينما همت نورينا
بالذهاب موجهة
حديثها
لثائر:
-يجب
أن يخرج الرفاق من هذا المبنى ليُعيدوا السيطرة على باقي الحي ويُقيموا الحواجز،
عليك الخروج لهم
قريبًا.
ثم
غادرت المكان تاركة ثائر كما هو؛ يحرق التبغ في فمه لكن بوتيرة أسرع وأكثر حُرقة.
بينما
مارتينا وجلة القلب تتحاشى النظر إليه، عاجزة عن تجميع الكلمات في فمها.
بعد
مُضي عدة دقائق من الصمت، ألقى ثائر عقب لفافة التبغ قائلًا بنبرة هادئة تسبق
العاصفة:
-ألن
نتحدث اليوم؟
مارتينا
محاولة الهروب:
-لا
يوجد ما نتحدث بشأنه، ربما آتيك حينما تهدأ.
قبض
ثائر على معصمها بقوة وهو يقول بنبرة أسكنت الرجفة في أوصال مارتينا وجعلتها تشعر
ببرد الشتاء:
-لن
يكون هناك مرة أخرى، فلا يوجد بي حيزًا كافيًا لأي ألاعيب درامية لعينة، كل شيء
سينتهي هنا والآن،
أخبريني
ماذا هناك؟
كان
ثائر حاد بطبعه، وقد اعتادت مارتينا ذلك، لكن هذه المرة كانت خائفة حقًا؛ خائفة من
ثورته وغضبه،
خائفة
من عينيه الباردتين، خائفة من نبرة صوته، خائفة من نظرته لها وتعامله معها، فتضرعت
إلى الله
للنجاة،
بل خرجت صلواتها إلى العلن وهي تطلب الغوث.
وقد
كان الرد الإلهي سريعًا في هيئة فدريكو الذي دلف إلى السطح ممتقع الوجه هو الآخر،
يريد أن يُخرج ما
بداخله
من نيران كاترين، فقال:
-ثائر،
أيمكننا الحديث الآن، أم أنك مشغول في أمرٍ ما؟
صرفه
ثائر بقوله:
-فيما
بعد.
أثارت
نبرة صوته حفيظة فدريكو ودهشته، فدقق نظره أكثر ليجد مارتينا تطلب الغوث منه
بعينيها الدامعتين،
وأصابع
ثائر الفولاذي التي تقبض على ذراعها.
فتنحنح
متسائلًا:
-ماذا
هناك؟
بادر
ثائر بإجابة مقتضبة:
-لا
شيء.
في
حين هتفت مارتينا:
-فدريكو،
أرجوك، فلتخبره فقط أن يتركني وشأني.
دنى
فدريكو منهما متسائلًا بتريث ورزانة حتى لا يُثير غضب ثائر أكثر:
-ماذا
هناك يا ثائر، إنها مارتينا، أيًا كان ما حدث فهي تبقى مارتينا.
التفت
ثائر إليه وهو يقول بلهجة اتهام:
-أنت
تعرف ما حدث!!
هز
فدريكو رأسه نفيًا وهو يستميت لتهدئته:
-لا
أعلم شيئًا، لكن سُحقًا يا ثائر لقد كنا نفترش الشوارع سويًا، ألا تتذكر من اعتنى
بك حينما أصابتك
الحمى،
لقد كانت أول ليلة لك في الشارع كما أتذكر؟
جن
جنون ثائر في هذه اللحظة وهو يصرخ:
-تبًا،
ارتكبت فعل شنيع لدرجة أنك تذكرني بالماضي لأتغاضى عنه..
ثم
أفلت مارتينا ودفعها بعيدًا وهو يصيح:
-فلتخبريني
بما حدث بحق الجحيم، أخنتِني مع عدو لي، أسرقتي أموالي في غيابي، سُحقًا ما الذي
حدث؟
ترددت
مارتينا وبدت رجفة قلبها جلية، حتى تدخل فدريكو محاولًا تهدئة الأوضاع قائلًا:
-لا
أعلم شيئًا لا تعلمه، لكن يجب أن تهدأ وتستمع منها أولًا حتى..
((لقد
غبتَ كثيرًا.))
نطقتها
مارتينا وقد فاض دمعها، فالتفت الاثنان إليها وهي تردف:
-كم
من السنوات مرت وأنا أنتظر على هذا السطح المهترئ كعاشقة متيمة تنتظر عشيقها
القادم من
الحرب..
حاولت
منع دمعها لكنه طغى وتجبر كسيلٍ منهمر، فصرخت قائلة:
-لكنه
لم يأتِ أبدًا، سنة اثنين، ثلاثة، عشرة، والعمر يمضي بي وأنت لا تعود أبدًا، ماذا
كنت تريدني أن
أفعل؟
ثائر
وقد استشف ما تقصده:
-من
هو، من هذا الذي خنتني معه؟
هزت
مارتينا رأسها نفيًا، ثم قالت بحدة:
-أنا
لم أخنكَ مع أحد فلستُ بعاهرة تبيع جسدها في الزقاق، لقد تزوجت، تزوجت يا ثائر
وأنجبت ولدًا.
هوت
كلماتها كالصاعقة على مسامع ثائر، فاتسعت عيناه بعدم تصديق، وسوَّل له عقله ارتكاب
جريمة شرف
في
هذه اللحظة.
قرأ
فدريكو ذلك في عينيه، فدنى منه ليُهدئه لكنه لم يدري ماذا يفعل، فاكتفى بنطق اسمه
فحسب، لكن ثائر
رفع
يده المرتعشة، وعروقه تئجُ نارًا وهو يتحسس سلاحه، ثم أمسك يده بصعوبة محاولًا منع
نفسه، ثم جاوز
الاثنين
مغادرًا دون أن ينطق بكلمة.
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة