(((لقراءة الفصول السابقة اضغط هنا)))
تخطت
الساعة منتصف الليل بساعتين، ولا زالت هذه الممرضة في ورديتها.
لا
زالت محتفظة بلفافة التبغ التي ناولها لها ثائر، تنتظر أن يعود إليها فلم تكن
بسمته لها بالبريئة إطلاقًا.
لكنه
لم يأتِ لها، فتسربت لها خيبة الأمل مع كل دقيقة مرت، حتى زفرت بحنق متهمة نفسها
بالحماقة؛ فقد
كانت
برفقته فتاة جميلة بالفعل.
بدا
أن خلافًا نشب بينها وطردته بمجرد استيقاظها، فظنت هذه الممرضة أن فرصها لازالت
وفيرة أمام هذا
الرجل
الأشقر الوسيم.
في
خيالها ترى هذا الوسيم يعود إليها ويتحدثان معًا، من شدة توتره يهم في إشعال لفافة
تبغ لكنها تسبقه
باللفافة
التي ناولها لها.
فينبهر
بشدة أنها لا زالت محتفظة بها، وهكذا تكون قد صادت الرجل الوسيم بأقل مجهود، لكنه
غاب كثيرًا
ولم
يعُد.
أخرجت
لفافة التبغ ورمقتها بنظرة حسرة، ثم ألقتها في سلة المهملات بعد أن سبّت نفسها
لأجل هذه
الحماقات.
إنقطعت
الكهرباء عن الدور السُفلي وهذا لم يكن بالشيء الجديد، فالمولد به عُطل منذ عدة
أيام، لكن الغريب
أن
شركة الإصلاحات لم تُنجز عملها حتى الآن.
بل
الصمت التام بعد صخب الحفر وتبديل الأسلاك كان أكثر ريبة، لكنها لم تكترث؛ فلا زالت
الكهرباء تعمل
في
هذا الدور ولم يكلفها أحد بالإشراف على رجال الصيانة.
بدأت
رعشة المصابيح ترداد هذا الدور أيضًا، فمالت إلى موظفة الاستقبال قائلة:
-فلتتصلي
بأحدٍ من الإدارة ليرسل من يتفقد ما يحدث بالأسفل.
هزت
الموظفة رأسها بقلة حيلة وهي تُجيب:
-يبدو
أن أسلاك الاتصال قُطعت أيضًا أثناء الحف..
بترت
عبارتها حينما رأت رجل الأمن العجوز هذا يتلعثم في الركض محاولًا النجاة من شيءٍ
ما.
شخصت
عينا الاثنتين في رعب، وما لبث الرجل أن صعد قائلًا:
-النجد..
طرفٌ
مدبب إخترق رأسه من الخلف وانتشلها بعنف لتتطاير الدماء من بقايا منابت رقبته.
صرخت
الفتاتين في رعبٍ وهلع وإزداد خوفهما من عينا الرجل التي لا زالت جاحظة رغم إقتلاع
رأسه من
مكانها.
في
حين برزت ماريا على وقع أضواء المصباح المرتعش، ثوبها ملطخ بدماء العشرات ممن
قتلتهم بالأسفل
تحت
عباءة الظلام.
تقدمت
صوب الفتاتين بخطواتٍ بطيئة، تجر سلاحها الثقيل الذي يحتوي على جمجمتين أخرتين في
بروزه.
في
مشهد جعل موظفة الإستقبل يُغشى عليها، فحاولت الممرضة إنعاشتها وناشدتها حتى
تستفيق لكنها لم
تتلقَ
أي رد.
قلم
تجد سوى سؤال ماريا بأعين باكية:
-من
أنتِ، لمَ تفعلين هذا؟
تمهلت
ماريا في مشيتها، وانهمكت قليلًا في التفكير قبل أن تجيب ببرود:
-لأجلكِ
أنتِ.
شخصت
عينا الممرضة، وخارت أعصابها وهي تُصارع إغماء الخوف هي الأخرى، لكن بصيص من
النجاة
لاح
لها في الأفق؛ فماريا تجر سلاحها بصعوبة، إن ركضت ستسبقها وتهرب بالتأكيد.
فأفلتت
موظفة الاستقبال وراحت تهرول بخطواتٍ هائمة متخبطة.
لكنها
بالتأكيد أسرع من ماريا التي تُلاحقها تجر سلاحًا ثقيلًا زاد من ثقله الجماجم التي
شكلت دماؤها خطًا
أحمر
اللون شديد القتامة خلفها.
رأت
الدرج الذي يؤدي للأسفل، فتبسمت من وسط دموعها في غفلة عن شيء هام؛ كيف إستطاعت
ماريا
الظفر
بجميع من بالأسفل رغم بُطء حركتها؟
لكن
الإجابة كانت سريعة؛ في هيئة ذئبين يكادا لا يُرى من شدة الظلام.
أصدرا
زمجرة خافتة متوعدة بالانقضاض، فتيبست قدم الممرضة في مكانها واستدارت لتعود
أدراجها وتواجه
ماريا.
وما
إن استدارت حتى شعرت بالبرونز يُحطم جمجمتها وقد تخللت البروز الدامية كلتا عينيها
وجبهتيها
وأُقتلعت
الرأس من مكانها بكل بعنف.
حتى
أن ماريا سقطت أرضًا من ثقل سلاحها وشدة ضربتها بالإضافة إلى كعب حذائها العالي.
إنقض
الذئبين على جثة الممرضة ليلتهمانها كما فعلو مع عديد الجثث بالأسفل.
في
حين تأوهت ماريا من شدة السقوط، وإستندت على هذا السيف البرونزي الثقيل متمتمة:
-يجب
أن أتدرب بالتأكيد.
فور
نهوضها هبطت للدور السُفلي لتهرق الوقود به، ثم في بقية أدوار المشفى تباعا التي
لازالت مكتظة
بالمرضى.
فقد
منع الظلام الجميع من الهبوط إلى الدور السفلي، ولم يوجد بهذه المشفى الكثير من
الكادر الطبي
والأمني.
إلتقطت
أعين أحد المرضى جسدها المفعم بالدماء، فتساءل بوهن اثر تعبه:
-من
هناك؟
توقفت
ماريا، ثم عادت إليه ملوحة بيدها ذات القفاز الجلدي قائلة بمرح:
-تذكرتك
إلى الجنة حيث الراحة الأبدية ياجدي.
لم
تُلاحظ ماريا جنونها أو استمتاعها بالأمر، كأن الأمر في جيناتها منذ الصغر، لكن
الغل كان المغذي
الرئيسي
لقوة ضرباتها.
غلها
من هؤلاء الذين حاولوا اغتصابها، ومن هؤلاء الذين يحاولون اغتصاب أملاكها، ومن
هؤلاء الذين
استخفوا
بها، ومن هؤلاء الذين لم يروها فتاة ناضجة بل طفلة مدللة تستحق الرعاية ولا تستطيع
تولي الأمور
بنفسها.
ببساطة
غلها من جميع من حولها كان وقودها الذي أحرقت به هذا المشفى بالكامل.
راقبتها
من بعيد بينما صرخات مرضاها وبقية كادر عملها تعلو، فتبسمت من أسفل قناعها، ثم ولت
ظهرها لهم، تجر سلاحها المزدان بالرؤوس الفزعة.
وذئبيها
اللذان يحفانها يمينًا ويسارًا ولا زالت الدماء تسيل مختلطة بلعابهم من الصيد
الوفير الذي نالاه هذه الليلة.
***
تركت
المياة تملأ حوض استحمامها وقد نزعت القناع عن وجهها النظيف على عكس جسدها.
ثم
نزعت ملابسها كأنها جزار ينزع مريلته الملطخة بدم ذبيحته، ولازال جسدها مخضبًا
بالأحمر.
ألقت
بجسدها في حوض المياه ليتلون ماءه إلى الأحمر، فأوقفت صرف المياه حتى يبقى الأحمر
لأكثر فترة
ممكنة.
أغلقت
عينيها في استرخاء وسط الدماء الطازجة التي لم تتجلط بعد.
أنهت
استرخاءها، فتركت جسدها يغوص في المياه المختلطة بالدم.
ثم
نهضت تنسدل على جسدها القطرات الحمراء خفيفة اللون.
جففت
جسدها عندما استمعت إلى هذه الطرقات العجولة على باب فيلتها.
فارتدت
الفراء الفخر، ثم ألقت نظرة خاطفة على من بالخارج من خلال كاميرا المراقبة.
