(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
ألح
هاتف ثائر بالكثير من الرنين لكنه أبى الرد؛ فقد كان يقود سيارته بمحازاة الشاطئ
بلا هدف، فقط
يضغط
على دواسة الوقود، بينما عقله في وديان أخرى؛ لا زال لا يعلم ما الجُرم الذي
إرتكبته مارتينا في
حقه،
ولا يوجد ما هو أسوء من عقل تُرك لتخميناته، فصار تُربة خصبة للشيطان ليعبث به.
لكم
عجلة القيادة وهو يحرق التبغ كقطار منفلت يسير بلا وجهة، هتف بسخط:
-تبًأ،
أعدتُ لأفسد كل شيء، سُحقًا لي، وسُحقًا لثمرة الجنة؛ هي من انتشلتني من بين
رفاقي، هي الشيطان
الذي
يجب أن يُلعن من السماء.
تفتت
عقب لفافة التبغ بين أسنانه، وسقطت اللفافة المشتعلة على سرواله ليتسفيق من غفلته.
أمسك
لفافة التبغ وألقاها غير مبالٍ بحرارتها، لكنه انتبه إلى ساحل نابولي وغناء
الأمواج الذي يناديه من
بعيد،
ومعها تذكر شيئًا لاقاه في مكتب المحافظ؛ آسيا، السكرتارية التي أدارت أعمال
أنطونيو كونتي.
أوقف
سيارته ودلف منها ينطاحه عقله؛ أستذهب إليها بهذه السرعة، أهذه الوسيلة الوحيدة
لتنسى همومك،
إنها
القائمة بأعمال كونتي القذرة!!، ولا بد أن من حول هذا الوغد قذر مثله، هذه المرأة
ملوثة بالتأكيد، لكن
سُحقًا
مَن مِن أهل الأرض خالي من الدنس؟
سأل
عنها في مكتب الحرس المخصص لتأمين هذا المجمع السكني الفاره، وتعجب من أن مجرد
موظفة
تمتلك
منزلًا ساحليًا في مكانٍ كهذا، وأين، في نابولي حيث الفقر المدقع!!
لكنه
لم يتعجب؛ فالقائمة على أعمال شخص قذر كالمحافظ أنطونيو كونتي لابد أنه حصّل ثروة
طائلة لبيع
صمته.
أعطت
آسيا الإذن بدخول ثائر لحراس المجمع السكني، فأزاحوا الحواجز عن طريق سيارته.
دارت
عينا ثائر بين أرقام المنازل حتى وصل إلى الصف الأخير حيث السكون التام والعُزلة
التي لا يبددها
صوت.
أوقف
ثائر سيارته في منتصف الطريق دون أن يراعي إعاقته للطريق العام، هبط منها على عجل
وصك
الباب
خلفه بقوة.
طرق
الباب على عجل وتلهف حتى كاد يُهشمه لغضبه المكبوت وحزنه الجارف.
وجدها
تطل من الداخل، بزي أحمر من الخيوط المشبكة التي لا تستر شيئًا، بل تشد الخناق على
جسدها
حتى
تكاد تنفجر عنه.
لم
يكبح نفسه أو يتكلف أي لباقة؛ بل دفع جسدها المرمر بقوة للداخل، ومزق عنها الخيوط
بكل عنف دون
أن
تمنعه أو تستجير بأحد، حتى دنى بيده إلى ما بين فخذيها فسارعت باغلاق سيقانها
ونظرت إليه بتوسل
ليرحمها،
لكنه قبض على هذه الرقعة الناعمة التي تعلو ثمرتها، واعتصرها بأصابعه حتى تأوهت
ألما
وباعدت
بين فخذيها غصبًا، فأقحم يده بقسوة، واستمر في تعذيبها حتى ارتعشت بين يديه كأنها
على وشك
الانهيار،
فجعلها تركع أمامه وآتها من الخلف كما يفعل مع أي بائعة هوى رخيصة الثمن.
مزقها
كل ممزق، ولم يرحم منها جزءًا، فتأوهت وصرخت لكنها لم تمنعه بل تركته يتمادى في
طغيانه حتى
سحقها
سحقًا.
كان
الظلام شبه حالك عدى من القليل من الضوء، ولم يكن ثائر مهتمًا بشيء آخر في هذه
اللحظة.
هدأت
ثائرته قليلًا وهو لا زال يحتضنها من ظهرها مفترشًا الأرض.
بهدوء
تحسست يده متسائلة بصوتٍ عذب، استمع له ثائر من قبل لكن يكاد يُقسم أنها المرة
الأولى التي
يلامس
هذا الصوت آذانه:
-أتريد
البعض من النبيذ؟
صمت
ثائر برهة، ثم طبع قُبلة عميقة في مؤخرة عنقها ليجعلها ترتعش كأن مسًا كهربائيًا
أصابها، ثم أفلتها
لتنهض
عارية مُمزقة تمامًا.
دخلت
إلى غرفتها لترتدي قميصًا، ثم عادت إلى المطبخ أمريكي الطراز وأخرجت قنينة النبيذ
من الثلاجة،
في
حين أشعل ثائر لفافة التبغ ولحق بها.
جلس
ثائر على المقعد المقابل لها في الجهة الأخرى من المنضدة المزخرفة، في حين وضعت
آسيا كأس
أمامه
وأضافت له كُرة من الثلج.
ثم
صبت النبيذ بطريقة احترافية بعد أن خلطته بمشروباتٍ أخرى، وهي تقول بلهجة تخص
ساقية في حانة:
-أجود
مشروباتنا يا سيدي.
رسم
ثائر شبح إبتسامة على وجهه وهو لا يكاد يراها بل يخاطبها متخيلًا ملامح الموظفة في
مكتب المحافظ.
تجرع
كأسه دفعة واحده، ثم وضعه على البار لتصب له آخر وهي تقول بصوتٍ هادئ كخرير الماء:
-تعلم
أن وظيفة الساقي لا تقتصر على خلط المشروبات وصبها فقط..
ثم
دنت منه باسمة ليفوح عطرها الذي خضب جسده بالكامل، وهمست بخبثٍ مرح:
-بل
نحن آذان نتجسس على الجميع في الحانة، وأحيانًا يتحدث لنا الآخرين من باب الفضفضة
وإزاحة ثقل
الهموم
عن صدورهم.
رشف
ثائر من كأسه ثم تساءل:
-أستظل
هذه الإضاءة الخافتة للأبد، أكاد أُصاب بالعمى.
صفقت
آسيا بيدها قائلة:
-ليكسي
الإضاءة الكاملة.
تعجب
ثائر من وجود موظفة تمتلك منزلًا ذي نظام آلي بالكامل في نابولي، وإزداد تعجبه
أكثر حينما رآها،
ثلاثينية،
ترتدي قميصًا من الفراء، لها شعر كستنائي ينسدل على جانب وجهها الأيمن، وأعين
رمادية أقرب
ما
تكون إلى الفضة، حاجبين مستديران كستنائيان اللون، وبشرة ناصعة البياض تتخلها أعين
واسعة ساحرة،
وشفاه
دقيقة منتفخة من المنتصف، ذاق ثائر طعم كرزها.
رشف
ثائر من كأسه ثم قال ساخرًا:
-لم
تكوني ترتدين هذا الفراء النفيس حينما أتيت.
داعبت
آسياه حاجبها الأيمن قائلة بذات التهكم:
-لأنك
مزقت الآخر.
هز
ثائر رأسه موافقًا، ثم قال:
-على
ماذا يحتوي هذا الشراب من السموم، الزرنيخ؟
آسيا
بإستنكار:
-لمَ
أسممك؟
ثائر
بعدم اكتراث:
-خيبتِ
آمالي؛ كنت أظن أن القائمة بالأعمال القذرة لكونتي ستسممني انتقامًا له.
صبّت
آسيا كأسًا لها وإتخذت مقعدًا على مقعد البار جواره قائلة:
-عرفت
كل شيء حينما جعلتني أمضي على الأوراق أيها الوريث الهجين، سحرتني خُطتك العبقرية
وجعلتني
ذائبة
بك طوال الليل؛ حصلت على كل شيء ونفّذت انتقامك، صارت نابولي بأكملها لك الآن؛
ضربت تجارة
أمير
الكريستال بلملمتك للمدمنين وإرسالهم لمواقع العمل، واكتسبت الشعبية الساحقة التي
ستُعيدك للواجهة من
جديد..
ثم
رشفت من كأسها وأردفت:
-وقتلك
لكونتي كان بمثابة ناقوس الخطر للجميع؛ فقد عاد الوريث الهجين وعلى الجرذان أن
تهرع إلى
المجارير
ولا تبادر بالهجوم.
لاحظ
ثائر حاجبها الأيسر المرتفع على الدوام ليُظهر حذاقتها أثناء حديثها وقد حللت كل
شيء بالفعل.
فتبسم
قائلًا:
-كنتُ
محقًا حينما أدركت أن هذا الوغد لم يعد المتحكم في شيء مما يحدث في الخفاء.
آسيا
بزهو:
-ولم
يكن، لقد أخبرني كل شيء عنك منذ حطت قدمك بنابولي..
ثم
أنهت شرابها وأردفت:
-جعلته
يُرسل رجال الشرطة لجس نبضك، ومن قراءة سجلك أدركت كم أنت تواق للانتقام، بل أنت
عرَّاب
الانتقام،
لهذا فتحت قناة اتصال مبكرة لك معه.
أصدر
ثائر صفيرًا متعجبًا، ثم التفت لها متسائلًا بطريقته المتهكمة:
-وماذا
تتمنين من الشيطان لتسدين له مثل هذه الخدمات، فلتتمني يا عاهرتي الصغيرة؟
أصدرت
آسيا قهقهة خافتة، ثم صمتت برهة لتصوغ كلماته قبل أن تقول:
-رئاسة
وزراء ايطاليا.
برقت
عينا ثائر بوميض الذئاب المتعجب لهذا الطموح الجارف، وسألها ضاحكًا بسخرية:
-لا
حزب لديكِ ولا شريحة جماهيرية، لا يعرفكِ أحد، ما الذي سيجعل هؤلاء العجائز
الهرمين في المجالس
النيابية
يراهنون عليكِ؟
آسيا
بلهجتها المتحدية الواثقة التي تُثبت أنها أعدت كل شيء مسبقًا:
-ألا
تُريد أن يكون لك ذراعًا تقود البلاد، كما أنك لا يُمكنك أن تكون رئيسًا لنسبك
المختلط فلست ايطاليا
كامل.
تبسم
ثائر قائلًا:
-إن
كنت سأختار ذراعًا فيُفضل أن تكون ذراعًا صماء لا تُفكر، بل مجردة من الطموح؛
فالأشخاص
الطموحين
يأتون بالخيانة عند أول بريق يُعلي من شأنهم.
آسيا
باستماتة:
-ماذا
تريد أيضًا، لقد أعطيتك كونتي لتحقق انتقامك، ومضيت على أوراق تضمن لك شعبية جارفة
في
نابولي،
وقد عبثت بجسدي منذ لحظات، ماذا تريد أيضًا؟
قبض
ثائر على نهدها، وجرها صوبه بعنف لتكون نصب عينيها تمامًا وهو يقول بملامح شرهة
جنونية
تخص
شيطانًا حقيقيًا لا شخص من الإنس:
-لم
تُعطني شيئًا يا فتاة، لو عاد بكِ الزمن لتغلقي هذا الباب، لحطمته وأحرقتكِ أنتِ
وكونتي وإيطاليا جمعاء
إن
أردت.
لم
تقاومه، بل انجرفت له في خضوع كحية ناعمة تلف ذيلها بنعومة لتفتك بفريستها، وقالت
بعذوبة:
-كنت
لتفعل، تاريخك يشهد لك بهذا..
ثم
طرفت بأحدابها الطويلة نسبيًا مردفة:
-ولا
أظن أن من هو قادر على أن يفتك بدولة كاملة بعاجز عن الفتك بفتاة خرقاء إن مزقت
الطوق وأشهرت
العصيان.
شعر
ثائر بخضوعها وانكسارها بين يديه، بل أيقن من قدرته على تحطيمها في أي وقتٍ شاء، وهذا
ما جعله
يرتاب
منها ويتشكك بها، فقد نجحت في لي عقله بلحظات، هذه الفتاة خطرة بالتأكيد، لكنها
مثيرة حقًا؛ تُشبع
غريزته
في الهيمنة وإذلال البشر، فقهقه بصخب، ثم جرّها نحوه بغلظة ليطبع قُبلته الغاشمة
على شفتيها كأنه
يمتص
دماءها ويستقي من روحها.
ثم
أفلتها قائلًا:
-لكِ
هذا؛ سأجعل منكِ محافظة نابولي القادمة، من الغد سيلمع نجمكِ وتشرق شمسك ويعرفكِ
كل شخص
بنابولي.
شعرت
بالحرارة فأرخت قميصها قليلًا، ثم قالت لاهثة من أثر قُبلته العاتية:
-لديَّ
الخُطة الكاملة، أريدك فقط بجانبي.
دوى
ارتعاش هاتفه مجددًا، فأخرجه بنفور ليجد إتصالًا واردًا من مارتينا، تبسم بظفر؛
فسيحرقها بهذه الفتاة
بجانبه.
أجابها
قاصدًا قهرها، لكنه سبقته بصوتها الباكي:
-لم
أقصد قتلها أقسم لك.
لم
يفهم ثائر ما تقصده، فصمت تاركًا لها المجال للحديث وقد أضافت:
-لقد
تملكني شيطان الغضب منها؛ فهي سبب هجرانك لي؛ فلمَ تُخبرك بشيء من الماضي، لمَ
تُشعل هذه
الفتنة
بيننا من الأساس؟
ثائر
بنفاد صبر:
-عن
ماذا تتحدثين؟
أدركت
مارتينا أن النبأ لم يصله بعد، فتمهلت لحظات في تردد ليصيح بها في غيظ:
-فلتنطقي
الكلمات اللعينة.
أجابته
مارتينا وقد فاض بكاء انهيارها:
-لقد
قتلت نورينا يا ثائر..
عند
هذه الجمل غابت حواس ثائر، وجحظت عيناه في ذهول غير مصدق لما سمع.
إنفلت
الهاتف من بين أصابعه لتصدر منه نداءات مارتينا المستغيثة وهي تقول:
-ثائر
أرجوك لم أكن أقصد، ثائر نحن رفاق طفولة، لقد نمنا معًا في الشارع، أرجوك.
دون
أن يلتقطه ثائر، هرع على سيارته متجاهلًا تساؤلات آسيا وطلبها مرافقته، لكنه كان
مغيبًا عن الواقع
كأن
عقله قد غط في ثباتٍ عميق.
فتخلّفت
آسيا عنه والتقطت هاتفه وقد أدركت ما أراده ثائر من نظرات الظفر على وجهه حينما
أجاب على
الاتصال،
فقالت بهدوء متصنعة البراءة:
-أعتذر
منكِ عزيزتي مارتينا، فثائر ترك هاتفه معي لأجل بعض الأعمال وذهب للتحقق مما
قُلتِه.
مارتينا
بعدم تصديق أن ثائر هشم كل ما كان بينهما منذ كانوا أطفالًا في ليلة واحدة، بل لم
تمضِ هذه الليلة
فلا
يصح تسميتها بالليلة الواحدة:
-من
أنتِ؟
آسيا
باستفزاز:
-ألم
يُخبركِ ثائر عني، كيف نسي، لا بد أن مفعولي كان قويًا فأذهب عنه ذاكرته.
أتبعت
آسيا جملتها بضحكات رقيعة تخص راقصة في ماخور، لتجعل نيران مارتينا تتأجج أكثر
فأكثر،
فهتفت
بغيظ:
-فلتذهبوا
للجحيم سويًا أيتها الحقيرة، لم يعد يهمني الأمر.
آسيا
ضاحكة:
-بالطبع
يهمكِ يا فتاة، فلا تُرسَل سيارة إلى مكب الخردة إلا لو كان من أرسلها سيارة أخرى
أرفع طرازًا وأهم
شأنًا.
ثم
أنهت الاتصال بعد جملتها الأخيرة، لتجعل مارتينا تُهشم هاتفها في سخط وحقد كفيل
بأن يأتي بسواده على
الأرض
ومن عليها.
وتابعت
طريقها صوب روما، حيث يوجد الفارس الوحيد الذي تستطيع أن تلجأ إليه في ظل تربص
ثائر
والرفاق
بها لقتلها نورينا.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة