BlogLabels

القائمة الرئيسية

الصفحات

مائدة الشيطان-الفصل الثالث عشر (محمد بهاء الدين)

 



(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))



مضت برهة من الصمت المميت، سألها بعدها فدريكو بصوتٍ متهتج حزين:

-متى كان هذا؟

 

عضت مارتينا شفتها في سخطٍ على نفسها، ونقم لما فعلته من جُرم، ثم قالت بذات الصوت المنكسر الذي يستقبل صفعات الجميع واتهاماتهم:

-حينما غادَرْتَنا.

 

وكأنه يحتقر الحديث معها، سألها باقتضاب:

-أين الولد، لم أركِ يومًا رفقة صبي؟

 

أشاحت مارتينا بوجهه بعيدًا وهي تُجيب:

-في بيت أبيه، لم أشأ أن أتركه هنا حتى لا يراه ثائر.

 

كأنه لم يسمعها، طعنها بسؤالٍ آخر:

-من الوالد؟

 

((أريوزولا، قائد شرطة نابولي.))

 

شخصت عينا فدريكو وهو يهتف بذهول:

-اللعنة.

 

ثم أمسك بكتفها بغلظة وهو يسألها:

-من يعرف هذا أيضًا؟

 

أمام وطأة ضغطته، تأوهت مارتينا وتخلّفت عن الإجابة، فكرر فدريكو سؤاله بنبرة أكثر غلظة.

 

من خوفها ووجل قلبها لم تُعطه رد، فدفعها بعيدًا كخرقة بالية، وسارع في اللحاق بصديقه وهو يُردد:

-سُحقًا، سُحقًا، سُحقًا.

 

فثائر لن يكتفي بالانزواء والبكاء في ركنٍ مظلم، بل سيعرف من هو الرجل الذي خانته برفقته وسيلاحقه حتى

يظفر به ويقتص لكبريائه وكرامته.

 

لا يجب أن يُعطه أحد جوابًا الآن؛ فقد قُتل المحافظ في إشارة لعودة الوريث الهجين والجميع يُعدون العدة له

الآن؛ أمير الكريستال في الجوار يتربص بهم وربما يكون على تعاون مع قائد شرطة نابولي أريوزولا.

 

سُحقًا؛ لقد تكدس كل شيء فجأة وصار مبعثرًا، سُحقًا للنساء، سُحقًا لكاترين، سُحقًا لمارتينا، سُحقًا ل..

 

بترت نورينا هيامه الساخط على الجميع بقولها:

-ستجده على مقربة من الساحل.

 

فدريكو متسائلًا:

-أهناك من أخبره عن أريوزولا؟

 

هزت نورينا رأسها نفيًا، ثم قالت:

-لا، لكن أنت ستخبره.

 

فدريكو باستنكارٍ للفكرة:

-لماذا أفعل ذلك، أتريدين أن تنشب الحرب مع شرطة نابولي؟

 

دنت نورينا منه بتروٍ، وهي تهمس بخفوت حتى لا تتلقف أذن أي شخص ما تقول:

-ثائر ليس بالشخص الذي يُترك لخياله، سينفجر إن لم يعرف الحقيقة وحينها لن نكسب عداء شرطة نابولي

وحدها، بل سيخوض حربًا مع الجميع حتى مع رفاقه حتى يعرف من الذي دنَّس شرفه.

 

زفر فدريكو بحنق قائلًا:

-أي شرف الذي تدنس، لقد تركها لأكثر من عشرة أعوام، ووطأة العمر تزحف إلى وجهها، أظَنَّ أن هناك

من سينتظر كل هذا؟

 

((ثائر فعل.))

 

فدريكو بدهشة:

-ماذا، ثائر لم يمس امرأة لعشر سنوات؟

 

أومأ نورينا برأسها مؤكدة وهي تقول:

-كان يشاكس مارتينا فحسب، أنت تعلم طباعه، لكنه في الحقيقة لم يفعل شيئًا.

 

فدريكو بعدم تصديق:

-كيف تعرفين ذلك؟

 

دنت نورينا من أذنه أكثر حتى تتأكد أكثر أن كلامها لن يتسرب:

-لقد أخبرني بذلك حينما أطلعني على رغبته في الزواج بمارتينا..

 

ضاقت الدنيا على فدريكو وقد صار الأمر أكثر هولًا ووبالًا، فقد خر وانهدم كل ما كان يُمكن أن يقوله

لثائر، كما خر وانهدم كل ما كان يُريد أن يقوله لكاترين، دائمًا ما يقف عاجزًا حينما يتعلق الأمر بمبارزة

الكلمات، دائمًا ما يفشل في هذه اللعبة الخبيثة، لكن هذه المرة إن فشل قد يُلقي شقيقه الذي يُشَطره ذات

الروح حتفه، بل الأسوأ حينما يلهو الشيطان بعقله ويُسكن في قلبه الشكوك حول رفاقه.

 

استفاق فدريكو من فيض أفكاره على صوت نورينا وهي تتابع:

-لم يكن باستطاعتي تركه للزواج بامرأة متزوجة لها ابن، وإن كانت انفصلت عن أريوزولا لكنها لا زالت

متزوجة به.

 

ضم فدريكو قبضته بغضب، وقد اجتاحه الحزن على الخيانة التي تعرض لها صديقه، فصاح وهو يلكم

الجدار بكل قوته:

-لقد خدعته.

 

ثم كال اللكمات للجدار حتى دمت يداه وهو يردف:

-لم تخبره أو تُخبر أحدًا، استدرجته للزواج بها، هذه اللعينة القذرة.

 

نورينا بصرامة:

-فدريكو، ليس هنا، أنت لا تريد أن تُشهِّر بها أمام الرفاق أليس كذلك؟

 

كاد فدريكو يحطم أسنانه من فرط الغيظ والقهر، لكنه تمالك نفسه وبصق غيظه وإتجه للبحث عن ثائر في

صمت.

 

في حين كانت مارتينا لا زالت على سطح المبنى، تبكي منكسة الرأس، الهدوء المرير يُخيم حولها، والدمع

يغادر عينيها بلا عناء كأنه لن يتوقف أبدًا.

 

حتى تذكرت للمرة الثانية نظرات ثائر الحارقة لها، فصرخت بجنون وتشبثت بخصلاتها حتى نزعت بعضها،

بل لم تكتفِ بذلك؛ فقد نحتت وجهها بأظفارها محاولة الانتقام من نفسها وتشويه وجهها، تُريد أن تعود أعوامًا

إلى الخلف لتقتل نفسها قبل أن تتزوج من هذا الشرطي الطموح.

 

لم يكن ثائر هنا وفقدت الأمل في عودته ثانية، بينما أريوزولا كان هنا نصب عينيها، شاب وسيم ذو ملامح

شريفة وقسماتٍ بريئة.

 

وسوس لها فضولها أن تنبش هذا الشرف والبراءة لتصل إلى أعماقه؛ فلاحقته وأوقعت نفسها في أسره وتفردت

به في السجن حتى أحاطته بخيوطها وجعلت منه عاشقًا لها.

 

في ليلة زواجها تذكرت ثائر، فتبسمت لأجل ذكرى عابرة لن تعود أبدًا كأنه قد فارق الحياة، حتى حينما سألها

أريوزولا عن سبب بكائها، أجابته قائلة:

-لي شقيق تمنيت وجوده اليوم، لكنه فارق الحياة ولن يعود أبدًا.

 

لكنها لم تُخبره أنها أرادت هذا الشقيق ليحل محله، أرادت هذا الشقيق ليكون زوجها، حتى أنها تخيلته ثائر في

هذه الليلة حتى تهضم هذا الزواج.

 

لم تكن مرغمة، بل عاشت بسعادة طوال العشر سنوات مع أريوزولا؛ فلم يُسئ لها يومًا أو يسألها عن

ماضيها، فقط أحبها بإخلاص وأنجب منها ولدًا.

 

حينما علمت أنها حبلى امتقع وجهها وشعرت بقيدٍ يُلف حول عنقها، قيد اللا عودة.

 

لكن حينما ولدت هذا الفتى سمته ثائر تيمنًا بعشقها الأول وملاكها الذي حماها في الصغر وحملها على

ظهره إلى المشفى حينما أصابها المرض.

 

تسول لأجلها وجمع المال لتبقى في المشفى حتى تُشفى تمامًا، لكنه لن يعود أبدًا أو هكذا ظنت.

 

حتى أتى هذا اليوم الذي قابلتها نورينا في أحد زقاق روما حيث تسكن رفقة زوجها، نبهتها نورينا أن لا تعود

إلى نابولي مرة أخرى فثائر عائد قريبًا.

 

وقع الخبر على آذانها كالصاعقة، تائهة لا تدري أي طريقٍ تسلك، لقد أحبت زوجها حقًا كما تُحب أي فتاة

زوجها المخلص لها.

 

لكنها أحبت ثائر حُب الرهبان للآلهة، حب الشرايين للدماء، حُب الطائر لجناحيه.

 

لم تجد ما تفعله حينها سوى التخلي عن زوجها وطفلها لأجل العودة إلى ثائر على أمل أن يندثر كل شيء

ويبقى طي الكتمان.

 

لكن هذه اللعينة نورينا أفسدت كل شيء، أجل هذه اللعينة نورينا هي من جعلت منها خائنة لعينة.

 

هذه العاهرة هي من أوقعت بينها وبين سجنها الذي تمنت أن تُأسر به للأبد.

 

دون أن تشعر، تلبّسها الشيطان وساقتها قدماها عبر الدرج.

 

وجدت نورينا تقف هناك تراقب فدريكو بينما يُسرع للحاق بثائر.

 

تمهلت مارتينا حتى غاب وقع خطوات فدريكو، ثم ضاقت عيناها وسكن جمود الشر وجهها وهي تنسدل من

طرفٍ خفي لتدفع نورينا بكل قوتها صوب الجدار، كانت صدمة الجدار عاتية بالنسبة لامرأة شارفت على

نهاية الخمسين من عمرها، فارتجت رأسها وسقطت أرضًا وهي تنتحب.

 

لكن مارتينا أرادت إخراسها هذه المرة وإلى الأبد، فأمسكت برأسها وقد تلاقت عيناهما للمرة الأخيرة، ثم رفعت

رأسها وهوت بها أرضًا بكل قوتها وهي تصرخ:

-أصمتي.

 

ثم كررت الضربات وهي تُردد بجنون:

-أصمتي، أصمتي، أصمتي.

 

تشبثت نورينا بيدها محاولة التملص، وحاول لسانها النطق ببعض الكلمات الخافتة التي جعلت مارتينا تستفق

أخيرًا وتُدرك هول فعلتها.

 

لكن الأوان قد فات؛ فالدماء تتدفق كالثعابين، يداها باتت ملوثتين بالدنس، روحها صارت ملعونة كهبيل

حينما قتل أخاه.

 

لا عودة لها الآن، الخطوات تقترب منها، فلم تجد سوى النهوض والدهس على دماء نورينا للهروب.

 

اجتاح القلق كل من صادفها وظن أن مكروه أصابها، لكنها كانت تُردد دائمًا بوجوم:

-نورينا، فليُنقذ أحدكم نورينا.

 

هكذا هرع الجميع إلى جثة نورينا، بينما أُفسح طريق الفرار على مصرعيه لمارتينا التي وأدت كل أمل كان

من الممكن أن يطفو.

 

جريمة نكراء بشعة ستصير وصمًا لها إلى الأبد، ليس من ثائر وحده، بل الجميع، الجميع سيسعى خلفها بعد

أن قتلت أمهم الروحية التي عوضت الأطفال المشردين عن الأم من الدم.

        ***

تعليقات