فتحت
الباب ليدلف أحمد على عجل وهو يقول بأنفاسٍ لاهثة:
-هذا
الوغد خالد.
تبسمت
ماريا بهدوء وهي تعود إلى الداخل، فلاحظ أحمد أن هذه هي المرة الأولى التي يرى بها
ماريا في هذا
التبرج.
فلم
تخرج يومًا من دورة المياه في وجوده إلا وأنهت تجفيف جسدها، وإرتدت ملابسها
الفضفاضة، لكن الآن
تقابله
وشعرها لا زال مبتلًا وصدرها شبه عارٍ، وأفخاذها بادية الوضوح.
مهلًا
أهذا وشم على رقبتها أم يُهيأ له؛ فلم يكونا إلا يومين منذ رآها آخر مرة في هذا
المجلس.
أحضرت
ماريا كأسين وقنينة من المياه الغازية ووضعتهم أمامها على المنضدة.
صبت
الأولى لأحمد والثانية لها، فتلقف أحمد كوبه قائلًا بحنين:
-الفتاة
تُشبه أباها حقًا.
ماريا
بابتسامة مبهمة:
-أكثر
مما تظن.
نطقتها
ماريا وهي على يقين أنها صارت نُسخة مطابقة لوالدها ريان؛ مجنونة متوحشة سفاكة
للدماء.
لكن
ما لم تفهمه أن ريان لم يكن يفعل ذلك إلا للضرورة القسوة في دلالة على امتعاضه
للأمر، لكنها
استمتعت
بكل قطرة دم سفكتها.
أهذا
لأجل دماء والدتها التي تزاحم والدها في جيناتها، أكانت والدتها سفاحة أو شيء من
هذا القبيل؟
لا
تعلم ولم يُخبرها أحد شيئًا، عنها كأنها محض جرثومة ستصيب الجميع بالمرض إن ذكروا
سيرتها.
تعجب
أحمد من عدم تلهفها لمعرفة ما أقدم عليه خالد، لكنه قال بنبرة قلقة:
-أراد
أن يزور تقريرًا من الممرضة التي أشرفت عليكِ أنكِ زرت المشفى نتيجة تعاطيكِ لعقار
من نوع ما.
ماريا
باهتمامٍ ساخر:
-هل
حصل عليه؟
للمرة
الثانية تعجب أحمد من هدوئها المبالغ به، أجل كانت هادئة في آخر مرة تقابلًا معًا
في مجلس الإدارة،
لكن
أمام هذا الخبر كان من المفترض أن تهلع وتصاب بالذعر.
في
حين كررت ماريا سؤالها:
-هل
حصل عليه؟
هز
أحمد رأسه نفيًا وهو يقول:
-أعدّته
الممرضة بالفعل، لكن في طريقه للمشفى وجد ألسنة اللهب تلتهمها من بعيد.
بسطت
ماريا يدها قائلة بمزاح:
-أشكرك
يا إلهي.
هدوئها
وثقتها جعلا أحمد يشعر أنها خلف هذا الأمر بطريقة ما، لكن ما الذي ستُقدم عليه هذه
الفتاة وحدها.
خطر
على باله أمرٌ أثار قشعريرته، فسألها:
-أين
هذين الوحشين؟
ضحكت
ماريا من قلقه، ثم أشارت إلى الشاطئ مجيبة:
-نائمان
بعد وجبة دسمة قد لا يأكلان بعدها أيامًا.
هز
أحمد رأسه بعدم اقتناع قائلًا:
-هذان
ليسا كلبين تروضيهما ولا قطة تهيم بمنزلك، إنهم من الضواري المقتاتة على اللحوم،
قد تغدر بكِ في
أي
لحظة..
بترت
ماريا عبارته قائلة:
-تعلم
أن الذئب ان ماتت زوجته لا يتزوج أخرى.
رفع
أحمد كتفيه كأنه يقول ماذا في ذلك، فأردفت ماريا:
-كل
خنزير في المجلس يتخذ أكثر من زوجة ويخونهن مع أخريات، ألا تجد زيارتهم لجناح
فرميت عجيبًا
رغم
كونهم رجال متزوجون؟
ظل
أحمد محتفظًا بتعابير عدم الاقتناع وهو يقول:
-لكن
إن جاعت الذئاب ستجعل منكِ طعامها.
ضحكت
ماريا قائلة:
-لا
تقلق؛ فلن تُقدم هذه الجراء على أذيتي ولو ماتت جوعًا.
أحمد:
-لماذا؟
بسطت
ماريا كفيها باستعراضٍ مجيبة:
-لأنني
من أُمسك بالسوط، أنا المتحكمة بالجميع.
ثم
تنبهت إلى شيءٍ أرَّقها، فسألته:
-كيف
تعلم كل هذه الأمور عن خالد؟
لم
يتعجب أحمد من ماريا التي تشك في ولائه الآن؛ فقد حدث الكثير بالفعل كأنها مُحيت
تمامًا وحل محلها
شخصٌ
آخر.
شخص
يعرفه جيدًا، ارتكب برفقته المجازر الوحشية وأحبه أكثر من نفسه، لكنه كان قلقًا؛
فقد انتهى الأمر
بهذا
الشخص ليحاربه العالم أجمع.
تنهد
أحمد بهدوء، ثم وضع يده في جيب سترته ليُخرج هاتفه ويضعه على سطح المنضدة مجيبًا:
-ستجدين
هنا الكثير من الرسائل النصية الراغبة في تغير موقفي في المجلس.
أمسكت
ماريا هاتفه لتتفحصه، بينما تابع أحمد:
-القطب
الأوحد في المجلس الآن متمثل في خالد؛ هذا الشاب الذي يضع عليه الجميع رهانهم..
جالت
ماريا بعينيها بين الكثير من الأسطر المستميلة والمتوعدة، للحيلولة بين أحمد ودعمه
لماريا.
أثار
الأمر حنقها وضجرها لرؤية الجميع أن أحمد هو الحجر الوحيد المنتصب في بنائها
المتهالك، فألقت
هاتف
أحمد على سطح الطاولة وهي تقول:
-لماذا
لم تلتحق بهم بدلًا من الرهان على حصانٍ خاسر؟
أحمد
بامتعاض:
-هل
جُننتِ، أم نسيتِ من أنا وماذا أمثل لكِ، ألم أعد بالنسبة لكِ أي شيء؟
أشاحت
ماريا بوجهها بعيدًا، وهمت واقفة وولت له ظهرها لتخفي أمارات الغيظ والسخط، بينما
تبعها أحمد
متسائلًا:
-ما
الخطأ الذي اقترفته أخبريني ولا تتركيني هائمًا؟
صاحت
ماريا فجأة:
-لم
أعد تلك الطفلة الوضيعة التي تستحق العناية، لقد فهم ثائر ذلك، لماذا لم تفهم أنت؟
أدرك
أحمد ما يدور في خلد ماريا من رغبة مُلحة في إثبات الذات كما حدث لوالدها حينما
ترك جانب جدها
ليُنشئ
كيانه الخاص، وقد فعل ذلك واستقل بنفسه في العشرين من عمره مثلها بالضبط، لكنه
تخبط لعدة
سنوات
كقاربٍ بالٍ تصفعه الأمواج.
كان
قلقًا عليها، كما كان قلقًا أن يُخيب ظن صديقه به وتفقد ماريا إرث ريان في ظل
وصايته، لكنه لم يجد
سوى
الإذعان لها قائلًا:
-ان
كان صمتي في المجلس هو ما سيريحك، سأفعل ذلك، لكن إياكِ أن تخسري إرث والدك ولو
أُضطررتِ
لبذل
آخر قطرة من دمك.
أجابته
ماريا وهي تنظر إلى المفكرة السوداء:
-أنوي
أن أفعل ذلك، لكن قبل أن تذهب أخبرني كيف علمت بشأن خُطة خالد، فلا أظنه بالسذاجة
الكافية
لإطلاعك
على خطوته القادمة لتسربها لي على طبق من فضة؟
تناول
أحمد هاتفه قائلًا بحزم:
-هذا
لم يعد من شأنكِ، فلتديري أموركِ بنفسك.
تبسمت
ماريا وهي تراقبه بطرف عينيها، يذهب صاحبًا باب فيلاها خلفه.
فإتجهت
بهدوء لترتدي ثيابها، ثم تناولت مفكرة والدها مع مصباحٍ كهربائي لتغوص في عقله
أكثر في هذه
الليلة
شديدة السواد.
***
مواعيد النشر: السبت
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك في هذه التجربة